دور الإمام السجّاد (ع) في الاعلام الرسالي

شبكة مزن الثقافية سماحة المرجعالمدرسي دامت بركاته
سماحة آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي دامت بركاته
سماحة آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي دامت بركاته

 
   الإعلام الرسالي هو الجهر بالقيم التي يدعو إليها الوحي. ولعلَّ الكلمة المرادفة له في المنطق الإسلامي “ الأذان “. وإذا كانت الدعوة إلى الله هي الركيزة الأولى لرسالات الله، فإنَّ الإعلام جانب أساسي منها.

   ولقد كانت واقعة الطف الرهيبة الفجيعة واحدةً من أعظم الإثارات الإعلامية. أولم يقل السبط الشهيد: أنا قتيل العبرة ؟ أولم يتواتر عن أئمة أهل البيت عليهم السلام فضلُ البكاء على الحسين عليه السلام وزيارة قبره، والدعاء تحت قبته؟

   وهذا الدور الإعلامي الذي كان الهدف من استشهاد الإمام الحسينعليه السلام إضطلع به الإمام زين العابدين عليه السلام، ومعه البقية العائدة من كربلاء، وبالذات عقيلة الهاشميين زينب الكبرى عليها السلام.

   وبقي الإمام عليه السلام خمساً وثلاثين سنة قائماً بهذا الدور حتى رسَّخ في ضمير الأمة قواعدَ الإعلام الحسيني المبارك على النحو التالي :

   1- كان أول وأعظم هدف لوسائل الإعلام الحسيني، إظهار الجانب المأساوي لواقعة الطف، لتبقى راسخة في ضمير الأجيال المتصاعدة، ولتكون شعلة متـَّقدة في أفئدة المؤمنين، تستثير فيهم حوافز الخير والفضيلة، وتدعوهم إلى الإجتهاد والإيثار، وليقولوا على مدى العصور: “يا ليتنا كنَّا معك فنفوز فوزاً عظيماً“، وليكونوا أبداً جنود الحق المتفانين في سبيل الله لكي لا تتكرر فاجعة الطف مرة أخرى؛ أو ليكونوا  إذا وقعت مشاركين فيها بسهم واف ، ومدافعين عن الحق بكل قواهم .

  ومن هنا نجد الإمام زين العابدين عليه السلام واحداً من البكَّائين الخمسة في عداد آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت محمد عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه .

   لقد بقي باكياً بعد واقعة الطف ثلاثاً وثلاثين عاماً، ما وُضع أمامه طعام إلاّ وخنقته العبرة وقال : لقد قُتل ابن بنت رسول الله جائعاً، فإذا جيء إليه بشراب انهالت دموعه فيه وقال: لقد قُتل ابن بنت رسول الله عطشاناً. وإذا مرّ على جزّار استوقفه وسأله: هل سقى الشاة ماءً، ثم طفق يبكي ويقول: لقد قتلوا سبط رسول الله ظامئاً على شط الفرات .

   وقد ضجَّ لبكائه مواليه وأهل بيته. قال له أحد مواليه مرة : جُعلت فداك يا بن رسول الله، إنِّي أخاف أن تكون من الهالكين، قال: إنما أشكو حزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون. إنِّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة[1].

   2- ولم يكن البُكاء الرسالة الوحيدة التي حملها الإمام زين العابدين عليه السلام إلى التاريخ، فقد كانت رسالة الكلمة الثائرة هي المشكاة الصافية التي تشع من خلالها رسالة الكلمة. فمنذ الأيام الأولى لملحمة كربلاء عملت كلماتُ آل البيت عليهم السلام وفي طليعتهم الإمام السجاد والصديقة زينب الكبرى عليهما السلام في هدم جدار الصمت والتردد والخوف، في الكوفة ، وفي الشام ، ثم في المدينة المنورة .

   وحينما فرّق عامل يزيد “ الأشدق “ أهل البيت في البلاد الإسلامية خشية انتفاضة أهل المدينة، حسب بعض الروايات التاريخية، رُفِعَ لظُلامة الحسين عليه السلام في كل حاضرة منبر وجهاز إعلامي مقتدر .

