من إسهامات الشيخ الطوسي نحو العلم الحديث(*)
عندما نتحدث عن الحضارة الإسلامية ومنجزاتها المعاصرة أو التاريخية فإننا نفعل ذلك من باب السعي لتطوير واقعنا عبر استثارة العقول وتحفيز الطاقات ومعرفة مواطن القوة والضعف وعوامل النجاح والفشل. كذلك نستفيد من هكذا الحديث أن الإسلام لم يكن يوما سببا للتخلف -كما يروج البعض ويدعون للاقتداء بالنموذج الفلاني والدولة الكذائية في عزل الدين عن العلم وعن الحياة-، بل كان الإسلام في الحقيقة دافعا ومحركا رئيسيا للمعرفة والتقدم في البلاد التي ساد فيها، ولذلك فإنه ينبغي لنا أن نبحث عن أسباب التخلف الحقيقية في مواضع أخرى غير الإسلام، وهذا ربما ما لا يريده هؤلاء خوفا أو طمعا. وأهم ما يمكن أن نجنيه من هذه الإثارات هو مواجهة ثقافة الهزيمة وثقافة الاستسلام النهائي لواقع التخلف والفشل حتى قبل الشروع في محاولات جادة للتغيير لما هو أفضل.
إننا عندما نتأمل في إنجازات هذه الأمة –وإن ندرت في هذا العصر-، فإننا ندرك أنه ليس مكتوبا علينا أن نبقى متخلفون إلى قيام الساعة، فنحن لسنا متخلفين بالفطرة، ولسنا مصابين بخلل جيني، وتركيبة أدمغتنا لا تختلف عن تلك التي توجد في رؤوس الغربيين أو اليابانيين وغيرهم من الأمم المتقدمة، كما أن لدينا من الإنجازات على أرض الواقع ما يكفي لإثبات هذه الفكرة.
فأين الخلل إذا؟ وما هو الحل؟
إننا قادرون على الاكتشاف والاختراع وعلى مسابقة الأمم الأخرى في جميع الميادين المتقدمة إن خرجنا من حالة استصغار النفس، فأخطر سلاح يدمر الأمم ويبقيها في الحضيض متقممة على ما تجود به عقول الغير دون أن تقدم أي جديد هو الهزيمة النفسية القاتلة لجهود التغيير والموحية بالبقاء في حالة التخلف لأجل غير مسمى.
ومن علماء هذه الأمة الذين خدموا الإنسانية باكتشافات وإبداعات سبقوا بها من كان قبلهم وأبهروا من جاء بعدهم وجعلوا من أمتهم الأمة الأكثر تقدما في العالم هو الشيخ العظيم أبو جعفر محمد بن محمد بن الحسن الطوسي المعروف بـ "الشيخ نصير الدين الطوسي" (597هـ - 672هـ) (1201م – 1274م).
رغم مكانه الديني المرموق، لم يقتصر نتاج الشيخ الطوسي على العلوم الدينية كالتفسير وعلم الكلام والفقه والحديث فقط، بل شمل علم المعادن وعلم الفلك والطب والهندسة والفيزياء والرياضيات والجغرافيا والمنطق والفلسفة وغيرها من العلوم حتى أصبح من أبرز المفكرين في عصره. وأكثر ما اشتهر به الشيخ الطوسي هو إنجازاته غير المسبوقة في علم الفلك والتي ستكون محط تركيزنا في هذه الأسطر المختصرة التي لا تفي بشيء من حق هذا الرمز الإنساني العظيم الذي لقب بـ "أستاذ البشر" والذي عدّه البعض أعظم عالم مسلم على الإطلاق.
مرصد "مراغة".. بوابة فتوحات علمية
فتحت أعمال الشيخ الطوسي في ألموت(1) وفي المرصد الذي بناه في مراغة(2) في القرن الثالث عشر الميلادي الطريق لعلم الفلك الحديث، كما يقول العلماء. كما أن الكثير من اكتشافات الفلكيين الأوروبيين تُنبأ بها في أبحاث الطوسي وزملائه في مراغة. وكانت أعمال الشيخ الطوسي مبنية على نتائج مشاهداته وملاحظاته العلمية في المرصد، وهذه أحد أهم النقاط التي ميزت الفلكيين المسلمين عن الفلكيين الإغريق الذين كانوا يعتمدون بشكل كبير على الحسابات النظرية.
كانت المشاهدات العلمية في الفترة الإسلامية الأولى صغيرة ومرتبطة في الغالب بجهود فردية، ولكن مع تأسيس الطوسي لمرصد مراغة عام 657هـ (1259م) وُلِد أول معهد علمي حديث وكبير يجتمع فيه العديد من العلماء للعمل والتعليم كان أحدهم عالم صيني يدعى فاو من جي (Fao Mun-Ji). اجتماع هذا العدد من العقول الفذة المتخصصة في علوم مختلفة جعل من صناعة الأجهزة الجديدة ومن تشغيل المرصد بمستوى يتم فيه جمع الحسابات والمشاهدات على يد "فِرَق" –وليس أفرادًا- من العلماء العاملين -تحت توجيهات الشيخ الطوسي- أمرا ممكنا على أرض الواقع.
