العلامة الشيخ حسين المصطفى : تدبر العواقب
تحدث سماحة العلامة الشيخ حسين المصطفى في خطبة الجمعة 10 جمادى الثاني 1432هـ عن " تدبر العواقب " .
وافتتح سماحته خطبته بما ورد عن الإمام الصادق : إِنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْصِنِي .
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ : فَهَلْ أَنْتَ مُسْتَوْصٍ إِنْ أَنَا أَوْصَيْتُكَ.
قال: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ : " فَإِنِّي أُوصِيكَ إِذَا أَنْتَ هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَتَدَبَّرْ عَاقِبَتَهُ، فَإِنْ يَكُ رُشْداً فَامْضِهِ، وَإِنْ يَكُ غَيّاً فَانْتَهِ عَنْهُ " [الكافي: ج 8 ص 149].
وعن الباقر قال: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ فَقَالَ: عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللهِ شَيْئاً.
فَقَالَ : عَلَيْكَ بِالْيَأْسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَإِنَّهُ الْغِنَى الْحَاضِرُ.
قَالَ : زِدْنِي يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ : إِيَّاكَ وَالطَّمَعَ فَإِنَّهُ الْفَقْرُ الْحَاضِرُ.
قَالَ : زِدْنِي يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ : إِذَا هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَتَدَبَّرْ عَاقِبَتَهُ، فَإِنْ يَكُ خَيْراً أَوْ رُشْداً اتَّبَعْتَهُ، وَإِنْ يَكُ شَرّاً أَوْ غَيّاً تَرَكْتَهُ [من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 410].
وأشار سماحته إلى أن التفكر والتأمل والتدبر أمور ينبغي أن تكون حاضرة في حياتنا لنتبصر مستقبلنا .
فالتفكر : هو إدامة النظر، من دون أن يتجاوز الحاضر إلى ما يؤول إليه الشيء مستقبلاً .
والتأمل : إدامة النظر والتثبت بغرض الاتعاظ والتذكر .
وأما التدبر : فهو النظر في عواقب الأمور وما تصير إليه الأشياء أي أنه يتجاوز الحاضر إلى المستقبل ؛ لأن التدبر يعني التفكر في دبر الأمور ..
وركّز سماحته في حديثه على أربعة أمور :
1 - تأملات على مستوى الشخصية :
لو تأملنا هذه الوصايا النبوية ، لرأينا أنّه من الضروري أن يلتزم بها الإنسان ويحتكم بعين التدبر والتأمل في كل قضايا الحياة ، وفي كل ما يريد أن يأخذ به الإنسان من خيارات ؛ لأنّ لكل شيء من الأشياء بداية ونهاية .
قد يجد الإنسان بداية الأشياء حلوة ولكن نهايتها مُرّة ، وكم الذين فرحوا كثيراً عندما حصلوا على بعض ما كانوا يأملون ، ولكن النتيجة كانت حزناً وبكاء .
ومن الواضح أنّ التزام الإنسان بهذا الخط ، يجعله يتفادى الكثير من النتائج السيئة في الدنيا والآخرة، لذا لا بدّ للإنسان من أن يدرس ذلك ..
فإذا أردت أن تدخل في مشروع شخصي -كمشروع زواج مثلاً- عليك أن لا تنظر إلى ما يشوِّقك في الإنسان الآخر من جمال الوجه أو غنى المال أو ما إلى ذلك .. بل عليك أن تنظر إلى النتائج التي يمكن أن تحصل لك من هذه العلاقة الإنسانية .
فعليك : أن تدرس الخصائص والعناصر الموجودة لدى هذا الإنسان، هل هي عناصر تؤدي بك إلى حياة سعيدة أو لا ؟
إذن : لا تستعجل في قرارك وتنطلق فيه من موقع عاطفي أو من ضغوط اجتماعية أو عائلية ؛ لأنّ العواقب عندما تكون سيئة ، فإنّها قد تدمّر لك حياتك وحياة الإنسان الآخر .
2 - تأملات على مستوى المصلحة العامة :
عندما ننفذ إلى واقعنا الاجتماعي ، ولا سيما في المسائل التي لها صلة بتأييد شخصية اجتماعية معينة أو رفضها، بحيث يترتب على أساس ذلك نتائج سيئة أو حسنة .
