خطبة الجمعة : الزهراء والوعد الرسالي
تحدث سماحة العلامة الشيخ حسين المصطفى في خطبة الجمعة 24 جمادى الآخرة 1432هـ في مصلّى الإمام الهادي بالجزيرة عن " الزهراء والوعد الرسالي " .
وافتتح سماحة الشيخ حديثه بما : روى الحاكم في (المستدرك) بسنده عن أمِّ المؤمنين عائشة أنها قالت: " مَا رَأَيْتُ أَحَداً كَانَ أَشْبَهَ كَلَاماً وَحَدِيثاً مِنْ فَاطِمَةَ بِرَسُولِ اللهِ ، وَكَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ رَحَّبَ بِهَا، وَقَامَ إِلَيْهَا ، وَأَخَذَ بِيَدِهَا ، وَقَبَّلَهَا ، وَكَانَتْ هِيَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ قَامَتْ إِلَيْهِ مُسْتَقْبِلَةً وَقَبَّلَتْ يَدَه" .
عندما نريد الانفتاح على الرحاب الواسعة التي كانت تعيش فيها سيدتنا فاطمة الزهراء ، فإننا لا نستطيع أن نتابع هذا المدى الواسع الذي تتمثل فيه هذه الآفاق، فما يفكّر فيه العظماء الرساليون وما يعيشونه ويتحسّسونه ويتطلّعون إليه -وهو يمثل العمق في الجانب الشخصي- لم يحدثنا التاريخ عن كثير منه؛ لأنّ ما يعيشونه مع الله لا يستطيع أحدٌ أن يعبّر عنه ويحدَّده وإن كان يحس به في وجدانه .
وهكذا عندما نشمُّ الوردة ، فإننا لا نستطيع أن نتحدّث عن العطر الذي شممناه بشكل دقيق ؛ لأنّ هناك أشياء تُحسّ ولا يمكن التعبير عنها . لذلك ما يأتينا من العظماء من كلمات لا تمثِّل كلَّ أفكارهم وكلَّ تطلّعاتهم .
الزهراء الوعد الرسالي :
عندما ندرس حياة الزهراء ، لا نجد في حياتها المبكرة أنّها عاشت طفولة الأطفال من لهو وعبث ولعب؛ فطفولتها لا تحمل أية فرصة لذلك.. لقد فتحت عينيها على الحياة، وإذا بأبيها رسول الله يأتي بين وقت وآخر مثقلاً بكل ما يلقيه عليه المشركون من ضغوط وأعباء وآلام.. فكانت تتحسّس آلام الرسالة والرسول معاً، ومَن يختزن في وعيه الطفولي المبكر آلام الرسول وآلام الرسالة، كيف يفسح له الوقت أن يعبث أو يلهو أو يلعب ؟!
وكانت رعايتها لأبيها يفوق الوصف، وإن كان التاريخ لم يفصل لنا الجانب التاريخي السردي منه إلا أنّ شهادة أبيها الرسول في وصفه لها خير دليل على تلك الرعاية العجيبة حيث يقول : " فاطمة أم أبيها " ، فهذه الصفة (الكنية) تفتح لنا آفاق الاستغـراق العميق ، لكي لا يدرك الإنسان من شاطئ الحقيقة إلا أنّ علياً وفاطمة وخديجة وأبا طالب وقود الانطلاق لرسالة النبي لا تقف أمام معنوياتها حواجز الدهر.
وفي الجانب الآخر يخاطبها حفيدها الإمام الحجة المهدي (عج) بقوله: " وَفِي ابْنَةِ رَسُولِ اللهِ لِي أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ".
وهذا المقطع الخصب يقف الإنسان فيه أمام رؤيتين :
الأولى: يستطيع الإنسان بإقتدائه بالزهراء أن يصل إلى النموذج الكامل للإنسان المسلم في كلِّ مجالات الحياة مادية ومعنوية ، فهي القدوة في الصبر والاستقامة والصمود والمعرفة .
الثانية : أننا لا نستطيع أن نفصل في حاجتنا للقدوة بين المرأة والرجل.. فالمرأة عندما تختزن حيوية الرسالة في داخل شخصيتها، فإنها تنطلق من خلال شخصيتها كإنسانة تشترك مع الرجل في القاعدة العامة التي تنتج فكراً وحركة ووعياً .
