مصر تغلي والشعب العربي يصرخ

  من كان يعتقد بأن هبّات النسيم الربيعية المليئة بالثورة والإباء ستهب من تونس لكي تحرك كل سنابل القمح في العالم العربي؟

من كان يتوقع بأن شعب الـ 70 مليون سوف يكسر حاجز الصمت ويصرخ في وسط القاهرة "يا مصر بنحيي رجالك خلصينا من حسني مبارك"؟ .

كانت جميع الأنظار متجهة نحو مصر؛ كدولة قابلة للتغيير، على غرار تونس. ولكن، لم يستطع أحد تخيل السيناريو الذي سوف يرسم ولا الزمن أو الإحداثيات، إنما الحماس والجو العام الذي خلفه سقوط دولة زين العابدين بن علي جعل التكهنات تتأمل حدوث شيئًا فريدًا من نوعه في مصر، كدولة تتقاطع مع تونس في كثيرًا من الظروف.

 لم يطل سبات الشعب المصري وفاجئ الجميع بتفجيره لمظاهرات في جميع المناطق المصرية، بدأت بشعارات تدعو لمعيشة كريمة ولعدالة اجتماعية وبلغت ذروتها بالمطالبة بسقوط النظام المستبد .

بين المشهدين التونسي والمصري -مع اختلاف الظروف المشعلة للانتفاضة- نرى بعض التجليات الواضحة والمشتركة بينهما، وهي: أنهما بلغا من الاحتقان والغضب الشعبي -بسبب تردي الظروف المعيشية- ما بلغا. فلم يكن المقهورين في الشعبين، بحاجة لمن يجيشهم أو يزايد على مظالمهم، لكي يخرجوا للشارع. بل كانوا يفتقدون للشرارة المشعلة للانتفاضة، فلولا حرق البوعزيزي لجسده لما اشتعلت الانتفاضة التونسية، و لولا تفجر الانتفاضة التونسية لما انفجرت الانتفاضة المصرية كما عبر عن هذا المعنى الكاتب حسن آل حمادة على لسان البوعزيزي بقوله:

سلّطتُ النار على جسدي
لتُضيء الدرب لمن يثأر
لم أُطعِمْ جسدي النار
بل ألهبتُ الثورة في بلدي.

هي إذًا: سلسلة مترابطة أثر بعضها على الآخر، معلنةً نهاية الصمت الطويل الذي قبعت فيه الشعوب العربية، إزاء ما تتعرض له من اضطهاد من قبل الأنظمة الشمولية الحاكمة، والذي يرجع لإيديولوجيا روّجت؛ لتسكن في العقل العربي؛ لتثنيه عن السعي للتغيير، أو رفع الصوت المناهض للفساد الحكومي. وهي تعمل على صنع حالة من الإحباط للمواطن العربي لتقنعه بأن يبقى نمطيًا. فمهما فعل أو صرخ أو احتج، فلن تسمعه سوى قضبان زنزانته، ولن يحتضنه سوى منفاه ،والتعامل القمعي من قبل الحكومات في حق كل من يقول لا في وجه النظام. ساعد كثيرًا على تكريس هذه الثقافة الخانعة ، فتولّد خوفٌ ومانعٌ نفسيٌ من رفع الصوت عاليًا. ولكن، نجاح الانتفاضة التونسية واستمراريتها، ورفض الشعب التونسي أن يترك الشارع حتى يحصل على النتائج المرضية التي خرج من أجلها بدد هذه النظرية إلى الأبد، وأعطى الشعب المصري واليمني والأردني الجرأة لمطالبات بشكل أوسع، مع فروقات في القوة والتأثير.

  • الشعب يريد العيش بكرامة :

محمد البو عزيزي لم يحرق نفسه معارضاً لقرار برلماني أو مطالبًا بسن قانون دستوري, بل لأنه ضاق ذرعًا من انحدار مستوى معيشته ومن البطالة رغم حمله للشهادة الجامعية.

