نحن والآلهة البشرية !!
في ساعة متأخرة من ليلة غاب عنها ضوء القمر، كنت مع أحد زملائي نتجول بسيارته المتواضعة قاصدين إلى مكان ما، حيث كنا نتبادل أطراف الحديث في أجواء هادئة وساكنة كسكون الليل وهدوئه ..
وبينما كانت سيارتنا المتواضعة تسير في الطريق بخطى ثابتة، وإذا بها توقفت كأخواتها من السيارات الأخرى استجابة واحتراماً لأمر إشارة المرور ..
وقفنا منتظرين إذن الإشارة لنواصل السير .. وقبل سماحها لنا بالمغادرة .. إذا بشاب تتجلى فيه مظاهر الترف – في شكله ، في سيارته ، في سلوكه – يمر بجانبنا الأيمن بطريقة غير نظامية، وفيها نوع من الاستهانة وعدم المبالاة، محاولاً إيقافنا حتى يجتاز الإشارة قبلنا !!
ولكن زميلي رفض التنازل له، وأخذ العناد منه مأخذه، حيث لم يتح له مجالاً ليتقدم .. كرر هذا الشاب محاولته .. وكرر زميلي حركته ذاتها، فتصاعد العناد بين الطرفين، هذا يحاول المرور أولاً وهذا لا يتيح له الفرصة .. وبعد كر وفر، وبعد إلحاحي على زميلي للتنازل .. استجاب وترك له الفرصة للعبور ..
عبر الشاب الطريق وتجاوز الإشارة، ولكنه لم ينسى ما حصل له، ومع أننا تنازلنا له في نهاية الأمر إلا أنه قرر الانتقام منا على طريقته الخاصة ..
لهذا قام بحركات طائشة ومتهورة في وسط الشارع محاولاً إيقافنا مهما كلفه الأمر، فأخذ يتلاعب بسيارته يميناً وشمالاً بسرعة جنونية، وكأنه كان يقود سفينة تتلاعب بها أمواج البحر .. وفي النهاية تمكن من إيقافنا بعد أن صدم سيارته بسيارتنا وحاصرنا ولم نستطع الإفلات منه ..
عندها نزل هذا الشاب من على عرش سيارته، وجاء نحونا مهرولاً ، معلناً ليلة الحساب .. وهو يتلفظ بألفاظ بذيئة، ويعد ويتوعد ويبين ما في استطاعته أن يصنعه بنا .. ويشير بإصبعه السبابة نحونا وكأنه كان يقول: بأن أقداركم رهن لإشارة هذه ولقولي : " كن فيكون "فأنا المعز المذل" و "أنا ربكم الأعلى" !! ..
وفي هذه الأثناء جاءت سيارتان فارهتان ووقفتا في وسط الشارع بالقرب منا، وتسببت بمنع بعض السيارات من العبور .. وإذا ينزل منها عدة شبان تبين أنهم ملائكة هذا الإله المصطنع جاءوا ليقفوا معه صفاً صفاً .. وإذا نسمعهم يسبحون بحمده ويخاطبونه وهم في غاية التذلل والخضوع بقولهم : (يا طويل العمر ، يا ... يا ... ).
أخذ هذا الواهم يستعرض قدراته وإمكانياته وقوته وما في وسعه أن يصنعه ليعاقبنا على فعلتنا هذه .. ولكنه قرر أخيراً أن يرحمنا ويتركنا وشأننا استجابة لطلب البعض من ملائكته .
- التعليق على القصة :
إن هذه القصة تؤكد ما قلناه في مقال سابق بأن الإنسان كثيراً ما يؤله نفسه من حيث يدري ولا يدري، فكثيراً ما يحاول إظهار عظمته وقدرته وكأنه "ملك الناس" " إله الناس" الذي لابد أن يستعيذوا به "من شر الوسواس الخناس" !!
وحتى أولئك الذين يدعون التواضع وينكرون تأليههم لذواتهم فإن سلوكهم وتصرفاتهم يثبت عدم صحة ذلك، فهم عند عدائهم لأي شخص لا يصفونه بأنه عدواً لهم فقط ، بل يقولون بأنه عدو لله، ونفس الشيء إلى أحبوا شخصاً لأنه وافقهم ومضى على مشيئتهم أو لأي سبب كان، فإنهم لا يقولون بأنهم يحبونه لهذا السبب أو لذاك ولكن يقولون بأنهم يحبونه لأنه حبيب الله أو محب لله .. وكأن الله الذي يعنونه هو هم وليس غيرهم (استغفر الله) !!
وأنا أكتب هذه السطور تذكرت بعض عبارات الأديب الكبير نجيب محفوظ في روايته "حضرت المحترم" مع أنني قرأتها منذ سنوات، إلا أنها عادة إلى الذاكرة لمناسبتها هنا.. ومع أنني كنت مستنكراً في حينها على بعض عباراته، إلا أنني الآن أميل نحوها ومن أكثر الناس موافقة لها .. أتذكر فيها مقطعاً كان فيه الأديب يصف حالة دخول شخص على المدير، إذ يصف المدير بأنه "الإله القابع خلف المكتب أو ما شبابه" .
كما أتذكر أيضاً إحدى المحاورات التي كانت فيها بين شخصين إذ كانت حول السعادة، فقال أحدهم مجيباً عن سؤال: ما هي السعادة ؟ بأن "السعادة هي تحقيق الإلوهية على وجه الأرض"، ففي السابق كنت أرفض واستنكر بشدة استخدام مثل هذه العبارات .. إلا أنني الآن أقف معها وأؤيدها بشدة، فالإنسان كثيراً ما يؤله نفسه أو غيره حتى ولو كان يرفض هذه التسمية ويتبرأ منها.
ولعل بعضهم يقول: لماذا لا نسميها بالصنمية بدلاً من الإلوهية ؟ !!
إنني أرى كلمة الإلوهية أكثر انطباقاً على هذه الحالة من الصنمية، وذلك لأن الإنسان يبالغ في وصفه لذاته وفي إمكانياته ويصورها وكأنها قدرات وإمكانيات لا حدود لها، بينما هو يعرف خصوصاً في ظروف المكان والزمان هذه، أن الأصنام لا يمكنها أن تقرر وليس لها إمكانيات وقدرات كتلك التي يدعيها، على أن مصطلح الصنمية عادة ما يستخدم في رفض النقد لا في المبالغة في القدرات والإمكانيات.
إذاً، إن الإنسان يعاني أحياناً من تضخم الذات، ولكنه لا يحاول معالجة هذا الأمر لأنه لا يشعر به أو لأنه لا يريد أن يعطيه حيزاً من تفكيره، فالتضخم إذاً لم يعد حصراً على الاقتصاد فقط، ولا على أمراض القلب والجهاز الهضمي وغيرها، ولكنه أصبح في الكثير من القضايا والأمور.. فلماذا يا ترى يلتفت للتضخم الاقتصادي والصحي ولا يلتفت لغيره ؟ !!