مدينة الوجع ....
أنا المدينة ، مدينة الفقد والوجد والوجع والرحيل ... أستفيق الليلة على شحوب غريب لم أعهده ، ففي وجهي إنطفاء غريب .. أحمل للكون خبرا حزين بزفرات محترقة ..
أستعير شهقات مكتومة من صدر فاطمة المكلومة وحزن علي .. وأنّة وجل مترقب من الحسنين، فأمضي أطالع بها السماء أتصفح وجه الكون فتهزني ريح ميكائيل وإسرافيل يتقدمهم جبرائيل، أسألهم أين يمضي بكم الطريق ؟
فيشيرون لجسده المسجى والحمى تسربله ، وعزرائيل يأتيه مستأذنا لتنفيذ أمر ربه .... وهم حوله مجتمعون يخاطبوه ، ترفق به أيها الموت .. ترفق بروحه الشريفة وجسده الطاهر .. فهذا خير الخلق وأكرمهم عند الله ...
أتأملهم .. أتألم لحزنهم عليه .. وأرقب مستقبلا يترصدهم بالنكبات بعد رحيله ، وجرح الزمان وتكالبه عليهم .. ووصايا كثيرة ينبئهم بها ...
أتأوه بحرقة ... أريد كسر الصمت المتواري خلفهم ... أجمع - مني - أحزان الأرض واضطراب حمائم البقيع ورجفة الحيطان الممتدة على جانبي الطريق ، ألملم خطوات الصلاة ، وأضم بقاع السجود إلى صدري خوفاً من أن تتلاشى، ومعهم أجمع اهتزاز النخيل وتمايل الزرع وحصى الأرض وشهقات الجبال ومناجاة شفيفة بينه وبين ربه معلقة بين السماء والأرض وأمتلئ بالنحيب وبي من صمتهم مواجع لها أصداء ممزوجة بأشجان الفقد ...
أبكي موت نبي الرحمة بآهات محروقة وزفرات محمومة ، وأخيط من حزني عليه ثوب أسود حالك للحداد .. أتوشحه على امتداد تاريخ الرزية الذي نكبنا به وهو يوصي وصية بها خير الدنيا والآخرة فلم تُسمع ولم يحفل قومه بها فصرفهم عنها غاضباً ...
وعند منعطف الحزن أقف وحيدة وبإرتباك وخوف تتشتت أجزائي في دهاليز الطريق الممتد بين صمت الحزن وأنين أهل السماء والأرض .
أتساءل وأنا أتلفظ مرارة الرحيل عن تراكم الحمى على جسده الطاهر .. عن " إنك ميت وإنهم ميتون" .. عن قرآن يتلى .. عن خطوات خطها فوق الصحراء فغدت الأرض به مخضرة .. عن عرق يتفصد في سبيل أمة وجرح ينزف لأجلها ورباعية تكسر وجبين يشج، وعن أمة منسية سادت به الدنيا .. عن حكايات الوحي المنزل .. عن آثار النبي الرحيم وعن قصص تكنسها رياح الرحيل .
عن تلون الوجوه .. عن تكاثر الأقنعة .. عن تحول الغايات .. عن تقلب القلوب .. عن تأجج الشر في النفوس .. عن تدفق النفاق فجأة وكأنه سد أتلفته العواصف بضربة رحيل منتظر فراح يجرف كل شيء في طريقه ويبتلعه بلا توقف .
بقيت هكذا سادنة الإنتظار أبعث أنفاسي من دفاتر النسيان أرقب انطفاء الضوء .. أتحول من أمل لخوف وأترقب تلك الأنات المحمومة تعلو وتنخفض تعالج الرحيل ... وصمت ثقيل يلفني يغيب الأزمنة والأمكنة عني ينسج لي من الخوف جرح مضيء يختصر كل الحكايات التي عرفتها من نسيج الليل .. لم أفق إلا حين انقضى كل شيء فرحلت روحه بعيدا عني وبقيت بعده أتقلب في تاريخ الأزمنة بلا هدى ...