المدرسي : السبط الشهيد راية التوحيد الطاهرة
بيان سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي (دام ظله الوارف) بمناسبة محرم الحرام 1433هـ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ.
السَّلامُ عَلَى الْحُسَيْنِ، وَعَلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَلَى أَوْلادِ الْحُسَيْنِ، وَعَلَى أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ، الَّذِينَ بَذَلُوا مُهَجَهُمْ دُونَ الْحُسَيْنِ عليه السلام.
(1)
وأقبل علينا شهر محرم الحرام، وارتفعت راية السبط الشهيد عليه السلام، وحين تُنشر راية الإمام الحسين عليه السلام تُطوَى سائر الرايات، لماذا؟.
لأنها الأنقى والأسمى.
إنها الأنقى، لأنها غير ملوثة بأدران الشرك. بل هي راية التوحيد الطاهرة، وهي تدعو إلى عبادة الله وحده، وتكفر بالجبت والطاغوت، وترفض كل معبود سوى رب السماوات والأرض.
وهي الأسمى - والأكثر شمولاً -؛ لأنها تتجاوز الحميَّات الجاهلية، والدعوات الفئوية والطائفية، والأطر الحزبية، ألا ترون كيف ينضوي تحت هذه الراية العالية كل الناس، وبلا تمييز؟.
(2)
وإذا كانت الأمة الإسلامية تُحيي كلَّ عامٍ، وعلى مدى مئات السنين، ذكرى عاشوراء المجيدة، فلأنها تُجدِّد فيها روح الكرامة، وتُنمِّي فيها العزة الإيمانية.
وكلما ازداد أبناء الأمة إقتراباً من نهضة عاشوراء، ومعرفةً بأهدافها، ووعياً بعبرها وبصائرها؛ إزدادوا حكمةً وحماساً وقوةً وثباتاً.
أَوَلَيس الإمام الحسين عليه السلام مصباح هدى لكل من استهدى به، وسفينة نجاة لكل من اعتصم بحبله؟.
إن أمتنا لن تنال استقلالها، وعزتها، ونصيبها من الاحترام في هذا العالم الذي لا يُحترَم فيه إلا القوي العزيز؛ إلاّ بتمثُّل دروس عاشوراء.
إن أبرز دروس عاشوراء التي أحيت أمتنا عبر الأجيال، وحافظت على وهج الإيمان؛ هي ما قاله السبط الشهيد بلسانه، وكَتَبَه بدمه، وأورثه الأجيال بدماء أبنائه وأنصاره، حين قال عليه السلام: (أَلا إِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الدَّعِيَّ
قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ: بَيْنَ السِّلَّةِ وَالذِّلَّةِ؛ وَهَيْهَاتَ مِنِّا الذِّلَّةُ, أَبَى اللهُ ذَلِكَ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ، وَحُجُورٌ طَهُرَتْ، وَأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ، وَنُفُوسٌ أَبِيَّةٌ، أَنْ نُؤْثِرَ طَاعَةَ اللِّئَامِ عَلَى مَصَارِعِ الْكِرَامِ..) (1).
لقد أبى سيد شهداء الأمة، وقائد مسيرة الأبطال فيها، وسيد شباب أهل الجنة أبو عبد الله الحسين عليه السلام ؛ أبى أن يعيش مع الظالمين ذليلاً، فآثر أن يموت كريماً وقال: (إِنِّي لا أَرَى الْمَوْتَ إِلا سَعَادَةً، وَالحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلاّ بَرَماً..)(2).
وجرت هذه الروح في أفئدة خيرة أمة محمد صلى الله عليه وآله، وقاومت أبداً محاولات التذليل والتركيع، وقدمت ملايين الشهداء عبر التاريخ في سبيل الله سبحانه، ومن أجل كرامتها وعزتها.
