السباب ليست قاعدة قرآنية في أسلوب الدعوة إلى الله [1]
يقول تعالى: ﴿ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 108] .
تعتبر هذه الآية الكريمة قاعدة إسلامية لسلوك الدعوة في الحياة، وهي تريد إبعاد الدعاة عن أساليب السباب والشتائم ، في ما يخوضون فيه من صراع الفكر والفكر المضاد - سواء في ما يختلفون فيه من تقييم للمبادئ وللمواقف ، أو في ما يتنازعون فيه من تقييم لرموز أو أشخاص - لأنّ هذه اللغة تجر إلى ردود فعل حيث تضع الموقف في نطاق المهاترات ، وتبعده عن أجواء الحوار الهادئ الموضوعي ، وينتهي الأمر بهم إلى الفراغ والضياع .
وقد تحدثت الآية عن هذه القاعدة من خلال نموذج حي ، مما كان يبتلى به المسلمون الأولون ، من جراء ما يواجهونه من حقد المشركين وعداوتهم وطغيانهم ، فيرون أنّ السبيل الوحيد للتنفيس في سبّهم وشتمهم ، وكتعبير عن رفضهم لكل ما يعبدون وما يشركون بالله ، وربما أدّى ذلك إلى أن يخلق في داخل المشركين لوناً من ألوان الإثارة والاستفزاز، فيكون رد الفعل أن يواجهوا السبّ بسبٍّ مثله .. فيسبوا الله ، تنفيساً عن غيظهم ، وتعبيراً عن حقدهم ، وتحقيراً للمؤمنين به .
وقد أراد الله في هذه الآية ، أن ينهى المسلمين عن المبادرة إلى سب الذين يدعون من دون الله بغير علم ، أو سب آلهتهم في عملية المواجهة ؛ لأنّ ذلك لن يحقق أية نتيجة إيجابية لمصلحة الإيمان ، لأنّ المقصود من الدعوة هو الوقوف ببرهان على مقتضيات الأمور الذي يتميز به الحق عن الباطل ، وأما السباب فمن شأنه أن يؤدي إلى تعقيد الأمور بطريقة أكبر ، وإقامة الحواجز النفسية ضد الإيمان والمؤمنين ، وتحويل الموقف إلى سب الله من قبل المشركين .
ولذا لا يجوز للإنسان الذي يحترم نفسه ومصيره ، أن يخضع لحالة انفعالية طارئة ، فتكون تصرفاته رد فعلٍ عصبي لتلك الحالة .
وفي الصحيح عن أبي بصير، عن الباقر قال: "إِنَّ رَجُلًا مِنْ تَمِيمٍ أَتَى النَّبِيَّ ( ص ) فَقَالَ: أَوْصِنِي، فَكَانَ فِيمَا أَوْصَاهُ أَنْ قَالَ: ( لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْسِبُوا الْعَدَاوَةَ لَهُمْ )
وفي الصحيح عن أبي حمزة الثمالي ، عن الباقر قال : خَطَبَ رَسُولُ اللهِ النَّاسَ فَقَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ " ؟.
قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: " الَّذِي يَمْنَعُ رِفْدَهُ، وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ، وَيَتَزَوَّدُ وَحْدَهُ " .. فَظَنُّوا أَنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقاً هُوَ شَرٌّ مِنْ هَذَا .
ثُمَّ قَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ"؟.
قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: "الَّذِي لَا يُرْجَى خَيْرُهُ، وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ" .. فَظَنُّوا أَنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقاً هُوَ شَرٌّ مِنْ هَذَا.
ثُمَّ قَالَ : "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ "؟.
قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ .
قَالَ: " الْمُتَفَحِّشُ اللَّعَّانُ ؛ الَّذِي إِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ الْمُؤْمِنُونَ لَعَنَهُمْ ، وَإِذَا ذَكَرُوهُ لَعَنُوهُ ".
وجاء في بعض كلمات الإمام علي ( ع ) - في ما كتبه لعبد الله بن عباس -: " فَلا يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ مِنْ دُنْيَاكَ بُلُوغُ لَذَّةٍ أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ وَلَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ أَوْ إِحْيَاءُ حَقٍّ ".
وعلى هذا، فإنّ السب الذي يستتبع مثل هذه النتيجة السيئة لن يشارك في إحياء الحق وإطفاء الباطل، بل يمثل مجرد حالة ذاتية من بلوغ لذة أو شفاء غيظ، فلا يجوز للمسلم أن يبادر إلى ذلك ، لأنّه يسيء إلى الهدف ، في ما يثيره من سلبيات ضد قضية الإيمان ، وفي ما يحققه من إيجابيات لقضايا الكفر .
من وحي الآيـة :
ومن هذه الآية الكريمة نستوحي المبدأ الذي يدعو إلى الكف عن أي نوع من أنواع السباب الذي يؤدّي إلى ردود فعل سلبية ، في أي موقعٍ من مواقع الصراع الفكري والديني والسياسي والاجتماعي ، للحيثيات نفسها التي تفرض النهي في مورد الآية .
وفي ضوء ذلك، نحب التأكيد على ما قد يحدث عند الخلافات الدائرة بين المسلمين حول تقييم بعض الشخصيات الإسلامية التاريخية أو المعاصرة، بين من يحترمها ويعظمها، وبين من لا يحترمها ولا يعظمها، فقد نجد الخلاف يحمل -في طريقة ممارسته- بعض ألوان السب لهذه الجهة أو تلك ، ما يوجب مزيداً من العداوة والبغضاء والتمزق والعصبية العمياء التي قد تؤدي بالحياة الإسلامية إلى الضياع ، كما قد يفرض على الساحة الإسلامية وضعاً منحرفاً يعيش المسلمون معه أجواء المهاترات والكلمات غير المسؤولة .
وقد جاء في نهج البلاغة ، في ما يروى عن الإمام علي ( ع ) أنّه سمع قوماً من أهل العراق يسبّون أهل الشام، عندما كان يخوض المعركة في صفين ضد معاوية، فوقف فيهم خطيباً قائلاً:
" إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ، وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلالَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ ".
وقد جاء في اعتقادات الإمامية للصدوق والمفيد - رحمهما الله - أنّ أحدهم سأل الإمام الصادق ( ع ) : يا ابن رسول الله إنا نرى في المسجد من يعلن بأسماء أعدائكم ويسبهم ؟ فقال: " ماله لعنه الله يعرّض بنا ".
إننا نريد للمسلمين أن يرتفعوا إلى هذا المستوى الذي يعيشون من خلاله روحية الإسلام وانفتاحه ورحمته ومسؤوليته وواقعية أحكامه في الحياة ، ليتمكنوا، في ذلك، من الوصول إلى النتائج الإيجابية الكبيرة على مستوى الوحدة ، وعلى مستوى سلامة المصير وسلامة الدين .