الزهراء عليها السلام وتر لا يغمد
﴿وَلَقَدَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ ءَايَات مُّبَيِّنَات وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ * اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَاَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ٌّيُوقَدُ مِن شَجَرَة مُبَارَكَة زَيْتُونَة لاَّ شَرْقِيِّة وَلاَ غَرْبِيَّة يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الاَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (النور/34-38)
لم يكن خلق الإنسان عبثاً، فحاشى لله الحكيم العليم. كذلك السماوات والأرض هي الأخرى ما صنعت لهواً ولا عبثاً، بل خلقت مرتبطة بمصير الإنسان وحياته على هذا الكوكب البسيط. لذا لما كانت لهذا الخلق وهذه الصنعة والحياة هدفيّة، فكان لابد للنظم من أن يوكل إلى الإنسان حين الخلق، ولم يكن هذا أن يكال إكراهاً، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى جعل الاختيار والحرية للإنسان في اتخاذ مسالكه ومناهله، وفي ذات الوقت بيّن له -إلى جانب ذلك- سبيل الهدى والرشاد والصلاح عن طريق الآيات الإلهية والرسل والأنبياء.
وفيما يخص بحثنا هذا، نشير إلى أن واحدة من تلكم النظم نظام الأسرة، كأحد أهم نظم الاجتماع؛ الأسرة التي تجسد اللبنة الأولى والركيزة الأساسية في هيكل البناء الاجتماعي للإنسان، حيث يشمخ هذا البناء برصانة بالغة إذا ما كانت نواته وخليته الأسرية تشدها أواصر المحبة، وقائمة على أسس التعاون والإخلاص والتنسيق وتبادل العمل وروح النشاط والمثابرة.
فلقد أراد الله تبارك وتعالى أن يكون الصرح الاجتماعي الفاضل مقاماً على أساس الأسرة الذي هندسته وخططته الرسالة الإسلامية الرشيدة، ومن مجموع الأسر المتينة المتماسكة يكوّن ويتألّف البناء الأسري الرصين، وتتكامل مناحي الحياة الطبيعية بأنسياب نحو تحقيق الكمال وعبادة الكامل المطلق.
ولعل أبرز وأعظم ما خطط لـه الإسلام العظيم وأمر بامتثاله هو التنظيم الأسري القائم والمنطلق من أعماق الفطرة الإنسانية؛ أي تلك المجموعة من السنن والقوانين والأنظمة الإلهية والغرائز المهّذبة الموجّهة بالنحو الإيجابي والسليم، التي أودعها الله سبحانه في ذات الإنسان، سواء كان ذكراً أم أنثى.
ولو أمعنا النظر وتدبّرنا في مصدر الرقي والتقدم الحضاري لرأينا ذلك كله ينطلق من التنظيم الأسري المتماسك. فالأسرة هي التي تحمل هوية المجتمع وسمات الأمة. ولو مثلناها بشكلٍ هرميِّ لوجدنا أن الأب يمثل القمة، باعتباره المسؤول عن رعاية وحماية الزوجة -الأم- الركيزة الثانية للأسرة كمسؤولة عن رعاية وحماية وتربية الأولاد، فالرجل موظف بمعاملة المرأة بلطف ورقّة، وهو مسؤول عن الإنفاق عليها والوفاء بحقوقها، حيث أن الرجل الأب يحتل موقع القيادة والقيمومة التي جاءت في قوله تعالـى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ(، وهذه القيمومة ليست أمراً مفروضاً أو دخيلاً، بل إنها تجسيد للفطرة والغريزة المنسجمة وطبيعة التكوين الأسري، حيث تبعث على الرضا والطمأنينة والسكينة بين أعضاء الخلية الاجتماعية الأولى.
إن هذه القيمومة هي التي تثير الإحساس وتدفع بالرجل إلى التضحية بأعز ساعات نومه وراحته، وإلى النهوض وظلمة الليل لا تزال تخيّم على الأفق، فتراه يخرج في البرد القارص وربما أثناء هطول المطر والثلج، طلباً للرزق ولقمة العيش، في كد وكدح وبذل الجهد طيلة ساعات النهار، وهذا كلّه انطلاقاً من الشعور بالمسؤولية تجاه عائلته، فهو المحكوم أوّلاً وآخراً بتوفير الرزق والأمن، وهما العاملان الأساسيان في مصداقية الحياة للأسرة..
وهذه الفطرة والسنّة الإلهية لا تجدها مقتصرة على ابن آدم، بل هي تعم معظم الكائنات الحيّة.. فالأمومة والأبوة تلحظها في سيرة جميع الحيوانات ولو لمدة زمنية محدودة. فالله سبحانه وتعالى قد ألهم الكائنات فطرة من شانها تنظيم واقع وشؤون الأسرة، ولا يمكن بحال من الأحوال إلغاء هذا الإلهام السماوي والاستعاضة عنه بنحو آخر ببساطة، إذ الأمر ليس هيناً كما يتصور البعض، فالتغيير والتبديل القهري المناقض لفطرة الإنسان وطبيعته الغريزية يكلّف فرضُه الكثير من الخسائر، حيث تكون على حساب كرامة الإنسان وحريته. بل ويخرجه من عالم الآدمية إلى دنيا أحط وأردأ من الحيوانيّة .
مقتطف من كتاب فاطمة
الزهراء عليها السلام قدوة الصديقين
لسماحة المرجع المدرسي دامت بركاته