المدينة المنورة بلا ذاكرة

أ . بدر الشبيب *

في كل مدن العالم لا تحتاج للسؤال عن مرشد سياحي، فهو من يسأل عنك ليقدم لك تعريفا بالمدينة التي أنت فيها وتاريخها ويدلك على آثارها ومعالمها الحضارية، ويدهشك بعضهم بأمطار المعلومات الغزيرة التي يتحفك بها حتى تخرج من رحلتك وكأنك خرجت من درس ممتع امتزجت فيه المعلومة بالحركة واشترك في التلقي سمعك وبصرك وجميع حواسك.

المرشدون السياحيون في الغالب مدربون ويجيدون أكثر من لغة، وفوق ذلك يجيدون فن التعامل والاتصال مع الآخرين؛ وهم جزء من منظومة متكاملة ترفد صناعة سياحة الآثار التي توفر الكثير من الوظائف وتشكل في بعض الدول جزءا مهما من الناتج القومي الإجمالي، بعض هذه المنظومة ينقب عن الآثار وبعضها يحافظ على ما اكتشف منها وبعضها يسعى إلى تسويقها سياحيا، وهكذا.

ففي مصر مثلا هناك اهتمام كبير بالحضارة المصرية القديمة، وفرق التنقيب عن الآثار مستمرة في عملها منذ عشرات السنين، وعشرات العلماء يعكفون على دراسة تلك الحضارة وتراثها، والسائح يمكنه أن يقترب كثيرا من الحياة الفرعونية من خلال مواقع الآثار أو المتاحف أو غيرها.

هذا هناك، أما عندما تزور مدينة الرسول التي شهدت أكبر وأعظم تحول في تاريخ البشرية، والتي تشرفت باحتضان دعوة خير المرسلين ، وتآخى على ترابها المهاجرون والأنصار، وتأسست في أكنافها المباركة الدولة الإسلامية الأولى، وتوالت فيها الأحداث والوقائع منذ الهجرة النبوية الشريفة وما بعدها، فإنك عندما تزورها لن تحتاج أيضا للسؤال عن مرشد سياحي، لأنك ببساطة لن تجده. ليس هذا فحسب، بل إنك لن تجد الكثير من الآثار التي كانت موجودة حتى عهد قريب، فمعظم الآثار قد تم طمسها، وما بقي منها فهو مهمل. تشعر وأنت تسير في المدينة بأن الجزء الأكبر من ذاكرتها قد محي، وكأنها مدينة من المدن الحديثة.

فأين مسجد الفضيخ مثلا، وماذا تبقى من المساجد السبعة ، وأين مسجد واقعة بني قريظة، وأين الداران اللتان كان ينزل فيهما رسول الله في قباء، وماذا بقي من قلاع وحصون خيبر وغيرها؟!

إن في كل زاوية في المدينة، بل في كل شبر قصة بل قصصا، فلمسجد الإجابة قصة، وللغمامة قصة، وللفضيخ قصة أخرى، وللفتح قصة الخندق وغزوة الأحزاب، ولغير المساجد من الأماكن حكايات ترويها كتب السيرة النبوية التي لا يمكن أن نرسخها في ذاكرة الأجيال إلا من خلال السياحة الآثارية.

عندما نقرأ السيرة النبوية من خلال التاريخ والمرويات سنعجب لكثرة التفاصيل الدقيقة التي ذكرها الرواة والمؤرخون عن حياة النبي ، فهم لم يهملوا حتى اسم فرسه وناقته وبغلته وحماره، بل وردت روايات في كيفية موت حماره يعفور، وهذا الاهتمام نابع من كونه خير أسوة للمتأسين في كل شأن من شؤون حياته الشريفة، في عبادته وزهده وورعه وتقواه، في سلمه وحربه، في تعامله مع أصحابه ومع أعدائه، في رحمته ورأفته، وفي شدته وغلظته، في إدارته لبيته ودولته، في مشيته ومنطقه، في لباسه ومسكنه، بل في كل حركة من حركاته وسكنة من سكناته.

إن جزءا من الوفاء لهذا النبي العظيم يتمثل في حفظ تراثه وآثاره والترويج لها بكل الوسائل بما في ذلك إنتاج فيلم وثائقي يحكي قصة كل أثر وتاريخه والأحداث التي شهدها، ويقدم هدية للزائرين حتى يستشعر الزائر عظمة ما قدمه النبي الأكرم من تضحيات جسام لهداية الناس إلى طريق الله القويم.


باختصار، ما تبقى من آثار في المدينة المنورة أمانة لا يصح التفريط فيها بحال من الأحوال، وبالطبع فإن نفس الأمر ينسحب على الآثار المكية.

 

 

أديب وكاتب وباحث في علوم اهل البيت عليهم السلام