حق البصر
"وأما حق بصرك، فغضّه عما لا يحل لك، وترك ابتذاله، إلا لموضع عِبرة، تستقبل بها بصرا، وتستفيد بها علما، فان البصر باب الاعتبار"
العين؛ هذه الجارحة العجيبة التي تتصرف كأنها كائن مستقل قائم بذاته. فهي تضطرب وتهدأ وتسكن (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ)، وتتأثر فتحزن فتفيض تعبيرا حارقا (تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ)، ويتلألأ فيها نور الحق فتنسكب نجوما زاهرات (تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ)، وقد توصد أبوابها وتستمرئ العمى والظلام الدامس فتنتفي وظيفتها (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي) (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا).
العين تخون وتحتقر وتدور ويتغير لونها وتشعر باللذة أيضا (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)، ( وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرا ) (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْت)، (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ)، (ٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ).
العين مرآة المشاعر والانفعالات الداخلية، وهي أيضا باب يفتح للإنسان آفاقا واسعة من الخير والفضائل أو أغوارا سحيقة من الشر والرذائل .
الوقفة مع العين ومعرفة حقوق البصر مهمة جدا في عصرنا الراهن الذي تحضر فيه المادة المرئية بقوة في كل مكان وزمان عبر الشاشات الثلاث (الجوال والتلفزيون والكمبيوتر)، وأصبحت – كما يقول الدكتور عبد الله الغذامي - هي النص الجديد،... وأصبح العالم على كف شاشة، بدلاً من العفريت وفي بيت من زجاج.
إذن الحديث عن حق البصر ليس حديثا ترفيا، بل هو حديث في وقته المناسب، حيث الجميع معرضون للتلوث البصري بالمواد المحرمة التي يبثها الإعلام على مدار الساعة لتبقينا أسرى شهواتنا متسمرين أمام الأفلام الماجنة والمسلسلات الغرائزية وغيرها مما يدمر شخصياتنا ويجعلنا خائري العزيمة مسلوبي الإرادة.
حق العين كما يوضحه الإمام هو لجمها عن النظر إلى الحرام من خلال غض طرفها أي خفضه وكسره بدلا من رفعه ومده. وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم في سورة النور: ( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ...)
يقول الإمام علي عليه السلام: ليس في البدن شيء أقل شكرا من العين، فلا تعطوها سؤلها فتشغلكم عن ذكر الله عز وجل.
ويقول أيضا: من أطلق ناظره أتعب حاضره.
ويقول: من غض طرفه أراح قلبه.
إن العين نعمة كبرى ينبغي أن تستثمر فيما يعود للإنسان بالخير من عبرة يستفيدها بنظره إلى آثار الماضين، أو علم يمده برؤى جديدة تجلو عن بصيرته غشوات العمى.
هذا حق العين الذي يكافأ من يؤديه بنيل جائزة كبرى هي الشعور بحلاوة الإيمان وطعمه، فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: النظر سهم من سهام إبليس، فمن تركها خوفا من الله أعطاه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه.
إن مشاهدة القلب لعالم الملكوت لا يكون إلا من خلال غض البصر عن محارم الله في عالم الملك. يقول الإمام الصادق عليه السلام: ما اعتصم أحد بمثل ما اعتصم بغض البصر، فإن البصر لا يغض عن محارم الله إلا وقد سبق إلى قلبه مشاهدة العظمة والجلال.
أعتقد أننا بحاجة اليوم إلى التركيز أكثر على فقه النظر وما يتعلق به من أحكام لكثرة الابتلاء بمسائله وتنوعها.
لنتذكر أخيرا أن أبصارنا ستشهد لنا أو علينا، فلنعقد معها صداقة دائمة بإمتاعها بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، حتى نؤدي بعض حق شكرها، ونكون معها من الفائزين.