إحصاءات الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) تشير إلى وجود مائة مليون عربي تحت خط الفقر! وفي مصر بالذات 46% من المواطنين لا يحصلون على الطعام الكافي ويعانون من سوء التغذية. إحصاءات منظمة العمل الدولية تتوقع وجود 25 مليون عاطل عن العمل في عام 2010 أي ما يعادل 21.7 % من إجمالي السكان العرب. لذلك، أصبح منطق خروج المواطنين للشارع أقوى وأكبر من أن يكون خروجًا مدعومًا لجهة تنظيم ما أو حزب سياسي معين. المسألة تمس شعبًا بكامله، فلذلك رأينا النقابيين والجامعيين والفقراء والفلاحين في مصر جنبًا إلى جنب والجميع يصرخ بألم بسبب الفقر المدقع الذي طغى بالبلاد بل حتى أن بعض عناصر الشرطة المصرية التي كان من المفترض أن تقمع المظاهرات، وهي لم تقصر في ذلك. ولكن، بعضهم تجردوا من لباسهم الرسمي وانخرطوا مع المواطنين لأنهم موقنون بأحقية قضيتهم، ولأن الجميع قد ذاق مرارة الفقر .

  • التعددية والتمثيل السياسي:

الشمولية والحزب الواحد المحتكر للإعلام والمتحكم بالسلطة وبثروات البلد, فلا معارضة ولا تمثيل سياسي مؤثر. أحزاب سياسية مشلولة، رغم احتوائها على المثقفين والوطنيين، إلاّ أن القرار يقضي بسريان الرأي الواحد ويدحض أي معارضة., هذه أهم السمات التي تجمع اللوحة العربية جمعاء. لا أعلم إلا متى ستظل حرية التعبير والإشراك السياسي ليست إلا شعارات يتنطع بها المسؤولون لكي يطفئوا غضب الشعوب في كل أزمة.

الانفجار الذي حصل في مصر وتونس، والذي قد يحصل في أي دولة عربية، يدل على وجود هوة في العلاقة بين الدولة والشعب، وقبل مطالبة الشعب باحترام هيبة الدولة والتعبير عن أرائهم بالطرق الكلاسيكية والابتعاد عن الفوضى، علينا أولاً إرساء مناخًا مناسبًا لحراك سياسي، وحوار بين طبقات المجتمع والدولة، كي نؤمن فعالية لإرادة المجتمع، وموازنة بينها وبين إرادة الدولة، وهذا لا يتم إلاّ عبر مؤسسات مجتمع مدني مستقلة، تضمن تنوعًا في الآراء، وتشارك في اتخاذ القرارات بلا تسلط أو تحيز، لأي طرف من الإطراف. وهذا ما يجعل المشهد المصري والتونسي مشهدًا نادرًا أن لم يكن مفقودًا في الدول الغربية، لأن الانخراط في العمل السياسي والتنظيمات والجمعيات، وكل أسس المجتمع المدني له مشروعيته، ولا يعاقب عليه القانون، ولا يُعتقل رواده، كما يجري للنشطاء الحقوقيين و السياسيين في الدول العربية.

 من الغباء وصم كل التحركات الشعبية العربية المطالبة بالتغيير على أنها تحركات ذات أهداف سياسية بحتة وهي مدعومة من قبل مخربين ودخلاء مسيسين بغرض قمعها نهائيا، ومن الغلط اختزالها على أنها ثورة فقط لإشباع البطون إلا أن تفجرها لم ينتج إلا بسبب حالة الاحتقان المتراكمة من التركيب المزجي للفقر والبطالة مع التهميش السياسي. .

