دم الشهيد شكري في عنقك..ماذا تقدم؟
في حدث هو الأبشع منذ تسارع وارتفاع وتيرة الإجرام والأزمة الأخلاقية في مجتمعنا خلال الأعوام الأخيرة، صدمنا جميعا بحادثة قتل الشاب شكري صالح الرضوان(أبو أحمد) في الحادثة التي باتت معروفة لدى الجميع. إن بشاعة هذه الحادثة وعامل الصدمة فيها يكمنان في البون الشاسع بين دوافع طرفيها –الجاني والمجني عليه-، وتوقيت حدوثها، وصغر سن الجاني. بعد ثمانية أيام فقط من عاشوراء الإمام الحسين، قام حدث لم يتجاوز عمره الأربعة عشر عاما بقتل رجل في الأربعين من عمره المليء بالخير والعطاء ويتَّمَ بذلك خمسة من أولاده لا لشيء سوى أنه نصحه بترك التفحيط وسط الأحياء السكنية!!
- مجموعات شبابية للتصدي
صدم الجميع بهذه الحادثة، واعتلت أصوات السخط والشجب الشديد من جميع فئات المجتمع، ولكن ألا ينبغي استثمار هذه الصحوة وهذه المشاعر القوية بما يحول عمليا دون تكرار هذه المآسي مستقبلا؟ هل يصح تضييع هذه الفرصة حتى يبرد الحدث ويتلاشى التفاعل الاجتماعي وتمر المصيبة وكأن شيئا لم يكن؟ أي مصير أسود ينتظر مجتمعنا إن مرت هذه الحادثة وأخواتها مرور الكرام؟
لابد أولاً وقبل كل شيء أن تزال مظاهر الانحراف من الشوارع والأماكن العامة لكي يمكن محاصرته والحد من قوة تدميره. هذه العملية لا يمكن أن تحصل عن طريق التوعية والإرشاد فقط لأنه يصعب كثيرا التأثير على الشاب وهو يعيش وسط أجواء ملوثة ويرى انحرافاته مجاهرا بها في المجتمع دون رادع، كما أنه يوجد الكثير ممن يعاند ويكابر ويلجأ إلى القوة واستعراض العضلات واستخدام أدوات وآلات العنف لكي لا يقر بخطئه. هذا الصنف من الناس لا يقف عند حده إلا إذا ووجه بمجموعة من الشباب الذين تظهر جديتهم في منعه من إلحاق الضرر بغيره ونشر الرذيلة في المجتمع.
تعاون كل فرد يرى منكرا ووقوفه بجانب من يواجهه في الأماكن العامة لردع أي عناد أو تصرف أحمق من المنحرفين جاء في مضمون العمل المرئي الرائع لحملة "بادر"، وهو أيضا ما نأمل أن تكون الوقفة الشجاعة للشهيد شكري قد أسست له عبر حشد الرأي العام نحو ضرورة هذه الوقفات الجماعية، إلا أن الكثير من الشباب يرون أنه لابد من "تنظيم" مجموعات خاصة في كل منطقة للقيام بهذا العمل لتنجح الحملة. إضافة إلى ذلك تقوم هذه المجموعات بالرصد وإبلاغ السلطات عن المفسدين وبالخصوص مروجي المخدرات والمسكرات والعابثين بالأسلحة. ومن باب تلافي الوقوع في مشاكل قانونية ينبغي التنسيق مع السلطات ولو بطريق غير مباشر والحصول على ضمانات ولو شفهية بعدم التعرض لهذه المجموعات الشبابية لأنها تخدم المجتمع والأمن وتتعاون مع الجهات المختصة وتخفف العبء عنها.
يجب أن لا ننتظر دعوة من أحد للبدء في تشكيل هذه الجماعات في مناطقنا، بل تبدأ كل منطقة بتنظيم وإعداد مجموعة من الشباب لمنع الرذائل والفواحش فيها ومن ثم يتم التعاون مع بقية المناطق. طبعا لا يخفى أن هذه المجموعات لابد أن تهيأ وتثقف حول كيفية التعامل مع المنحرف ونصحه وابتعادها عن الانجرار للعنف إلا في الحالات الضرورية جدا -كالدفاع عن النفس- لكيلا تتحول هذه المجموعات لمصدر لمشاكل جديدة بدل حل الموجود منها وتلافيا للإشكالات القانونية والشرعية كذلك.
لعل هذا التحرك هو أقرب التحركات إلى النجاح، فقطيفنا ما زالت تمتلك الكثير الكثير من شبابها الطيب الغيور ومن رجالها الذين يحملون أرواحهم على أكفهم في خدمة بلدهم إذا طلب منهم ذلك ووجد من قيادات البلد من يوجههم في هذا الطريق.