فالمرأة النموذج هي الإنسان الذي يمثل قدوة للرجل والمرأة على السواء.. والقرآن الكريم قد جعل المرأة في واقعها السلبي والإيجابي مثلاً للرجل والنساء معاً ، ولم يجعل المرأة مثلاً للمرأة ليجعل الرجل مثلاً للرجل .. ﴿ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾.
الزهراء المعلِّمة :
هناك نقطة مهمة جداً، قد لا ينتبه إليها الكثيرون، وهي أنّ فاطمة الزهراء هي أولُ مَن ألّف كتاباً في الإسلام ، ولم يُنقل أنّ رجلاً أو امرأةً ألّف كتاباً في ذلك الوقت .
(مصحف الزهراء) هو كتاب الزهراء ، كان اهتمامها بالعلم وبحديث رسول الله وبأحكام الإسلام ، بحيث كانت تسجِّل ما تسمعه من رسول الله مباشرة أو من علي عن رسول الله ... وكتبت هذا الكتاب الذي تناقله الأئمة ، حتى أنّ الصادق كان ينقل عنه بعض الأحكام الشرعية، فيسأله الناس ما ذلك؟ فيقول : هذا من مصحف جدّتنا فاطمة الزهراء .
وربما انطلق بعض الناس الذين يحقدون على خط أهل البيت ليتحدثوا أنّ للشيعة مصحفاً غير هذا المصحف، ولهم قرآن غير هذا القرآن، وهو مصحف الزهراء ، ويقولون إنّ الصادق كان يتحدث فيقول: " إنّ حجمه هو أكثر من حجم مصحفكم هذا -أي القرآن- بثلاث مرّات " ، ولكن ما ورد في الحديث عن هذا المصحف انطلق ليتحدث عن أنّ فيه كثيراً من الأحكام الشرعية.
ولكنّ الشيء الذي عرفناه عن الإمام الصادق مما ثبت ، أنّ هذا الكتاب يشتمل على مفردات الأحكام الشرعية والمعارف الإسلامية .
ولم تكتفِ الزهراء -كما ينقل لنا تاريخها- بأن تكتب، بل كانت تلقي بذلك على نساء المهاجرين والأنصار ، وكانت لها " حوزة " تجتمع النساء لديها ، وكانت تلقي عليهنّ ما تعلّمته من رسول الله .
عن الإمام العسكري قال: حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء فقالت : إِنَّ لِي وَالِدَةً ضَعِيفَةً، وَقَدْ لُبِسَ عَلَيْهَا فِي أَمْرِ صَلَاتِهَا شَيْءٌ، وَقَدْ بَعَثَتْنِي إِلَيْكِ أَسْأَلُكِ، فَأَجَابَتْهَا فَاطِمَةُ عَنْ ذَلِكَ، فَثَنَّتْ فَأَجَابَتْ ، ثُمَّ ثَلَّثَتْ إِلَى أَنْ عَشَّرَتْ فَأَجَابَتْ ، ثُمَّ خَجِلَتْ مِنَ الْكَثْرَةِ، فَقَالَتْ : لَا أَشُقُّ عَلَيْكِ يَا ابْنَةَ رَسُولِ اللهِ .
فقالت : " هَاتِي وَسَلِي عَمَّا بَدَا لَكِ... إِنِّي سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: إِنَّ عُلَمَاءَ أَمَتِّنَا يُحْشَرُونَ فَيُخْلَعُ عَلَيْهِمْ مِنْ خِلَعِ الْكَرَامَاتِ عَلَى قَدْرِ كَثْرَةِ عُلُومِهِمْ وَجَدِّهِمْ فِي إِرْشَادِ عِبَادِ اللهِ، حَتَّى يُخْلَعَ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمْ أَلْفُ أَلْفِ حُلَّةٍ مِنْ نُورٍ... " .
وعنه قال: قالت فاطمة وقد اختصمت إليها امرأتان ، فتنازعتا في شيء من أمر الدين ، إحداهما معاندة ، والأخرى مؤمنة ، ففتحت على المؤمنة حجتها ، فاستظهرت على المعاندة، ففرحت فرحاً شديداً، فقالت فاطمة : " إنَّ فَرَحَ الْمَلَائِكَةِ باستظهارِكِ عَلَيْهَا أَشَدُّ مِنْ فَرَحِكَ، وَإِنَّ حُزْنَ الشَّيْطَانِ وَمَرَدَتِهِ أَشَدُّ مِنْ حُزْنِهَا " .
