أخلاقيات الاختلاف
حينما يسطر العمالقة كلمات عميقة لا تنفصل أُولاها عن أُخراها حيث كل كلمة تعطي معناً محددا أراده "هو"، فان إزالة أي كلمة من شأنها أن تغير كل ما رمى إليه الكاتب فضلا عن إدعاء الوصول للمعنى بفهم جزء من النص المكتوب إن كان الكلام مكتوباً، فيهدف هؤلاء "العمالقة" إلى البناء فيما يهدف الطرف البعيد لعكس ذلك.
ولكن المر المرير ليس ذلك...أنا اعتقد أن الأمَرَ من ذلك أن يدّعي "ذاك" انه وصل إلى المعنى المراد فعلاً، في حين انه " من جَنْبِها " - كما يقال - والمعنى انه لا صلة له بالشيء من قريب ولا بعيد. والفظاعة في الأمر كله أن ينسبها إلى نفسه أو إلى غيره في حين أنها لم تَطُله ولم ترِد غيره، كان المكتوب مدحاً أم ذماً.
إنها مشكله بحد ذاتها إلى جانب كفالتها بخلق نزاعات مريرة أقل ما فيها أن تفترق الأحبة إلى فرق مفترقة بدورها أيضاً إلى فرق أخرى وهو حال مجتمعنا اليوم كما أراه. وكما يقول القائل:
فتفرقوا شيعاً فكل قبيلة *** فيها أمير المؤمنين ومنبرُ
فالروايات والأحاديث تركز على حمل المؤمن على الخير ولكن في الوقت نفسه تعدد الآراء والأفكار والتوجهات مطلوب للرقي والتطور الذي يسعى إليه المجتمع. وبجانب هذا كله ينبغي أن تسود ثقافة الاختلاف وحمل الآخر على ما تحمل عليه نفسك.
فمرات ومرات يتنازل شخص لحساب أخر ولكن هذا الآخر " من جنْبِها " حين نتحدث عن أخلاقيات الاختلاف .وإلى جانب هذا كله، ينبغي الوضع بعين الاعتبار أن الآراء قابلة للنقاش والتغيير طال الوقت أم قصر، فلا يحمل شخص على رأيه مدة حياته وكذا حمله على رأياً له في مسالة معينة على شخصيته وأفكاره جميعها والتحامل عليه في كل شيء آخر.
وفي هذا يقول علياً :
« أيها الناس، من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق، فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال.أما إنه قد يرمي الرامي ، وتخطئ السهام , ويحيل الكلام ...أما انه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع » فسئل عليه السلام عن معنى قوله هذا، فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه، ثم قال: « الباطل أن تقول سمعت، والحق أن تقول رأيت ». (1)
وورد عن رسول الله أيضا قوله: (احمل أخاك المؤمن على سبعين محملاً من الخير)، ولكن السؤال هنا هو هل أن الاختلاف مطلوب!؟
نعم وبفم فاغر لابد للمجتمع من الاختلاف ولكن في أطر محددة لا يتعداها إلى ما بعدها فيتحول الاختلاف المحمود هذا إلى آخر مذموم يلقي بالمجتمع في النهاية إلى الدمار.
ومن هذه الأطر التي ينبغي مراعاتها والتي اعتقد أنها الأساس في أدب الاختلاف ما يلي:
1- الاختلاف العلمي (2):
يقول تعالى(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً). (3)
كثيراً ما نسمع عن حوارات هنا وهناك سواء كانت دينية أم علمية أم غيرها وكثيراً ما يصل عقل أحد الطرفين للتسليم والإذعان للأدلة المطروحة، وكثيراً ما نسمع عن حوارات انتهت بأدلة وبراهين عقليه لا يمكن ردها، ومرات قليلة فقط تذعن فيها النفس ويتغلب العقل عليها، فالعقل هنا سلّم بها وأذعن ولكن النفس في النهاية رفضتها فهوى النفس غلب قدرة العقل.
فالحوار العلمي المطلوب هنا ،هو حوار رد الدليل بالدليل والحجة بالحجة إلى جانب إعمال العقل وإرضاخ النفس للواقع فلا يكون الهدف إذلال الآخر واثبات خطأه بل الأخذ بيده للحقيقة. وفي الوقت نفسه ينبغي الابتعاد عن الشبهات والإشاعات والمصادر غير الدقيقة، حيث الهدف هنا لن يتعدى إضاعة الوقت والجهد. وللأسف ما نشاهده نحن اليوم من حوارات سواء على الفضائيات أو غيرها هو حوار " أرقام صفحات " فترى المحاور في الحلقة الثانية مجهداً نفسه، فاغراً فاه، شاهراً سيفه ليقول للطرف الأخر:" إن صفحة المصدر التي ذكرتها في الحلقة الأولى خمسة وليست ستة "!، والتساؤل هنا: هل الحوار هذا هو ما نبحث عنه وهل هذا المحاور حاور لطلب الحقيقة؟!
2- أدب الحوار (4):
فتارة ً يكون الحوار هادفاً يسعى الطرفان فيه للوصول للحقيقة وتارة يؤسس ويبني الحوار على الاختلاف والمقاطعة وتبادل الشتائم حيث انه لو اتفق الطرفان لما كان هناك حوار من الأساس فضلاً عن آداب الحوار المعروفة وهذا حوار مرفوض رسما وتفصيلاً. فالإلتزام بالآداب مطلوب حتى مع عدم الوصول إلى نتيجة في نهاية الحوار وكما ذكرت لا ينبغي حمل الشخص على رأيه في كل شيء بل يحتفظ كل من الطرفين بما يقتنع به.
وختاماً، فلنرد الخير للآخرين كما نريده تماماً لأنفسنا ولنحاول فهم الآخر على ضوء قاعدة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): (الناس صنفان،إما اخو لك في الدين أو نظير لك في الخلق) ولنترك خلافاتنا جانباً ليتسنى لأبنائنا ملئ صفحة جديدة بالود والمحبة والتسامح الذي يجب أن يتصدرها.