نريد محامين
قراءة تجربة السود في الولايات المتحدة الأمريكية بما فيها من آلام ومعاناة نتيجة ظلم الإنسان لأخيه الإنسان بسبب اختلاف اللون الذي لا اختيار للإنسان فيه، وبما فيها أيضا من قصة كفاح مرير تضافرت فيه الجهود وتراكمت التضحيات لتصنع انتصار الإصرار والإرادة وتسجل ملحمة إنسانية ملهمة لكل من ينشد الخلاص من حالة العبودية والتمييز والإذلال.
أقول: قراءة تجربة السود تكشف الكثير من الجوانب المظلمة والمضيئة في تاريخ العلاقات الإنسانية، حيث شهدت من جانبٍ استفحال وتضخم الأنا العنصرية لدى شريحة واسعة من البيض الأمريكيين دفعتهم إلى استعباد الرجل الأسود ومعاملته معاملة بشعة يندى لها الجبين، وكذلك ممارسة الفصل العنصري الذي شكل وصمة عار اعتذر عن آثارها المشينة مجلس النواب الأمريكي بعد أكثر من قرن وبالتحديد في 31/7/2008 م؛ وشهدت من جانبٍ آخر إعمال المقاومة الشريفة بأشكال وطرائق متعددة للوصول إلى العدالة وتحقيق المساواة والمواطنة الكاملة للسود الأمريكيين.
تحدثت في مقال سابق بعنوان ( كيف نالوا حقوقهم؟ ) عن عناصر هامة كان لها الدور البارز عند السود في التحرر من العبودية ونيل الحقوق، إلا أن ما أريد التركيز عليه هنا هو ما يمكن أن يطلق عليه الكفاح القانوني، ونعني بذلك الممارسة الاحترافية لفئة من المختصين في المجالين القانوني والحقوقي والتي سعت إلى سن أو تطوير القوانين والتشريعات أو إعادة تفسيرها أو تعديلها بما يضمن تطبيق الحقوق الدستورية المشروعة للسود على أرض الواقع بشكل سليم.
وهنا تبرز شخصية المحامي الأسود تشارلز هاملتون هيوستون ( 1895-1950 م ) الذي كان يؤمن بأن المهمة الحقيقية للمحامي هي أن يطوّع القانون ليكون أداة لضمان توفير العدالة، وأن "المحامي إما أن يكون مهندساً اجتماعياً أو يصبح كالطفيل بالنسبة للمجتمع". لم يكن هيوستون محاميا مغمورا يسعى للشهرة ، فقد حصل على شهادة الدكتوراه في العلوم القضائية من جامعة هارفارد وعلى دكتوراه في القانون المدني من جامعة مدريد بإسبانيا، ولكنه كان صاحب قضية سخر من أجلها كل إمكانياته، حيث عمل بصورة غير متفرغة في كلية الحقوق بجامعة هوارد، وهي إحدى أبرز مؤسسات التعليم التاريخية للسود في أمريكا، والمسؤولة حسب بعض التقارير عن تدريب ثلاثة أرباع المحامين الأميركيين السود الذين مارسوا المحاماة لاحقاً. وفي غضون ست سنوات قام هيوستون بتحسين مستوى تعليم طلاب الحقوق الأميركيين الأفارقة، وحصل على اعتماد كامل للكلية، كما قام بتخريج مجموعة من المحامين المدربين في مجال الحقوق المدنية. ثم عمل بعد ذلك مستشارا قانونيا للجمعية الوطنية لتقدم الملونين، وأحاط نفسه بمجموعة مختارة من المحامين الشباب، معظمهم من جامعة هوارد. وبدأ هذا الفريق الفوز بالدعاوى القضائية في المحاكم الواحدة تلو الأخرى أمام المحكمة العليا. وكان هيوستون يختار القضايا المتعلقة بالتفرقة العنصرية بعناية للقضاء على الركائز القانونية للتفرقة العنصرية. وتمثل أعظم إنجاز له في وضع الأسس للمشكلة القانونية التي مثّلها مبدأ "منفصل لكن متساوٍ" الذي وافقت عليه المحكمة العليا سنة 1896م، حيث عمل بذلك على دق تجهيز نعش ما عرف شعبيا بقوانين جيم كرو.
مبدأ "منفصل لكن متساوٍ" أو قوانين جيم كرو تمثل في الواقع أساليب التحايل التي يبتكرها الإنسان بخبث ودهاء لتمرير الظلم بطرق قانونية، أي تطويع القانون ولي عنقه بما يكفل استمرار الوضع البائس على ما هو عليه. فبرغم أن الدستور الأمريكي جعل في العام 1868 م من العبيد السابقين مواطنين كاملي الأهلية يتمتعون بحقوق متساوية، إلا أن ذلك لم يكن كافيا، فبين امتلاك الحق وممارسته بون شاسع، فقد استمرت ولايات العبودية السابقة بتطبيق الفصل بين البيض والسود في المدارس والمطاعم ووسائل النقل وغيرها، وزاد الطين بلة أن قضت المحكمة العليا في العام 1896 م بأن رعاية الدولة لفصل عنصري وفقا لمبدأ "منفصل لكن متساوٍ" لا يمثل انتهاكا للدستور، فالجميع لهم حقوق متساوية ولكن منفصلين. وبهذا صار فصل السود عن باقي السكان أمرًا مشروعا بشكل قانوني، وأصبح أمرًا عرفيًا اعتاد الناس عليه حتى في الحالات التي لا تنص فيها قوانين جيم كرو صراحةً على منع السود من المشاركة.
عمل هيوستون ورفاقه على وضع استراتيجية قانونية للطعن في هذا المبدأ الجائر، وحققت نجاحا بعد سنوات من وفاته حين تم إلغاء قوانين جيم كرو في العام 1964 م.
كانت هذه محطة من محطات نضال السود في أمريكا، وهي محطة تستحق منا التوقف لاستيعاب دروسها جيدا، حيث نشكو من ندرة المحامين عموما، فضلا عن المحامين المتصدين للشأن العام، ولقضايا التمييز الطائفي التي نعاني منها بشكل خاص.