الأمة واقتراف الذنوب الحضارية
كما هو الحال في الفقه الإسلامي حيث الفرد وليس الأمة هو محور معظم المسائل التي يجيب عليها الفقيه أو يستنبط أحكامها؛ فقد تسرب هذا إلى التفسير أيضا. فنلاحظ أن كثيرا من المفسرين لم يفرقوا بين الكتاب في قوله تعالى: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ – الجاثية 28 والكتاب في قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ – الإسراء 14 ، إذ يرون أن الكتابين واحد وهو كتاب تسجيل الأعمال الفردية المذكور في الآية الثانية، على الرغم من حديث الآية الأولى عن حساب جماعي للأمة كأمة. وقد تنبه لذلك بعض المفسرين كصاحب تفسير الأمثل الذي يقول: وتعبير كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا يوحي بأن لكل أمة كتابا يتعلق بأفرادها جميعا، إضافة إلى صحيفة الأعمال الخاصة بكل فرد. ويضيف موضحا: ولا يبدو هذا الأمر عجيبا إذا علمنا أن للإنسان نوعين من الأعمال: الأعمال الفردية والأعمال الجماعية، ولذلك فإن وجود نوعين من صحائف الأعمال يبدو طبيعيا جدا من هذه الناحية.
الحديث عن كتاب لأعمال الأمة يقتضي بالضرورة الحديث عن السبيل المؤدي إلى رفعة الأمة وفوزها، وعن السبل التي تنتهي بها إلى الدرك الأسفل من التخلف، ففي ثقافة القرآن لا ترتفع أمة أو تنتكس أخرى لأسباب خارجية، بل يشكل السبب الداخلي الواقع ضمن دائرة نفوذ الأمة العامل الأساس للنهوض أو السقوط:
﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ الرعد 11
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ الأنفال 53
﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾ الشورى 30
كل ما تفعله الأسباب الخارجية هو استثمار البيئة الخصبة لتحقيق أغراضها؛ وهذا بالضبط ما يفعله الاحتلال أو الاستبداد في كل مكان، إذ لولا وجود القابلية للاحتلال أو الاستبداد لما تمكنا من بسط نفوذهما على العباد والبلاد.
وكما يرتكب الفرد ذنوبا ومعاصي تؤدي إلى الخسران إن لم يتداركها بالتوبة، كذلك قد تقترف الأمة بعض الكبائر الحضارية تكون نتيجتها الانضمام إلى قائمة ما يسمى مجاملة بالدول النامية أو تحت النامية أو ربما فنائها. والمشكلة أننا نركز على المعاصي الفردية ذات الأثر المحدود غالبا، ونهمل المعاصي التي يمحق الله بسببها البركة على مستوى الأمة وكان تركيز القرآن عليها كبيرا.
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ الأعراف 96
فمن تلك الذنوب الحضارية التي أكد عليها القرآن الظلم بكافة أشكاله، والاستبداد، والتمييز الطائفي، وبخس الناس أشياءهم أي عدم تقدير كفاءاتهم، والعبث بمقدرات الأمة، والاحتراب الداخلي وغيرها، فقد ذكر الله في غير آية أنه لا يحب الظالمين، ولا يحب المعتدين، ولا يحب المفسدين، ولا يحب المستكبرين؛ وبين الممارسات الطاغوتية الفرعونية المتمثلة في الاستبداد وممارسة التمييز ضد بني إسرائيل:
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ القصص 4
كما استنكر العبث بالمقدرات وغياب الهدفية والتخطيط من الفعل الاجتماعي:
﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ﴾ الشعراء 128
ونهى عن التنازع والتخاصم وتمزيق المجتمع والأمة:
﴿ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ الأنفال 46
كما نهى عن ممالأة المنكر والسكوت عليه:
﴿ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ المائدة 79
والاستطراد في ذكر المعاصي الحضارية التي تطرق لها القرآن يحتاج إلى بحث مستقل، ولكنني سأختم الحديث بما أعتبره سبقا قرآنيا حضاريا حيث لم يكتفِ بالنهي عن الظلم أو الإعانة عليه، بل قد جعل الراضي بالظلم شريكا في الظلم حتى وإن تباعدت الفترة الزمنية الفاصلة بين وقوع الظلم والرضا به.
ففي تفسير قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ آل عمران 183، ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: كان بين القائلين والقاتلين خمسمائة عام، فألزمهم الله القتل برضاهم ما فعلوا.
لقد تخلفنا كثيرا وسنظل متخلفين لأننا نمارس الكبائر الحضارية دون أن نشعر بالذنب.