آخر ما تبقى من سوق الحدادين بالقطيف
آخر ما تبقى من سوق الحدادين بالقطيف
خرجنا باكراً وسرنا عبر طريق زراعي طويل انتهى بنا نحو مبنى قديم متهالك لا يبدو أن به وسائل تبريد أو تهوية ، فلا كهرباء موصوله به سوى بضعة أسلاك تكفي مصباح ومروحة متهالكة، كان هذا المبنى يضم آخر ما تبقى من سوق الحدادين بالقطيف ، وهو عبارة عن (4 محلات) مطفأة الحياة في صباح ذاك اليوم ، غير أن اثنان أو 3 فقط منها ، هي من تزاول عملها بشكل دائم ، وكان مقصدنا باتجاه المحل الوحيد الذي افتتح بابه ذاك الصبح وهو محل في الزاوية اليمنى يخص الحداد "عيسى أبو سعيد" الذي استقبلنا بابتسامة رضا وترحيب تعكس بساطته في التعامل مع الناس، حين أخبرناه عن هويتنا زاد احتفاء بنا ، وعندما بدأنا معه الحديث كانت العفوية تحكمه في تجاوبه معنا ، فقام من مكانه ليمارس مهنته ويرينا أدواته وهي تعمل بصورة حية ، وكان بيده قضيب من الحديد للتو بدأ يسخنه ليصنع منه "منجل" وهو أداة تشبه السكين المعكوفة يستخدمها الفلاح في أرضه.
تابعناه حين بدأ عمله فوجدناه يحلق فوق النار برهة واللهب يستعر من حوله، يستغرقه العمل ساعة ، يتعمق فيه فيبدع ويبتكر، له سواعد ، وأيدي خشنة قوية وجسم لا يهتز مع طرق الحديد الملتهب .
على ملابسه آثار شرار النار المتطاير، وفي قدمه إصابة عمل لا تزال بادية ، رأيناه يواصل عمله بلا توقف رغم شدة الحر فلا أجهزة تبريد هنا ، ومع وجود آلة النفخ على النار تزداد وطأة الحر عليه فلا يتوقف عن العمل ، لكن قليلاً من الماء البارد يكفيه لتلطيف الجو .
هذا الرجل ، أحلامه معلقة في صدره ، رغم انه شاب ومتعلم غير أن فكرة التواصل مع التراث تشغله ، هدفه المحافظة على التراث كي لا يندثر. هكذا اخبرنا الحداد عيسى السعيد 43 عاماً ،أحد آخر الحدادين في القطيف حين قابلناه ذاك الصباح .
الفرق بين الصفار والحداد
لقد بدأ عمله منذ الخامسة مع والده الذي كان يعمل كصفار ، والصفار غير الحداد ، فالصفار هو صانع الأواني المنزلية وملمعها من النحاس والأدوات المعدنية ، والألمنيوم ، وكان يصنع بعض صواني الأعراس المستخدمة للخبز (المصافن و المعجن) وصواني الكيك ، وأتاحت له مهنة والده الاختلاط بالحدادين منذ نعومة أظفاره فزاول مهنة الحدادة قبل (18 عاماً) وحتى الآن ، ولأنه يمارسها برغبة وحب وليس كمهنة فقط ، بل كتراث يريد له أن يبق فقد استفاد من دراسته فهو خريج دبلوم صناعي تخصص ميكانيكا عامة في توثيق العلم بالخبرة فاستطاع معرفة معادلات الطرق والحرارة ونجح في إعطاء نفسه تميزاً آخر ، رغم أن له وظيفة أخرى يعتمد عليها .
سوق الحدادين بالقطيف
سوق الحدادين بالقطيف كان سوق كبير وعريق ، شأنه شأن الأسواق الحرفية الأخرى ، وكان أول عهده في منطقة تعرف باسم الجبل ، ومع تغير الظروف فقد انتقل لسوق "مياس" بالقطيف ، والآن ها هو يستقر على أربعة محلات معزولة على جانب الطريق الزراعي الذي عبدت شوارعه قبل مدة ، ولا يعمل منها سوى ثلاثة فقط .
المهنة لا تندثر
للمهن حضارة تعكس حضارة الشعوب وثقافتها ، يؤكد أبو سعيد بأن مهنة الحدادة لن تندثر ، لكون المزارعون يعتمدون على الحدادة بشكل أساسي في حراثة الأرض وفي التعامل مع النخيل وتشذيبها وشق السواقي وغيرها ، وطالما كانت هناك زراعة فستكون هناك حدادة ، مؤكداً أن المزارع لا يمكنه الاستغناء عن الحداد ، فأدواته كلها من صنعه كـــ (الفأس والمنجل والمحش والقدوم) وغيرها .
الصخين القطيفية
بعض الأدوات مهمة للمزارع في حقله ، وكذلك للبنَّاء (الذي يعمل بالبني) ، وهناك ما يعرف بالصخين القطيفية (تستخدم لحرث الأرض والحفر ومساقي الزراعة، اشتقاق من الشيول الذي يحنى درجة 45 أو 35 وتحمل فوق الكتف ) هذه الصخين تعالج عند الحدادين في القطيف فتعكف من عنقها وتوضع لها حلقة مثناة بالداخل منعاً من كسر عنقها أثناء العمل، وهي تستخدم في شق السواقي والحفر ويعتمد عليها المزارع بشكل عام كما تستخدم بغرض حفر قبور الموتى، ويؤكد عيسى أبو سعيد بأن هذه الصخين القطيفية هي منتج محلي يصنع في القطيف ولا ينتج في الشرقية كلها في غير القطيف .