   ومن أشهر خطب الإمام السجّاد عليه السلام تلك الرائعة التي أوردها في مسجد الشام، والتي تحتوي على منهاج المنبر الحسيني الذي لو اتَّبعناه، لكان أبلغ أثراً وأنفذ في أفئدة الناس. وها نحن نتدبر في مفردات هذا المنهج قبل أن نستوحي معاً نص الخطاب :

   ألف: حدَّد الإمام أهداف المنبر إذ قال للخاطب الذي سبقه إلى المنبر: “اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوَّأ مقعدك من النار“.. وتوجه إلى يزيد وقال له: إئذن لي أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلماتٍ لله فيهن رضاً، ولهؤلاء الجلساء فيهنّ أجرٌ وثواب.[2]

   إذاً لابد أن تكون توجيهات الخطيب خالصة لوجه الله، وأن يبحث عما يُرضي الله، حتى ولو أسخط الطغاة، وأن ينطق بما ينفع الناس لا بما يضرهم.

   باء: ثم بدأ الحديث بذكر الله سبحانه، وحذَّر الناس عقابه، وذكَّرهم بالموت والفناء، ولا أبلغ من الموت موعظة ولا من الفناء رادعاً.

   وجاء في بعض الروايات أنَّ الناس قد أجهشوا بالبكاء عندما أكمل الإمام عليه السلام حديثه عن الآخرة، مما جعل قلوبهم خاشعة تستقبل ما بيَّنه بعدئذ من البصائر السياسية.

   جيم: وبيَّن الإمام عليه السلام خطــَّه السياسي الأبلج الذي ينتهي إلى سيد المرسلين محمد وأهل بيته المعصومين (صلَّى الله عليه وعليهم أجمعين)، وأسهب في بيان صفاتهم التي هي المثل الأعلى في اليقين والإستقامة والجهاد .

   دال: وأشهر الإمام عليه السلام ظُلامة السبط الشهيد، وحملها راية حمراء تدعو الضمائر الحرة إلى الجهاد من أجل الله وفي سبيل نصرة المظلومين.. وهذه هي أشدُّ محاور المنبر الحسيني إثارةً للعواطف وتهييجا لكوامن الحزن والأسى.

   هاء: وبعد أن أمر يزيد بأن يقطع عليه المؤذن حديثه لم يترك الإمام عليه السلام المنبر كما كان معهوداً، وإنما استوقفه عند الشهادة الثانية وحمّل يزيد مسؤولية قتل والده، مما يعني - في لغة العصر- وضع النقاط على الحروف. فلا يكفي للخطيب الحسيني أن يشير من بعيد إلى الحقائق السياسية، بل لابدَّ أن يصرّح بها بوضوح حتى يتبصر الناس وتتمَّ الحجة عليهم .

   وهكذا استطاع الإمام السجاد عليه السلام عبر هذا المنهاج الرائع أن يزلزل عرش يزيد زلزالاً حتى تنصَّل من جريمته النكراء، وتوجه إلى الجماهير الغاضبة التي كادت تبتلعه قائلاً: أيها الناس ، أتظنون أني قتلت الحسين، فلعن الله مَن قتله عبيد الله بن زياد عاملي بالبصرة[3].

   أمَّا خطاب الإمام عليه السلام الذي ينبغي أن يُتخذ مثلاً للخطَب الحسينية، فهو التالي:

   “ أيها الناس أحذركم الدنيا وما فيها، فإنها دار زوال، قد أفنت القرون الماضية، وهم كانوا أكثر منكم مالاً، وأطول أعماراً. وقد أكل التراب جسومهم، وغيَّر أحوالهم. أفتطمعون بعدهم، هيهات هيهات، فلابد من اللحوق والملتقى. فتدبَّروا ما مضى من عمركم، وما بقي فافعلوا فيه ما سوف يلتقي عليكم بالأعمال الصالحة قبل انقضاء الأجل وفروغ الأمل، فعن قريب تؤخذون من القصور إلى القبور، وبأفعالكم تُحاسبون. فكم - والله - من فاجرٍ قد استكملت عليه الحسرات، وكم من عزيز قد وقع في مهالك الهلكات، حيث لا ينفع الندم، ولا يُفات من ظَلم .. ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (الكهف،49) [4] .