ففي هذه المسألة عليك أن تدرس العواقب، وتتساءل لو أنّ فلاناً أصبح رئيس لجمعية أو لعائلة أو أصبح شخصاً مبرّزاً في هذا الجانب الاجتماعي أو ذاك، ماذا يحدث ؟!
هل يُصلح أمر العائلة أو الجمعية أم يفسد ؟
إذاً لا بدّ أن تتخذ قرارك من خلال التفكير في النتائج التي يؤدي إليها خيارك أنت . لا تنظر إلى أنّ هذا الإنسان المرشّح أنّه ابن عائلتك أو صديقك أو قريبك ، أو أنّه من الجماعة السياسية الفلانية ، أو ما أشبه ذلك ... بل انظر إليه من خلال مسؤوليتك عن قرارك في القضايا الاجتماعية بما يحقق للمجتمع سلامته وبما يرفع مستواه .
إذن لا يكن همك محصوراً بتحقيق مصالحك، أي كم تنتفع من هذا شخصياً أو لا تنتفع ، أو مصالحك العائلية ، باعتبار هذا المرشح ابن عائلتك أو ابن بلدك .
إذن فكّر ما هي المصلحة للأمة عندما ينجح هذا أو عندما يفشل ذاك، لأنّك سوف تتحمل المسؤولية في الدنيا أمام الأمة التي خذلتها في التصويت لمن لا يستحق أن يكون نائباً عنها، أو
خذلتها برفض التصويت لمن يستحق أن يكون نائباً عنها .
3 - تأملات على مستوى الرضا مع الله :
وبالاستناد إلى الخط نفسه يجب أن نتعاطى في هذا المجال مع قضايا الدنيا والآخرة . لا بدّ للإنسان أن يفكر بالقضايا على مستوى الآخرة في مسألة الربح والخسارة ، فلا يتجمد فقط أمام حسابات الدنيا الفانية ، كأن لا يكون همه مثلاً من قيامه بتجارة معينة إلا أن تكون مربحة على مستوى الدنيا ، ولو كانت خاسرة على مستوى الآخرة ، كالناس الذين يبيعون الخمر ولحوم الميتة ، أو الذين يفتحون النوادي للقمار واللهو والفجور ، على أساس أنّ هذه التجارة يمكن أن تحقق لهم الربح الكبير .
من هنا ، فإنّ على الإنسان -إذا كان مؤمناً بالله ورسوله واليوم الآخر- أن يفكر في أنّ الله تعالى هو الرزّاق ، مما يدفعه إلى أن لا يتاجر بالحرام تجنباً لغضب الله وسخطه ، فإذا فعلت ذلك ، ربما يبتليك الله بكل ما يُذهب مالك ، قد يبتليك بمرض أو بغيره ، فلا يكفيك كل مالك لمعالجته ، في حين ينتظرك الحساب في الدار الآخرة ﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ﴾ ، ويومها كيف تقدّم حساباتك أمام الله تعالى ؟
وكيف تتفادى عقابه سبحانه ﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ! إِلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ ؟
لذلك ، فكّر عندما يقول لك الشيطان إنّ " في المخدرات ربحاً أو في تجارة الخمر ربحاً ".
قل له كما قال الحر بن يزيد الرياحي عندما عُرض عليه أن يترقى في مناصبه إلى أعلى الدرجات مقابل أن يشارك في الحرب ضد الحسين : " إنّي أخيّر نفسي بين الجنة والنار، فوالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قُطّعت أو حرّقت ".
وبالموقف ذاته ، عليك مقابلة الناس الذين يدعونك للانتماء إلى الظالمين ولأن تساعدهم وتحارب في سبيلهم وتبرّر ظلمهم، لتكون من أعوان الظلمة ، فهنا عليك أن لا تفكر في ما تحصل عليه من ربح سريع ، ولكن عليك أن تفكر في الخسارة في الدار الآخرة ، وتلك هي الخسارة كل الخسارة ، فقد قال الله تعالى : ﴿ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ ، فما قيمة أن تحصل على حفنة مال من الحرام مقابل أن تخسر نفسك عندما تضيّع الجنة وتهوي إلى النار؟!