كان مرصد مراغة مصدر الإلهام لمرصد سمرقند الذي بناه أولغ بك في القرن الرابع عشر الميلادي والذي كان بدوره الأنموذج والقدوة للمراصد الأوروبية الأولى مثل المراصد التي استخدمها كل من تايكو براهه (المشهور بأرصاده الدقيقة) و كبلر (من مؤسسي علم الفلك الحديث).
المشاهدات المباشرة مقترنة بتطبيق الرياضيات على علم الفلك قادت إلى اكتشافات جديدة وقراءات أكثر دقة في الكثير من نواحي علم الفلك ووضع جداول محدّثة للنجوم تتضمن الكثير من النجوم الجديدة، كما تم إعادة حساب ميل مسار الشمس. كذلك، قادت التقنيات الحسابية المستخدمة إلى اكتشافات جديدة تتعلق بمدارات الكواكب، بينما جعل استخدام علمي المثلثات والحساب من كل هذه الحسابات أكثر دقة من التي سبقتها مما أضفى عليها قيمة علمية أخرى.
و في مراغة أيضا، أسس الشيخ نصير الدين الطوسي مكتبة ضخمة حوت أكثر من 400 ألف مجلدًا جُمعت من بغداد وسوريا والموصل وخراسان.
دوران الأرض حول الشمس.. بين الطوسي ونيوتن وغاليليو وكوبرنيكوس
قدّم الشيخ الطوسي وفريقه جزءً كبيراً من المعرفة العملية التي تمكن بواسطتها كل من غاليليو ونيوتن من دحض النماذج التي بنيت على فيزياء أرسطو و فلك بطليموس.
لقد وصل علم الفلك الإسلامي إلى ذروته في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلادي عندما تجاوز الطوسي ومن خلَفه من العلماء حدود رؤية بطليموس للعالم والتي كانت مسيطرة على الأجواء العلمية لألفية كاملة من الزمن. فمن إنجازات الطوسي نقده الشديد لنموذج بطليموس للكواكب الذي كان يرى فيه أن الأرض هي مركز الكون، وبدلا من ذلك جاء الطوسي بنظام كواكب جديد ذكره في كتابه "التذكرة في علم الهيئة". في هذا النظام الكوكبي أتى الطوسي بنظريات رياضية لإصلاح الخلل في الهيئة الفلكية لبطليموس بخصوص حركة الكواكب.
لقد كان تطبيق نموذج الطوسي للكواكب على حركة القمر -على يد ابن الشاطر- هو ما أنتج النموذج القمري الذي سبق النموذج الذي استخدمه كوبرنيكوس بأكثر من 100 عام وكان متطابقا معه إلى حد كبير -علما بأن كوبرنيكوس هو من نقض نظام بطليموس تماما وفتح بذلك الباب للنظريات الحديثة-. ولوضوح آثار نظام الطوسي على عمل كوبرنيكوس، أطلق علماء الغرب اسم "مزدوجة الطوسي" على ذلك النظام أي مزدوجة الطوسي وكوبرنيكوس.
نجح نموذج الطوسي ومساعديه نجاحا باهرا في تحديد خطوط طول القمر وبعده عن الأرض، واعتبرت هذه النظرية الجديدة للكواكب أهم إنجاز للمسلمين في علم الفلك. هذه النظرية وصلت إلى العلماء الأوروبيين في عصر كوبرنيكوس عبر العلماء البيزنطيين الذين ترجموا الكثير من أعمال العلماء المسلمين كما يعتقد بعض الدارسين.
إنجاز قبل الرحيل
قبل رحيله عن هذا العالم بستة أشهر فقط، انتهى الشيخ الطوسي من إنجاز علمي آخر استغرق العمل عليه أكثر من 12 عاما وحوى مجموعة منقحة من الجداول الفلكية. نسخ هذا الإنجاز تحت الإشراف المباشر من الشيخ الطوسي وعرف بـ "الزيج الإيلخاني" واشتهر شهرة كبيرة بين العلماء وظل حتى فترة قريبة معتمداً في الدراسات الفلكية في أوروبا.
تنقسم هذه المخطوطة إلى 4 أقسام تتناول: التواريخ، حركة الكواكب ومواقعها في خطوط العرض والطول، تحديد الأوقات والأبراج، وأعمال النجوم.
لقد رحل الشيخ الطوسي وخلّف للبشرية إنجازات عظيمة غيرت وجه العالم ومسار العلم للأبد، كما خلّف الكثير من العلماء الأفذاذ في مختلف المجالات من أمثال الشيخ قطب الدين الشيرازي صاحب مخطوطة "التحفة الشاهيّة في الهيئة" التي أعطت أفضل اعتبار لعلم الفلك في العالم الإسلامي، والعلّامة ابن المطهر الحلي الذي "كان من أعلام الفقه والشريعة ومن أبرز مفكري عصره في الكلام والفلسفة".
ندعو الله العلي القدير أن يكون استذكار بعض سيرة هذا العالم العظيم حافزا لنا للنهوض والتقدم، وأن يوفق علماء هذه الأمة في كل المجالات لخدمة البشرية، وأن يوفقنا لتقديرهم والشد على أيديهم لتجني الأمة ثمارهم.