لماذا ينجحون ولماذا نفشل؟
قازان هي عاصمة جمهورية تتارستان في روسيا الاتحادية، هذه المدينة أصبحت مضرب المثل في التعايش بين مختلف الأديان والقوميات، تتعايش أجراس الكنائس فيها جنبا إلى جنب مع صوت الأذان، ونظرا لسمعتها الطيبة في هذا المجال، فقد زارتها في أكتوبر الماضي وزيرة الخارجية الأمريكية للاطلاع عن كثب على التجربة التتارية في تعزيز التعايش السلمي.
في قازان يمكن أن تسمع كلاما بعدة لغات حيث تتعدد القوميات، وفيها توجد 153 منظمة دينية، من ضمنها 48 منظمة أرثوذكسية و 68 إسلامية و23 معبدا أرثوذكسيا و33 مسجدا، بالإضافة للعديد من المؤسسات الدينية لأديان أخرى.
لقد اجترح التتاريون صيغة للتعايش مع الآخر تقوم على الاحترام المتبادل واعتبار التنوع ثراء لبلدهم وليس مشكلة أو أزمة. لقد نجحوا في ذلك إلى الحد الذي جعل معهدا دينيا مسيحيا في قازان يبادر إلى تخصيص دروس عن الدين الإسلامي لرجال الدين المسيحيين ضمن برنامجه الدراسي، وذلك بهدف خلق تعارف أفضل بين أتباع الديانتين.
يتحدث الأب أنستاسي من الكنيسة الأرثوذكسية عن تجربة التعايش هذه قائلا: العامل الأهم في قدرتنا على التعايش مسلمين ومسيحيين هو عدم حشر العامل السياسي في علاقتنا وتركيزنا في المقابل على التعاون في المجالات الاجتماعية والإنسانية.
بالإضافة إلى ذلك، وعلى الجانب السياسي، استطاع التتاريون ابتكار صيغة جديدة من الاستقلال ضمن الفيدرالية الروسية تعرف الآن بالمسار التتارستاني، مما يظهر قدرتهم الفذة على إبداع الحلول المناسبة لكل ما يعترضهم من مشاكل.
هذا في الشرق، أما في الغرب فهناك حي من أحياء مدينة نيويورك يمثل هو الآخر نموذجا مثاليا في التعددية الدينية والعرقية التي تعيش التسامح والتصالح فيما بينها.
هذا الحي هو حي فلاشينغ في كوينز حيث تتعايش 151 كنيسة م
سيحية و30 معبداً بوذياً و7 معابد هندوكية و6 هياكل يهودية و4 مساجد ومعبدان للسيخ وهيكلان للطاويين ومجموعة تمارس الفالون غونغ.
ويعود الفضل في هذه التعددية إلى عريضة احتجاج فلاشينغ، وهي العريضة التي قدمها سكان فلاشينغ في عام 1657 وطلبوا فيها من حاكم مستعمرة نيويورك الهولندي (التي كانت آنذاك مستعمرة نيو أمستردام الهولندية) دعم البنود الخاصة بالحرية الدينية في شِرعة تأسيس البلدة. وتعتبر هذه الوثيقة أقدم إصرار سياسي على حرية الضمير والدين في نيويورك.
والسؤال: لماذا نجحت قازان المدينة الشرقية ذات الأغلبية المسلمة في أن تصبح نموذجا ينظر إليه الشرق والغرب بكل إجلال وإكبار، ولماذا نجح الحي النيويوركي الصغير فيما تفشل فيه دولنا؟
لماذا نفشل نحن المسلمين في التعايش فيما بيننا كمسلمين حتى داخل القطر الواحد، حيث تطغى الانتماءات الفرعية كالمذهبية والقبلية والمناطقية والإثنية والسياسية وغيرها على الانتماءات الكبرى؟
لماذا لم تنجح الدول الإسلامية في استيعاب الأقليات المذهبية والدينية والقومية داخلها؟
لماذا لم تتوصل كل مقررات وتوصيات مؤتمرات القمة الإسلامية ومؤتمرات التقريب والحوار إلى إنتاج صيغة تعايش سلمي واعتراف على الأرض بالآخر المسلم؟
لماذا نسمع بين الفينة والأخرى عن محاكمات تجري هنا أو هناك بسبب الانتماء المذهبي؟
لماذا لا تزال المطالبات بإلغاء التمييز الطائفي أو العرقي محصورة ضمن المتضررين المباشرين فقط، ولم تتحول بعد إلى هم وطني؟
لماذا هذه الصراعات الداخلية المستمرة بين مكونات الوطن الواحد في أكثر من بقعة إسلامية، في اليمن والصومال والسودان وباكستان والعراق وغيرها؟
- الأسئلة كثيرة، والإجابات متعددة، ومن هذه الإجابات:
1-غياب الإرادة السياسية الفاعلة التي تسعى للتأسيس لمجتمع التعايش.
2-غياب الديمقراطية والتعددية السياسية الحقيقية وسلطة القانون.
3-البنية الثقافية الأحادية للمجتمعات العربية والإسلامية، حيث تجهل الآخر تماما أو تتعرف عليه من خارج منظومته الفكرية والقيمية.
4-الارتهان للماضي بكل أثقاله وأوزاره والاقتصار على قراءات ماضوية للآخر، مما يعيق القدرة على التجديد أو التفكير في الحاضر أو المستقبل باستقلالية وحيادية.
5-عدم قيام المثقفين بالدور التنويري المناط بهم كنخبة واعية، وسقوط الكثير منهم في الخطاب الطائفي أو الفئوي.
6-غياب القراءة المقاصدية الحضارية للدين: فبرغم (لا إكراه في الدين) و (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا. أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)، برغم كل هذا فإننا لا نزال نصر على تنميط الناس وقولبتهم في شكل واحد، ومن لم يكن معنا فهو ضدنا.
لا أدري إلى متى سيستمر هذا الوضع المزري، وهل سنحتاج إلى غراب يبحث في الأرض ليرينا كيف نبحث في عقولنا عن مخرج.