إذن هذه الوصايا دعوة للتفكير والتأمل واستخدام العقل للوقوف على عواقب الأمور لدوره الأساسي في تحذير الإنسان من كثير من الأخطار .
عن ابن عباس قال : " بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَتَحَدَّثَ رَسُولُ مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً ثُمَّ رَقَدَ ، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ : ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ﴾ ، ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَاسْتَنَّ فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ ".
4 - وصايا لبناء الإنسان المتوازن :
إنّ تطبيق وصايا الرسول هي التي تجعل من الإنسان متوازناً في كل حياته الخاصة والعامة ، مما يعني أنّ عليك عندما تتكلم بأي كلمة في حال انفعال وغضب ، أو راحة وفرح ، أن تفكر في نتائج الكلمة على مستوى سلامتك وسلامة المجتمع، وعلى مستوى القضايا الحيوية فيه ، فكن العاقل الذي يفكر بالكلمة قبل أن يقولها ، ولا تكن الأحمق الذي يفكر بالكلمة بعد أن يقولها .
وهذا ما جاء عن عليّ عندما قال : " لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ، وَقَلْبُ الأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ "؛ لأنّ العاقل إذا أراد أن يتكلم بكلمة درسها ودرس نتائجها السيئة أو الحسنة ، فإذا رأى خيراً أبداه، وإذا رأى شراً أخفاه، أما الأحمق، فإنّه عندما تخطر الكلمة في فكره، فإنّه يطلقها، ثم بعد أن تتفاعل هذه الكلمة في الواقع الاجتماعي يفكر في آثارها.
ونتيجة كل ذلك كما قال علي : " ثَمَرَةُ التَّفْرِيطِ النَّدَامَةُ، وَثَمَرَةُ الْحَزْمِ السَّلامَةُ "، فالحزم : اغتنام الفرصة ، ومراقبة العواقب بعين بصيرة ، وإحكام العمل من أجلها.. والنتيجة الراحة والأمان .
ولا شك أنّ عدم تدبر العواقب هو الذي يخلق لنا الكثير من المشاكل، لا سيما في الحياة العائلية ، حيث ما إن يبدأ النـزاع بين الزوج ، والزوجة ، حتى تُطلق الزوجة كلمة طلب الطلاق بانفعال ، أو يطلق الزوج هذه الكلمة بانفعال ، وذلك قبل أن يفكرا في نتائج الطلاق عليهما وعلى العائلة بشكل عام . وهكذا نتصرف في القضايا الاجتماعية عندما نطلق الكلمات التي قد تؤدي إلى الفتنة وخراب الواقع الاجتماعي ، مما يجعلنا نتحمل مسؤولية النتائج السلبية كلها .
- أيها الأخوة والأخوات :
علينا أن ننطلق مع رسول الله في خط هذه الكلمة ، وقد التزم به علي أمير المؤمنين في خط الواقع ففي وصيته لولده محمد بن الحنفية قال : " أَلا وَمَنْ تَوَرَّطَ فِي الأُمُورِ غَيْرَ نَاظِرٍ فِي الْعَوَاقِبِ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لِمُفْضِحَاتِ النَّوَائِبِ، وَالتَّدْبِيرُ قَبْلَ الْعَمَلِ يُؤْمِنُكَ مِنَ النَّدَمِ، وَالْعَاقِلُ مَنْ وَعَظَتْهُ التَّجَارِبُ، وَفِي التَّجَارِبِ عِلْمٌ مُسْتَأْنَفٌ " [الفقيه: ج 4 ص 388].
وعلينا أن نتحرك معه في كل ما قال وفعل : ﴿ل َقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً ﴾.. لقد كان الرسول الذي لا يحتاج إلى مشورة أحد ، ولكنه يعلّم المسلمين أن لا يقوموا بأي خطوة ولا يُصدروا أيّ قرار إلا بعد أن يتداولوا الأمر فيما بينهم ويُحكموه دراسة ، حتى يعرفوا نتائجه في الدنيا والآخرة ، ﴿ وَقُلِ اعْمَلُواْ ﴾ - اعملوا بوعي وحذر وتأمل وتدبّر وتفكير - ﴿ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾.