المرجع المدرسي: الجهل والغفلة و الكفر حجب تمنع الانسان من الفلاح ..
ملخص تفسير(بينات من فقه القرآن الكريم) ليوم السادس من شهر رمضان المبارك1431هـ
دعا سماحة المرجع الديني اية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي دام ظله الى التفكر في الخلقة للتخلص من حاجز الغفلة الذي يلف الانسان في دار الدنيا. جاء ذلك خلال محاضرته اليومية التي يلقيها في شهر رمضان المبارك على عدد غفير من العلماء و الخطباء.
و في خلال تفسيره للاية الخامسة من سورة الروم تحدث سماحته عن الوعد الالهي بالنصر لعباده وقال: من اعظم و اجل اسماء الله الحسنى انه صادق الوعد، فهو يفي بما وعد عباده به. فمن جهة عند الدعاء و طلب الحاجات يجب ان نعلم بأن الله لا تمنعه سننه و قوانينه من ان يمضي اوامره – وهو ما اوضحناه في الليالي السابقة-.
لكن هناك شبهة عند البعض يجعلهم يشكون في صدق وعد الله، يقولون ان القدرة و العظمة و القوة، اذا كانت كلها لله و هو الذي (لا يُسأل عما يفعل) فما هو الضامن أن يفِ الله بوعده؟ اقول ان هذه الشبهة هي من وساوس الشيطان، فالله صادق الوعد و هو الذي قد ضمن لنا هذا الامر حيث يقول في اية اخرى (كان على ربك وعداً مسؤولا).
يقول تعالى: (بنصر الله ينصر من يشاء و الله عزيز حكيم) ثم يقول (وعد الله)
فالله قد قطع وعده بالنصر لعباده، لكن يجب ان ننتبه ان النصر ليس امراً بسيطا.
صحيح ان الدنيا دار بلاء و امتحان، و اعطيت – لاجل ذلك – بعض الحرية للانسان ، ولكن ذلك لا يعني ان هذه الحرية مطلقة، فلا يُترك العاصي الى الأبد بل يُمهل قليلا ثم يُؤخذ اخذ عزيز مقتدر. فحينما يقول الله سبحانه وتعالى (ان تنصروا الله ينصركم) ويقول (بنصر الله ينصر من يشاء) ثم يقول (وعد الله) ليتذكر المؤمنون في معامع الحياة ، عندما يعذب في قعر السجون ، او عندما يخوض غمار المعارك ضد الطغاة و المشركين و يتحمل الألام و الجروح ، يتذكر (لا يخلف الله وعده).
مشاكل دار الدنيا: الجهل و الغفلة و الكفر
لكن المشكلة: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، فالمشكلة الاولى هي مشكلة الجهل.
لماذا ؟ ربنا يجيب (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ).
يتبين لنا ان هناك مشكلة اخرى في دار الدنيا تلف الناس و هي مشكلة (الغفلة)، فالناس غافلون عن الحقائق الاساسية في هذا الكون، وهنا تطرح عدة تساؤلات:
اولاً: لماذا يجب ان ننتبه الى غفلتنا و لا نغفل عنها؟
ثانياً: ما معنى قوله سبحانه وتعالى (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ) و نحن نتعامل مع الدنيا في كل لحظة من اللحظات و نحتك بها دائما و ابدا، فهل لا نعلم عنها شيئا؟
ثم يقول ربنا سبحانه وتعالى :(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) فالمشكلة الثالثة هي الكفر بالله سبحانه وتعالى.
لكن يبقى السؤال الثالث : ما هو الارتباط بين هذه المواضيع الثلاثة المتسلسلة في هذه الايات : الجهل و الغفلة و الكفر؟
- التذكر
للاجابة على السؤال الاول نقول ان اذا نظرت الى الدنيا من حولك ، رأيت كل الدواب بل و كل الجمادات تسبِّح بحمد ربها و تحمده على نعمه (وإن من شيء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) فكل ما في الكون يسبح الله و هو في حالة الذكر، فكيف يريد الانسان ان يكون وحده الغافل ، هذا اولا.
ثانياً: الدنيا جسرٌ لمعرفة الاخرة، فمن دون معرفة المقصد و المنتهى لا فائدة من معرفة الدنيا. فالجسر يسلك للوصول الى المقصد و ليس الجسر هو الهدف. فمن غفل عن هذه الحقيقة كان مثله مثل من سلك جسراً جميلا ينقله الى الهاوية او مشى في شارع يهديه الى التيه والضلال. فالغفلة عن الاخرة ، غفلة عن عواقب الامور. فاذا جيء اليك بافضل الاطعمة والذها عندك، لكن عرفت انها مسمومة، فهل تأكل منها؟ كلا.. كذلك بالنسبة الى الدنيا و الاخرة وجميع الامور.
ثالثا: نقرأ في رواية عن الامام علي عليه السلام: (الله خلق الجنة دار ضيافته و النار دار عقابه، ثم اخذ ضغثا من هذا و ضغثا من هذا و خلق الدنيا).
فلأن الدنيا هكذا – مزيج بين الخير و الشر، بين الحق و الباطل ، بين النور و الظلمات- و الإنسان بطبعه هكذا (انا هديناه السبيل اما شاكرا و اما كفورا) ففي الانسان ايضا يوجد جانبان، جانب الانسانية التي ترفع به الى اعلى عليين و جانب الشهوات التي تجره الى الدركات، ففيه الخير والشر، فاذا استطاع ان يتغلب على جانب الشر، على الشهوات، على الظلمات التي بداخله و انتصرت نورانيّته عليها يستطيع ان يسمو ويتكامل.
إذن، فإن جزءً من واجب الانسان أن يحارب هذه الغفلة التي بداخله و بعبارة اخرى: ان لا يغفل عن الغفلة.
- كيف نتحدى حاجز الغفلة
لكن اذا اردنا و بصورة نظرية ان نتغلب على الغفلة، ماذا نفعل؟
ربنا سبحانه و قبل بيان حقيقة الغفلة يقول (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) فكأن الغلبة على الغفلة يكون بتحدي هذا الجانب. علينا ان نفلق الدنيا و نرى باطنها، فما هو باطنها (انا خلقنا السموات و الارض وما بينهما بالحق واجل مسمى) فباطنها الحق، و باطنها اجل مسمى. اما بالنسبة الى هاتين المفردتين سنوضحهما في الليالي القادمة ان شاء الله.
- الجهل بباطن الدنيا
للاجابة على السؤال الثاني نقول اننا و ان نعلم الكثير من القوانين الحاكمة في هذا الكون، كقوانين الفيزياء و الكيمياء و الفلك والجيولوجيا، الا ان ذلك كله يشكل (ظاهرا من الحياة الدنيا). فنحن لا نعلم الا العلل و المعلولات ، نعلم السبب و المسبب، لكن ما نجهله ولا ننتبه اليه هو (هدف هذه الدنيا).
فنحن نعلم كيف نعيش في هذه الحياة، لكن لماذا نعيش؟ لا نعلم.. لماذا جئنا الى هذه الارض، لماذا نأكل و نشرب ، الحقيقة ان اغلبية البشر اليوم لا يعلم ذلك. الان هناك في العالم علم جديد يعود ولادته الى ستينيات القرن الماضي ، و هو ما يسمى بــ(علم القيم)، يبحث عن القيم التي يؤمن بها الافراد ، كالصدق و العدل و الاحسان و.. فاحتاروا – و هم لا يؤمنون بالاخرة- عن سبب هذه الامور عند الانسان؟ لماذا على الانسان ان يكون صادقا بل لماذا يرى الصدق جيدا و الظلم قبيحاً؟ لماذا علينا ان نكون صالحين، نساعد الاخرين و نخلص في اعمالنا.
فالدين هو الوحيد المتكفل بالاجابة على هذه الأسئلة، فهم يعرفون كيف يعيشون، لكن ما هو الهدف من هذا العيش؟ و لذلك – و من المفارقات العجيبة- نجد ان أكبر نسبة من الانتحار يقع في الدول الاكثر تطورا في العالم، لأنهم لا يجدون ما يعيشون لأجله و يكافحون له.
و حث سماحته في نهاية حديثه المؤمنين على الدعاء من الله سبحانه لكي يقوي ارادتهم في طلب الاخرة، مستشهداً بمقطع من دعاء مكارم الاخلاق (و وفر بلطفك نيتي).
يذكر ان سماحة المرجع الديني اية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي دام ظله، قد اغنت تأليفاته في جميع الحقول المعرفية المكتبة الاسلامية بالكثير من الأفكار و الاطروحات الجديدة، التي يستفيد منها العلماء و الخطباء كما يستفيد منها المثقفون و الشباب الرساليون. حيث تتسم افكاره بالدقة و الموضوعية و العمق من جانب و بسهولة الطرح من جانب اخر، و تتميز جميع هذه التأليفات بالطابع القراني، حيث لا يكاد ان ترى فكرة الا ولها شواهد قرانية. و من جملة تأليفاته كتاب "التشريع الاسلامي اصوله و مناهجه" حيث يعد ابداعا جديدا في الفقه والأصول. كما له تأليفات قرانية ابرزها "تفسير من هدى القران" و "بينات من فقه القران" و كتب قيمة اخرى في شتى حقول المعرفة.