شتاء طهران

موسى جعفر آل رضوان *

في الليلة الرابعة عشر من عمر القمر ، حين يكتمل جنون العقل وجنون الليل وجنون العمر ، يشعل النوروز حمأ طقوسه على إيقاع الثلوج المتساقطة ، وكأنه يريد أن يرسم بياض الروح على صفحة القلب ، لا يرغب البتة في رؤية ذرة واحدة من سواد الإسفلت حتى لو اضطرت كل سيارات شمال طهران تكبيل عجلاتها بالأصفاد ، كيلا تنزلق ، ولكن هل حقاً تخاف السيارات من الانزلاق ؟
أم أنها تريد أن تتحدى هذا الجو القارص ؟ 
لتستمتع برؤية تجليات جمال الطبيعة حين تقول ثلوج نياوران كلمتها فتصمت كل فراشي الرسامين .
 
عمار هذا الفنان التشكيلي المولع بالرسم حد الجنون، أذكره جيداً ، رأيته بعد عقد ونيف ونحن كتقاطع الصليب ، كنت قادماً لمطار دبي وهو مغادر إلى الكويت ، نعم أذكره جيداً في ذلك الصباح الباكر كيف عمد لهز الشجرة على سفوح طهران ، وباغتني بانهمار الثلج ضاحكاً على جسدي .
 
ضحكنا كثيراً وتغشمرنا بعد أن ارتعش جسمي وانتفض كياني على وقع ثورة الطبيعة ، كنا نريد أن نصل لبائع الحليب وبائع الخبز لنأتزر بأطول قرص دافىء عرفه التاريخ ، لنستر لهيب جوعنا ، قال لي : لا تنس أن تجمع بين جبنة تبريز وفستق طهران كيلا تصاب بالغباء ، حذرني كثيراً من المسببات ونسي الجنون الذي نحن فيه .
 
السيارات بالكاد تسير جراء ارتفاع منسوب الثلوج ، أرجلنا كادت تغوص في البياض ، ومع ذلك كنا نمارس طقوسنا الشهية ، اختبأت وراءه وصرت كمريم المقدسة أهز الشجر من خلفه بغتة تساقط علينا بياضاً وندى ، ليمرق الوقت من بين أنامل الطبيعة المكتسية بأجمل حللها على وقع أوتار ضحكاتنا. 
 
وبالنتيجة لا أنا بالذي رزقت بالمسيح ، ولا هو بالذي أكل من الشجرة ، لقد اكتفى بالسبحانة الصباحية ، أما أنا فقد اكتفيت في ذلك الصباح بطمري من الخبز الإيراني ذو الثلاثة أمتار المملوء بصهباء الحصى ، كادت على أثره أسناني اللبنية الغضة أن تتهشم على حين غره .
 
قلت له: لقد قرأت في المنطق استحالة الجمع بين النقيضين أما استحالة الجمع بين المتجانسين بياض الأسنان وبياض الثلج فهذا شيء عجاب ، أتراك استعجلت القضاء على ريعان شبابي ؟

 
قال لي بعفوية لا تخلو من التهكم : لا تخف يا صديقي ، سأرسم على محياك أسنان أجمل حورية بعد أن يفنيها الحصى ، سأستحدثها من جديد بألواني وإبداعاتي ثم استرسل قليلاً وهو يحرك يديه كما لو كان يعزف إحدى سيمفونيات موزارت ، تصور لو أن ألواني أحالت أسنانك إلى صفي لؤلؤ بدل أضراس الغزال هذه التي تشبه فستق طهران الطري فما أنت فاعل ؟ .
 
قلت له متغشمراً بعد أن بان بياض قلبي من شفتي وأنا أغمز له بإحدى عيني من طرف خفي : يا صديقي يا حبيب قلبي دوام الحال من المحال تكفيني ابتسامتك الجميلة لكي تصنع داخل قلبي أجمل لؤلؤة ولكن أرجوك بدون حصى طهران هذا العالق بالخبز .

كاتب وآديب ( السعودية )