امرأة تعلمنا كيف نُطالِب بحقوق ..لا مكرمات
امرأة همدانية دخلت على معاوية بعد موت علي، فجعل يؤنبها على تحريضها عليه أيام صفين،وآل أمره إلى أن قال: ما حاجتك؟ قالت: إن الله مسائلك عن أمرنا وما افترض عليك من حقنا ولا يزال يتقدم علينا من قبلك من يسمو بمكانك ويبطش بقوة سلطانك، فيحصدنا حصيد السنبل ويدوسنا دوس الحرمل ، يسومنا الخسف ويذيقنا الحتف ، هذا بشر بن أرطاة قدم علينا فقتل رجالنا ، وأخذ أموالنا ، ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة، فإن عزلته عنا شكرناك وإلا كفرناك، فقال معاوية: إياي تهددين بقومك يا سودة[1]؟ لقد هممت أن أحملك على قتب أشوس فأردك إليه فينفذ فيك حكمه فأطرقت سودة ساعة ثم قالت:
صلى الاله على روح تضمنها قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي به بدلا فصار بالحق والإيمان مقرونا
فقال معاوية: من هذا يا سودة ؟ قالت : هو والله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والله لقد جئته في رجل كان قد ولاه صدقاتنا فجار علينا ، فصادفته قائما يصلي، فلما رآني انفتل من صلاته ثم أقبل علي برحمة ورفق ورأفة وتعطف ، وقال : ألك حاجة ؟ قلت : نعم ، فأخبرته الخبر ، فبكى ثم قال : اللهم أنت الشاهد علي و عليهم ، وأني لم آمرهم بظلم خلقك، ثم أخرج قطعة جلد فكتب فيها : بسم الله الرحمن الرحيم قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ، فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك ، والسلام " . ثم دفع الرقعة إلي ، فوالله ما ختمها بطين ولا خزنها ، فجئت بالرقعة إلى صاحبه فانصرف عنا معزولا ، فقال لها معاوية : لقد لمظكم ابن أبي طالب على السلطان فبطيئاً ما تفطمون ، ثم قال : اكتبوا لها برد مالها والعدل اليها .
قالت : ألي خاصة ، أم لقومي عامة ؟ . قال : وما أنت وقومك ؟
قالت : هي والله إذا الفحشاء واللؤم إن لم يكن عدلاً شاملاً ، وإلا فأنا كسائر قومي . قال : أكتبوا لها ولقومها.
لقد خلد التاريخ اسم سودة بنت عمارة بعد موقفها الشجاع هذا، لأنها أعطت درس في المطالبة بالحقوق، ورفض المكرمات
طالبت بالعدل الذي هو من واجبات السلطان التي عليه أن يقيمها بلا منة و لا فضل، لقد عرفت سودة بنت عمارة أن الحق يؤخذ ولا يعطى، لهذا فقد نزلت في محضر معاوية دون أن تمدحه أو تثني عليه بقصيدة او تدعي له ، سوى أنها ذكرته بواجباته التي غفل عنها بملاهي الحكم و سرقة أموال الناس و التسلط على العباد، ولكن هنا سودة لم ترضخ للظلم و تقول (إنا مستضعفين في الأرض)[2] بل أصرت وجاهرت و طالبت بحقها و ما ضاع حق وراءه مطالب.
لدى على الظلمة أن يعرفوا أن للمجتمع ضمير هو غير ضمير كل فرد؛ وذلك الضمير هو الذي يولّد الرغبة في بقاء دولة أو هدمها، وهذا الضمير هو الذي يهيمن على الحكومات الظالمة، ويحرك الأفراد نحو مقاومتها، إلى أن ترجع عن غيها فتكون عادلة، أو إلى أن تزيلها بالوسائل الديمقراطية أو بالوسائل العنيفة المشروعة، وأياً كانت الحكومات، وأياً كان الظالم، فإن الظلم يردي الظالم، مهما تصور أنه قوي وأنه مزود بالسلاح والحرس، فإن الذي يحفظ الإنسان هو العدل وحده، أما الظالم فبيته من زجاج، وإن تصور هو أنه من فولاذ (إن ربك لبالمرصاد)[3].