   قالوا : فضجَّ الناس بالبكاء لبالغ أثر مواعظه في أنفسهم ثم قال :

   “ أيها الناس ، أُعطينا ستّاً وفُضِّلنا بسبع :

   أُعطينا العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبَّة في قلوب المؤمنين.   وفُضِّلنا بأنَّ منَّا النبيَّ المختار محمداً، ومنّا الصدّيق، ومنّا الطيار، ومنّا أسد الله وأسد رسوله ، ومنّا سبطا هذه الأمة .

  مَن عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي .

   أيها الناس! أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن مَن حَمل الرُّكن بأطراف الرداء، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حجَّ ولبَّى، أنا ابن من حُمل على الْبُراق في الهواء، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من ﴿َ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، أنا ابن من صلَّى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا: لا إله إلا الله .

   أنا ابن مَن ضرب بين يدي رسول الله بسيفَين، وطعن برمحَين، وهاجر الهجرتَين، وبايع البيعَتين، وقاتل ببدر وحنَين، ولم يكفر بالله طرفة عَين.

   أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكـّائين، وأصبر الصابرين، وأفضل القائمين من آل ياسين، رسول رب العالمين. أنا ابن المؤيَّد بجبرئيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر من مشى من قريش ٍأجمعين، وأول من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين، وأول السابقين، وقاصم المعتدين، ومبيد المشركين، وسهم من مرامي الله على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، وناصر دين الله، وولي أمر الله، وبستان حكمة الله، وعيبة علمه.

   سمحٌ، سخيٌّ، بهيٌّ، بهلولٌ، زكيٌّ، أبطحيٌّ، رضيٌّ، مقدامٌ، همامٌ، صابرٌ، صوَّام، مهذَّبٌ، قوّامٌ، قاطعُ الأصلاب، ومفرِّقُ الأحزاب، أربطهم عِناناً، وأثبتهم جَناناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدَّهم شكيمة، أسدٌ باسلٌ، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنَّة وقربت الأعنَّة طحن الرحا، ويذروهم فيها ذرو الريـح الهشيم، ليثُ الحجاز، وكبش العراق، مكيٌّ مدنيٌّ خيفيٌّ عقبيٌّ بدريٌّ أحديُّ شجريٌّ مهاجريٌّ. من العرب سيِّدُها، ومن الوَغَى ليثها، وارث المشعَرَين وأبو السبطَين: الحسن والحسين، ذاك جدي علي بن أبي طالب.

   ثم قال: أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيدة النساء.

   فلم يزل يقول: أنا أنا، حتى ضجَّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد (لعنه الله) أن يكون فتنة، فأمر المؤذِّن فقطع عليه الكلام. فلما قال المؤذِّن : الله أكبر، قال علي: لا شيء أكبر من الله، فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، قال علي بن الحسين: شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي، فلمّا قال المؤذِّن: أشهد أن محمداً رسول الله، إلتفت من فوق المنبر إلى يزيد فقال: محمّد هذا جدِّي أم جدُّك يا يزيد ؟ فإن زعمت أنّه جدك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنّه جدي فَلِمَ قتلتَ عِترَته ؟“[5].

وبهذه الكلمات استطاع الامام السجاد عليه السلام ان يهزّ عرش الطاغية يزيد، ويقلب الرأي العام في الشام ضده، ويفضح الجريمة النكراء التي ارتكبها بحق آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم.

 



[1]. المصدر ، ص 209 .
[2] . بحارالانوار، ج45، ص137.
[3]. المصدر ، ص 209 .
[4]. بلاغة الإمام علي بن الحسين عليه السلام، ص29، نقلاً عن: ناسخ التواريخ، ج2، ص484.
[5]. ناسخ التواريخ ، ج 2 في حياة الإمام زين العابدين ص 241؛ بحارالانوار، ج8، ص138-139.