السيدة الحقوقية الأولى
كثير من الناس لا يطالبون بحقوقهم، إما جهلا بها أو تهربا من تحمل المسؤولية تجاهها، وأقصى ما يفعلونه أن يطلبوا ممن يتصدى لها ما طلبه بنو إسرائيل من نبيهم ﴿اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون﴾ . هذه الحالة من اللامبالاة أو الاتكالية تساهم في استهلاك الطاقات المحدودة للقوى الاجتماعية الفاعلة وعدم قدرتها على تحقيق إنجازات ملموسة.
ومن هنا فإن استحضار النموذج الرائع الذي قدمته السيدة فاطمة الزهراء في تصديها الشخصي للمطالبة
بحقها، والطرق التي سلكتها في هذا السبيل، يبقى ذا نكهة مميزة لعدة أسباب، من بينها:
أولا: لأنها امرأة، مما يقيم الحجة البالغة على الجنسين، ويسلب أعذار المعتذرين وتبريرات المقصرين.
ثانيا: لأنها في ريعان شبابها، وهذا يعني أن الفتاة والفتى لا ينبغي لهما أن يقعدا عن المطالبة بحقوقهم اتكالا على أنها مسؤولية الكبار.
ثالثا: لأنها بنت رسول اللهالتي وصفها بأحسن الأوصاف باتفاق المسلمين، لا من منطلق الأبوة الحانية، بل من منطلق الحق الذي لا ينطق عن الهوى، فهي خلاصة تربيته الكريمة التي يجب أن نقتدي بها لننشئ جيلا يسعى حثيثا لنيل حقوقه.
رابعا: لأنها ابتكرت العديد من الأساليب السلمية الاحتجاجية مما يصلح أن يكون نواة لمدرسة متميزة في هذا المجال.
لقد تنوعت أساليب مطالبة الزهراء بحقوقها، حيث ابتدأت مرافعاتها طالبة استرداد فدك باعتبارها نِحلة نحلها لها أبوها، وهِبة منه أعطاها إياها في حياته . ولما طولبت بالبينة على ذلك- وما كان ينبغي أن تطالَب ببينة كونها صاحبة اليد على فدك أيام حياة أبيها ، واليد أمارة الملكية- أتت بأنصع البينات ممثلة في الشهود علي وأم أيمن ثم أضافت لهما الحسنين وأسماء بنت عميس، كل ذلك كي لا تبقى عند خصمها حجة أو ذريعة.
وبعد انسداد باب النحلة ورفض الشهود لم تستسلم إذ طالبت بحقها من أبواب متفرقة، واحد بعد الآخر، بدأت بباب سهم ذي القربى مستشهدة بآية الخمس، ولما انسد دخلت من باب الإرث مناشدة الضمير العام الإسلامي: أيها المسلمون أأغلب على إرث أبي؟! وردت على دعوى عدم توريث الأنبياء بمحكم الآيات في استدلال يكشف جانبا من شخصيتها العلمية التي أثنى عليها
رسول الله في أكثر من موضع قائلا: فاطمة بضعة مني.
وكما ترافعت الزهراء بأساليب مختلفة، فقد تنوعت طرق المطالبة، فابتدأت بطرح قضيتها على المستوى الخاص مع الأشخاص المعنيين بها مباشرة، ولما لم تجد حلا رأت أن تطرح القضية أمام الرأي العام، فقصدت مسجد أبيها رسول الله في مسيرة سلمية يصفها الرواة هكذا: "وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها"، وألقت هناك خطبتها التي عبرت فيها عن رأيها في الأحداث السياسية الجارية آنذاك بكل شجاعة ووقار، وألقت بالمسؤولية على جميع الحاضرين دون استثناء.
ثم أردفت ذلك بطوافها وعلي عليهما السلام على بيوت الأنصار بيانا لحقها وطلبا للنصرة وإقامة للحجة، ثم اختارت أسلوبا آخر تمثل في البكاء غير المنقطع ليلا ونهارا كي تبقي قضيتها حية حاضرة، ثم لما طلب منها أن تمتنع من البكاء في دارها خوفا مما كان يمكن أن يحدث من أثر على المستوى الاجتماعي، اختارت أن تبكي خارج المدينة تحت ظل أراكة، ولما قطعها القوم بنى لها علي بيتا من جريد النخل في البقيع سماه بيت الأحزان.
أما آخر الأساليب الاحتجاجية المبتكرة فكانت وصيتها بأن تدفن ليلا وأن يعفى قبرها حتى لا يعرف مكانه، وهو أسلوب يكشف الحرص على قضيتها حتى بعد وفاتها.
أظن أن هذا النموذج الفذ تجربة رائدة تحتاج لدراسة علمية أعمق من قبل متخصصين بعيدا عن الأهواء والمواقف المسبقة حتى نستطيع اكتشاف هذه السيدة العظيمة التي ظلمها التاريخ.