بعد الشروع في هذه الخطوة العملية، يأتي التركيز على تكثيف البرامج التوعوية والتربوية وتشكيل المؤسسات المتخصصة في معالجة هذه الظواهر والمؤسسات المهتمة بأمور الشباب والمستثمرة لطاقاتهم فهؤلاء الشباب لديهم طاقات هائلة لا يجدون لها محلا إلا في هذه السلوكيات السلبية ويمكن استغلال طاقاتهم بإعطائهم الكثير من الفرص والأدوار التي تخدمهم ويخدمون بها مجتمعهم كالميكانيكا وما أشبه من المهن اليدوية، والتصوير، وفرق الكشافة، وتنظيم المرور والجموع الغفيرة في المناسبات الدينية والاجتماعية من مواكب للعزاء وجنائز وأعراس وغيرها.
- يوم إصلاح اجتماعي.. لكي لا يذهب الدم هدرا
إن أقل ما يمكن لنا عمله هو أن نجعل من تاريخ حادثة قتل الحاج الرضوان يومًا للإصلاح الاجتماعي نحيي ذكراه في كل عام، فهذه الحادثة يجب أن تكون انعطافة تاريخية لتربية الأجيال المتعاقبة على مواجهة الانحراف في هذا المجتمع الطيب. قد يرى البعض أن هذا العمل هو عمل رمزي لا يغير شيئا على أرض الواقع، ولكن بلحاظ ماضي مجتمعنا وكذلك ما تصنعه كل المجتمعات المتحضرة، فإن تخصيص أيام معينة لعلاج الظواهر السلبية أو ترسيخ الإيجابية منها وإحياؤها في كل عام له تأثير قوي جدا في زراعة القيم في أبناء المجتمع وبالتالي تحقيق الأهداف على أرض الواقع، وليس تخصيص أيام لمكافحة المخدرات أو الإيدز وأمراض السرطان أو التمييز العنصري إلا أمثلة لجدوى هذا العمل.
عندما كنت طفلا صغيرا وقعت حادثة قتل مشينة لطفل في مدينة صفوى، وكانت ردة فعل المجتمع قوية حيث ظل الأهالي يتحدثون عن هذه الحادثة لأعوام وكانت تحدث الأمهات أبناءهن عن بشاعة هذه الحادثة وعن أخلاق ذلك الطفل المظلوم وتعاون أهل البلد في البحث عنه قبل أن يجدوه مقتولا ويقتص من القاتل بعد ذلك، كما صدر تسجيل مرئي يعرض لقطات من حياته وبراءته وعملية البحث وكذلك المكان الذي وجدت فيه الجثة مصحوبا بتعليقات رمزية مؤثرة. كانت نتيجة هذا التحرك أن الحادثة بقيت محفورة في الأذهان وظهر أثر ذلك على الأرض حيث لا أذكر أني سمعت بحادثة قتل بعدها(1) لسنوات طويلة.
تكريما لشهيد الإصلاح والأمر بالمعروف ودفاعا عن مجتمعنا في وجه الانحراف ولئلا تصبح هذه الحادثة ضربة قاتلة لحركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويتراجع من بقي من أصحابها خوفا على سلامتهم، لا بد من جعل يوم الحادثة رمزا نحيي ذكراه وتعقد المعارض الفنية التوعوية والندوات والمحاضرات وتنطلق التحركات العملية ومشاريع الإصلاح الإجتماعي فيه كل عام.
- صمتنا فتجرؤوا
تركنا العمل بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واشتغل كل بأنانيته وعمله وأسرته، آثرنا الراحة وأهملنا العمل الاجتماعي، هجرنا المنابر والكتب التي تتحدث عن المواضيع التربوية والأخلاقية واعتبرناها تقليدية مملة، نسينا الزمان الذي كان همّ الوالدين الأول هو استقامة أولادهما والزمن الذي كان فيه الولد الذي لا يربيه والداه -أو يتمرد عليهما عندما يفعلان- يربيه رجال البلد عند تجاوزه حدوده، فوقعت المآسي وأريقت الدماء واعتدي على الأعراض وانتهكت حرمات المساجد والحسينيات والمناسبات المقدسة وأحرقت ونهبت الممتلكات وانحطت الأخلاق وظهر الفساد جهارا نهارا.
لم يتجرأ صعاليك وشراذم المنحرفين على الناس، ولم تقو شوكتهم وتصبح لهم هيبة إلا بترك الأكثرية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إتكالا على قيام القليل بها أو خوفا من المنحرفين، ولا تكسر هذه الشوكة ولا تزال رهبة الناس منهم ولا يذهب شرهم إلا بإحياء الجهر بكلمة الحق والتزام كل فرد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا أراد الخير لنفسه ولأهله أولا ولمجتمعه ثانيا.
ما لم نفعل ذلك، لا تبرأ ذمتنا من دم الشهيد شكري وجميع المظالم والجرائم في مجتمعنا وسنسأل عنها أمام الله سبحانه وتعالى حيث شاركنا في تسبيبها عبر صمتنا ولم نقم بواجبنا بعد وقوعها وبذلك نُشرَك مع الجناة في أفعالهم، بل وبكل يقين نستوجب العقاب واللعن الإلهي وعندها لا ينفع ندم.
﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ"(2).
"إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (3).