لقد أيقظ سيدنا الحسين عليه السلام الإنسان في ضمير كل إنسان سَوِيّ، وبعث في روح كل امرئٍ مسلم همَّة قعساء، بل خاطب كل ذي لُبٍّ لِم لا يكون حرًّا.. إنه قال لأعدائه: (يَا شِيعَةَ آلِ أَبِي سُفْيَانَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دِينٌ
وَكُنْتُمْ لا تَخَافُونَ المَعَادَ، فَكُونُوا أَحْرَاراً فِي دُنْيَاكُمْ، وَارْجِعُوا إِلَى أَحْسَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ عرَباً كَمَا تَزْعُمُونَ)(3).
واليوم يعيش الكثير من أبناء الأمة في صراع ضد الطغيان الدولي، وضد عملاء الاستكبار، وضد خور العزيمة، وفتور الهمّة، اليوم كم هي عظيمة هذه الكلمة: (فَكُونُوا أَحْرَاراً فِي دُنْيَاكُمْ)؟ وكم هي صاعقة تلك الكلمة: (هَيْهَاتَ مِنِّا الذِّلَّة)؟ وكم هو مبارك نهج الفداء والتضحية؟.
إن أمتنا اليوم بحاجة إلى رصِّ صفوفها، وذلك عبر الالتفاف حول القيادات الحكيمة والنزيهة، والعمل الجاد من أجل تنمية طاقاتها وفي كل الحقول، ومن ثم تحمُّل مسؤولياتها في الدفاع عن حرمات الأمة، وفي بناء أوطانها بإخلاص وجهد واستقامة.
(3)
إنني ومن موقع مسؤوليتي أقدم لكم التوصيات التالية:
-
التمسّك بالقرآن والعترة
أولاً: المزيد من التوجُّه إلى القرآن المجيد؛ لأنه بصائر لقلوبنا، وخارطة طريق لحركتنا، وعروة الوحدة لشتات طاقاتنا، وعزيمة إيمان لإرادتنا.
القرآن هو الثقل الأكبر الذي خلَّفه الرسول صلى الله عليه وآله للأمة، وهو الحبل المتصل بيننا وبين ربنا تعالى، وهو الذي نطق به الإمام الحسين عليه السلام بكلماته وحركاته وقطرات دمه.
ولا يظن أحد أنَّ التَّمسك بأهل البيت عليهم السلام بديل عن التمسك بكتاب الله، إنهما لن يفترقا حتى يردا على رسول الله صلى الله عليه وآله الحوض، وهما نوران ينبعثان من مشكاة واحدة، فعلينا التدبر في آياته والتبصر
بضيائه، ولقد كان السبط الشهيد عليه السلام قد استمهل الظالمين ليلة عاشوراء لتلاوته، وكان في أصحابه من كان يختمه في ليلة واحدة حتى رزقه الله الشهادة.
-
التلاحم الأسري
ثانياً: التلاحم الأسري بإحياء سُنّة صلة الأرحام، وتحويل القرابة إلى محاور إلى التعاون على البر والتقوى. إنّ الثقافة الجاهلية الحديثة تدعو إلى اتباع الأهواء، وتفضيل المصالح الشخصية، بينما بصائر الوحي تدعونا
إلى المزيد من التماسك من أجل تحقيق أسمى الغايات.
-
التكتل للإصلاح
ثالثاً: التكتل الإيماني عبر تشكيل هيئات حسينية فاعلة هدفها إحياء شعائر أبي عبد الله عليه السلام، وجعلها وسيلة لتنمية الخُلُق الفاضل، والتعاون من أجل الإصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد قال السبط الشهيد في أول خطاب له قبل مسيرته الجهاديه إلى كربلاء: (وَأَنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلا بَطِراً وَلا مُفْسِداً وَلا ظَالِماً، وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصْلاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي صلى الله عليه وآله، أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى
عَنِ الْمُنْكَرِ...)(4).