  • أمريكا ونظرة أخرى للأحداث:

يقول نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية -التونسي الأصل- سيلفان شالوم في برنامج (لاخون لبوكر) الذي بث في إذاعة الاحتلال "فضلت دول العالم غض البصر عن غياب الديمقراطية في تونس من أجل الحفاظ عليها قريبة من الغرب , والان أصبح من المحتمل أن تتدهور تونس وتتقرب إلى الإسلام المتطرف".

و يقول المفكر المصري فهمي هويدي في مقاله "جدل الحدث التونسي وأجراسه": "ولم تغب الولايات المتحدة أيضًا عن متابعة المشهد, ففي حين أعرب الرئيس أوباما عن تقديره لشجاعة الشعب التونسي، فإن كبير مستشاريه الأمنيين سارع إلى الذهاب إلى الجزائر لكي يكون قريبًا من الأحداث في تونس، وقيل إنه نقل رسالة أيدت إجراء انتخابات حرة ونزيهة هناك، مشترطا عدم تمكين الإسلاميين من الوصول إلى السلطة" .

بات واضحًا للجميع بأن الهاجس الذي يقلق الإدارة الأمريكية وحلفائها ليس في سقوط حسني مبارك أو زين العابدين بن علي كشخص أو كحليف استراتيجي رغم أهمية هذا السبب، إلا إن الهاجس الأكبر من سقوط الدولة هو الخوف من نشوء دولة إسلامية تناهض الوجود الغربي في المنطقة على غرار إيران، وقد تكون الصورة التي التقطتها وكالات الإنباء لالتزام المتظاهرين في مصر بصلاة الجماعة في الشارع غير آبهين بقوات الشغب المدججة بالسلاح ولدت مخاوف لدى البعض من أن تكون الانتفاضة، انتفاضة تهدف لتمكين الإسلاميين من استلام دكة الحكم العلماني ، أو خوفاً من إمساك تنظيم الإخوان المسلمين للحكم. وهو ما استبعده، على الأقل في الظروف الحالية، مما قد يشكل نكسةً وضعفًا للتحالف الأمريكي المصري.

 وليس بالغريب أن ترد الإدارة الأمريكية بردود حادة حول الإحداث المصرية وتدعي بأنها مع الخيارات التي يختارها الشعب المصري، لأنها تحاول أن تكون حيادية إعلاميًا قدر الإمكان. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أمريكا ليست بحاجة لحاكم متخلخل الأركان و منزوع السلطة والصلاحية. هي تعمل على ما بعد مبارك وتحاول أن تخرج من الأزمة بأقل الأثمان عبر إبقاء العناصر التي ستؤمن مصالحها داخل النظام الحاكم، وكل الخطب العصماء التي يطلقها البيت الأبيض أو تطلقها هيلاري كلينتون عن إتاحة الحرية للشعب المصري لتقرير مصيره ما هي إلا فبركة إعلامية، فمن سابع المستحيلات أن تخسر أمريكا وإسرائيل مصر كبلد ذات موقعية إستراتيجية وأهمية أمنية. ولكن، إذا استمر الشعب بهذا القوة وبهذا الإصرار على عدم أمركة الحكومة الجديدة و طرد كل أرباب هذا النظام، فعلى الجميع القبول بذلك حتى ولو على مضض.

راهنت الحكومات العربية على أن النموذج التونسي لا يمكن أن ينتقل لمصر! وها هو انتقل فماذا بعد؟ هل ينتظرون المظاهرات والإعتصامات الشعبية ليفهموا مطالب شعوبهم؟

يا أيها الحكام : لا العنف، ولا القمع، ولا عزل الشعب عن العالم الخارجي، عبر حجب المواقع الالكترونية، قادرة على ثني الشعب وكبح جماحه, الشعوب الآن تعيش مرحلة انتقالية وصحوة وعي. لن أقول أكثر من ذي قبل، ولكنها أكثر علانيةً وتأثيرًا، والفتات لا يشبع الرغبات. الجميع يطالب بحركة إصلاحية واسعة المدى وتطبيق حقيقي للديمقراطية في العالم العربي.