أدوات
لكل عمل أدوات ولكل انجاز محركات تعمل على اظهاره ، لذا يحتاج الحداد لمهارة وخبرة لا يكتسبها بغير الممارسة على المدى الطويل ، خاصة وأن المهنة تحتاج لحذر وانتباه ، من ضمن الأدوات التي يحتاجها الحداد هي ، (آلة النفخ ، الكير ، الفحم ويفترض به صغير الحجم ، الملقط ، المطرقة وهي بأحجام مختلفة ، السندان ، المثقف ، المفراط ، والمنشار والمبرد) .
مهارة الصنع
بعض الأدوات المهملة يمكن للحداد استغلالها لصنع أشياء جديدة ، فبعض قطع السيارات وبواقي البناء يمكن صنع الكثير منها ، كان الحداد أبو سعيد يرينا كيف يمكن صنع المنجل عمليا ، تبدأ العملية بشريحة سميكة من الحديد يقوم بتقطيعها لأجزاء طولية ثم يبدأ بتسخينها في الكير بواسطة الفحم وهو فحم خاص بالحداد إذ أن حجمه صغير جداً لضمان اشتعاله السريع وتحوله لجمر بسرعة، ويبدأ النفخ عليه بآلة النفخ ، وفي أقل من دقيقة ونصف يصبح كاللهب ، ثم يبدأ الطرق عليها بالمطرقة فوق السندان حتى يطوعها في يده كالعجين تماماً ، ومن ثم يقوم بتليينها وثنيها حسب ما يريد وبعد ذلك بردها حسب الحدة التي يريدها ، ثم يلف مقبضها بالخشب ويغلفها بالحبال لتصبح سهلة في المسك ، الإضافة التي يقوم بها هي ختم أعماله بختم خاص به كدلالة لصنعه ، تعلم هذه العادة من حدادين العراق ، ولذا يؤكد أن زبائنه في المملكة والخليج يعرفون صناعته بواسطتها ، كان يقوم بكل هذا بحرفية عالية وفن ذا جودة رفيع المستوى .
زبائن
لكل صنعة مريدوها ولكل حرفة زبائنها ولولا الطلب لما بقي العرض مستمراً، وبالإضافة للتعاملات بينه وبين المزارعين وأشخاص أخر محليين فإن الحداد عيسى أبو سعيد له تعاملات مع أشخاص من الإحساء والرياض والخرج ، بالإضافة لزبائن يتعاملون معه من البحرين والكويت والإمارات وقطر ، ويعرفونه من نوعية أدواته التي يصنعها ، كما أنه يشارك في عدة مهرجانات محلية ودولية أبرزها مهرجان الجنادرية .
أمنية
أخبرنا أبو سعيد بأن ثمة فكرة تعتزم الهيئة تنفيذها لحفظ التراث المهني ومن ضمنه مهنة الحدادة ، وهي تتلخص بإقامة مجمع لهم في مكان واحد بحيث يختاروا من كل مهنة حرفة معينة وتوضع في مكان مناسب للحفاظ عليها من الاندثار، لكن أبو سعيد يتمنى أن لا تكون مجرد أمنية فتطبيقها يحتاج لجهد ومشقة وجدية أيضاً ، كما أنه يفضل أن تكون هذه الفكرة لو طبقت في القطيف الأم وليس في مكان آخر فهذا أدعى للحفاظ عليها .
رغبة في استمرار الحرفة
الحدادة من المهن الشاقة والصعبة، فالعاملون بها يتعاملون مع الحديد والنار، وتعتبر بيئة العمل التي يقضي بها الحداد ساعات طويلة يومياً من البيئات الخطرة والتي يتعرض فيها إلى درجات عالية من الحرارة و برادة الحديد الساخن ونقص كميات الأكسجين وانبعاث غازات ضارة ناتجة عن انصهار الحديد وأمور أخرى كثيرة ، لذا يواجه الحداد الكثير من المشاق والصعوبات خلال عمله ويتعرض للإصابة بالكثير من الأمراض نتيجة طبيعة عمله، فالحساسية والتسلخات وإصابات العمل والحروق كل هذه يتعرض لها الحداد ، ورغم هذا بالإضافة للجهد والحر وقلة الدخل فهو ما زال يواصل عمله بلا توقف رغبة في العمل نفسه وإيماناً به كحرفة لا بد لها من الاستمرار ، حتى أنه يعلم أولاده هذه الحرفة رغم التحاقهم بالمدارس ، فبرأيه أن الحرفة ضمان للمستقبل مهما حصلوا على شهادات عالية ، فأولاده يمارسون المهنة في غيابه ولو من باب التسلية ويحسنون صناعة أدوات مثله تماماً لتصبح تحف حرفية فنية .
اختتام الرحلة
الوقت الآن منتصف الظهر والشمس تنتصف عامودية فوق رؤوسنا ، لقد أدركنا التعب وأرهقنا حر الصيف وحر النار ومشقتها، فاستودعنا الحداد عيسى ليكمل صنع المنجل الذي بدأه والذي أكد أن عمله فيه يستغرق ساعة متواصلة ، كنت ألوذ بتكييف السيارة وأنا أعرف أنه راجع ليكمله ، وبقيت أتساءل : " كيف يمكنه تحمل كل هذه المشاق بلا حاجة ملحة لدخلها سوى أنه يرغب في إحياء هذه الحرفة ويصر على عدم اندثارها، الأمر يستحق عناء مرافقته علاً ؟؟!!"