وجدير بنا أن نتَّبع نهج إمامنا في القيام بواجب الإصلاح، والالتزام بفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وحينما نزور الإمام الحسين عليه السلام نشهد له بالقول: (أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلاةَ، وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ، وَأَمَرْتَ بِالمَعْرُوفِ، وَنَهَيْتَ عَنِ المُنْكَرِ، وَعَبَدْتَ الله مُخْلِصاً حَتَّى أَتَاكَ الْيَقِينُ)(5).
-
حُبّ الشهادة
رابعاً: إن من أعظم تطلعات المؤمنين أن تُختم حياتهم بالحسنى، لكيلا يُحاسب المؤمن عند ربه إلا حساباً يسيراً، ولكي ينقلب إلى ربه مغفوراً له ومسروراً. وأيّة عاقبة أحلى من الشهادة في سبيل الله؟
وأمة تربّي أبناءها على حب الشهادة، أمة تحيا سعيدة وتستطيل على التحديات بإذن الله تعالى. من هنا تجدنا نقول أبداً ونحن نخاطب قائدنا وسيدنا وإمامنا الحسين عليه السلام: (لَبَّيْكَ دَاعِيَ الله). ونقول لأصحابه: (يَا لَيْتَنَا
كُنَّا مَعَكُمْ، فَنفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً).
إنّ درجة الشهادة قد لا تُنال أبداً، ولكن من يطلبها كشخص يبقى عزيزاً طيلة حياته. كذلك الأمة، فعلينا أن نربي أبناءنا عليها حتى يخلعوا لباس الذل والخوف والخنوع، ويتحلوا بالشجاعة والعزة والشموخ.
-
إعمار كربلاء
خامساً: وكربلاء حيث مرقد السبط الشهيد عليه السلام، والتي يشهد المؤمن أمام قبره بأنها قد طَهُرَتْ به ويقول: (أَشْهَدُ أَنَّكَ طُهْرٌ طَاهِرٌ، مِنْ طُهْرٍ طَاهِرٍ، قَدْ طَهُرَتْ بِكَ الْبِلَادُ، وَطَهُرَتْ أَرْضٌ أَنْتَ فِيهَا)(6).
هذه المدينة الطاهرة كهف الوالهين الحصين، الذي يتوافد عليها كل عام ملايين من الموالين، يُجدِّدون العهد مع الله سبحانه ليمضوا قُدُماً على خط الإسلام، والدفاع عن الحُرُمات.
إنها اليوم وأكثر من أي يوم مضى أصبحت قطب حركة الأمة الإسلامية، فمن سحائبها المباركة إزدهر هذا الربيع العربي الذي نرى المسلمين العرب ينشدون الكرامة، ويقدمون التضحيات السخية من أجلها.
إنّ مدينة كربلاء المقدّسة، وبالرغم من تعرضها للإهمال -العفوي والمتعمد- من قبل الحكومات المتعاقبة في العراق ومنذ قرون، لا تزال شامخة بمرقد نجلي حيدر الكرار: الإمام الحسين، وسيدنا أبي الفضل العباس عليهما
السلام، وشامخة بأهلها الذين يخدمون بكل وسعهم زوار السبط الشهيد، وبحوزاتها، وعلمائها.
وعلى أبناء الأمة أن يهتموا بزيارتها، وزيارة سائر مراقد أئمة أهل البيت عليهم السلام في أرض الرافدين، والسعي وراء إعمارها، وتوسيع المؤسسات الدينية فيها، لتقوم بدورها الريادي أكثر من أي يوم مضى.
كربلاء ليست أمانة في أعناق الشعب العراقي ومؤسساته الرسمية والأهلية فقط، وإنما هي أيضاً أمانة في أعناق المسلمين عموماً والموالين خصوصاً، وهي كذلك للجميع.
والله المستعان.
محمد تقي المدرسي
كربلاء المقدسة
23 من ذي الحجة/1432هـ