ولم تقتصر في تعليمها على النساء، فالصحابي عبد الله بن مسعود، يحضر مجلس الزهراء ويقول : جاء رجل إلى فاطمة بنت رسول الله ، فقال : يا ابنة رسول الله، هل ترك رسول الله عندك شيئاً تطرفينيه، فقالت: " يَا جَارِيَةُ ، هَاتِي تِلْكَ الحريرةَ " فطلبتها فلم تجدها، فقالت: " وَيْحَكِ أُطْلُبِيهَا، فَإِنَّهَا تَعْدِلُ عِنْدِي حَسَناً وَحُسَيْناً " فوجدتها فإذا فيها : قال محمد النبي : " لَيْسَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ . وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ. وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ يَسْكُتُ . إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْخَيِّرَ الْحَلِيمَ الْمُتَعَفِّفَ، وَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الضنين السئآل الْمُلْحِفَ . إِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ ، وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْفُحْشَ مِنَ الْبَذَاءِ، وَ الْبَذَاءُ فِي النَّارِ" .
وكان للزهراء مشاركة فعّالة ومؤثّرة في الدعوة إلى الله تعالى في مواقع مختلفة أهمها قضية المباهلة مع النصارى ، ونزل فيها قرآن يتلى إلى يوم القيامة ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ فكانت سيدة النساء هي المختصة بهذا الفضل ولم يشركها فيه أحد من نساء الأمّة .
الفقه المقاصدي عند فاطمة الزهراء :
تعتبر السيدة فاطمة الزهراء -إضافة إلى كل ذلك- أولَّ امرأة مسلمة تطرقت إلى الحديث عن أسرار التشريع وفلسفته ، وذلك في خطبتها العصماء بعد وفاة أبيها ، وكأنّها تريد أن توحي للناس أن يأخذوا الإسلام بعمق وأن لا يأخذوه بشكل سطحي، بحيث يتحرك المسلم في ساحة عمله من خلال ثقافة الإسلام في عمق معانيه وأسراره.
وبهذا تخرجنا عن الجمود الطاغي على ممارساتنا للإسلام عقيدة وعملاً من دون أن نتفهم معانيه وأسراره، وهذا هو مشوار أكثر المسلمين الذين يتحركون بالإسلام في إطار شكله الخارجي ولا يتحركون به من خلال ممازجته بالعقل والقلب والروح والإحساس والشعور.
ولقد تحدثت عن عشرين مورداً مهماً، في جمل قصيرة بليغة، وذكرت مقاصده الجليلة منه :
فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك .
والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر.
والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق .
والصيام تثبيتاً للإخلاص .
والحج تشييداً للدين .
والعدل تنسيقاً للقلوب .
وطاعتنا نظاماً للملّة .
وإمامتنا أماناً من الفرقة .
والجهاد عزاً للإسلام (وذلاً لأهل الكفر والنفاق) .
والصبر معونة على استيجاب الأجر.
والأمر بالمعروف مصلحة للعامة .
وبرّ الوالدين وقاية من السخط .
وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدد .
والقصاص حقناً للدماء .
والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة .
وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس .
والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس .
واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة .
وترك السرقة إيجاباً للعفة .
وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية .
" اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَاسْتُرْنِي بِسَتْرِكَ الْجَمِيلَ، وَعَافِنِي أَبَداً مَا أَبْقَيْتَنِي، وَاغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي إِذَا تَوَفَّيْتَنِي، اللَّهُمَّ لَا تُعَنِّنِي فِي طَلَبِ مَا لَمْ تُقَدِّرْ لِي وَمَا قَدَّرْتُهُ عَلِيَّ فَاجْعَلْهُ ميسّراً سَهْلًا، اللَّهُمَّ كَافِ عَنِّي وَالِدَيَّ وَكَّلَ مَنْ لَهُ نِعْمَةٌ عَلِيَّ خَيْرَ مكافأتك، اللَّهُمَّ فَرِّغْنِي لِمَا خَلَقْتَنِي لَهُ وَلَا تَشْغَلْنِي بِمَا تَكَفَّلْتَ لِي بِهِ، وَلَا تُعَذِّبَنِي وَأَنَا أَسْتَغْفِرُكَ، وَلَا تَحْرِمْنِي وَأَنَا أَسْأَلُكَ، اللَّهُمَّ ذَلِّل نَفْسِي فِي نَفْسِي، وَ عَظِّم شَأْنُكَ فِي نَفْسِي، وَأَلْهَمَنِي طَاعَتَكَ وَالْعَمَلَ بِمَا يُرْضِيكَ والتجنّب لِمَا يسخطك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ".