الوحدة الإسلامية في فكرالمجدد الشيرازي الثاني
سار الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي -أعلى الله مقامه- على خطى أئمة أهل البيت والعلماء العظام في الدعوة إلى توحيد الأمة الإسلامية، وكان يصر كثيرا على تحقيق هذا الهدف مهما كلف من أثمان لأن ثمن الفرقة أكبر، حسب رأيه.
إن كل من يلقي نظرة -ولو مستعجلة- على تراث الإمام الشيرازي الفكري، لا بد له وأن يلاحظ إصراره الكبير على التوعية الفكرية والتحرك العملي باتجاه تحقيق الوحدة بين المسلمين حتى عد ذلك من وصاياه ولفتاته الدائمة. كثيرا ما تصادف كلمات مثل:"الأمة الواحدة"، "إنقاذ المسلمين"، "إنهاض المسلمين"، "الحكومة الإسلامية العالمية الواحدة"، "حكومة المليار مسلم" في معظم كتبه ومحاضراته التي تعد بالآلاف. إضافة إلى ذلك، أفرد الإمام الشيرازي كتبا خاصة للتحدث حول الوحدة وتفاصيلها، كما احتلت أجزاء واسعة في كثير من كتبه الأخرى. ومن هذه الكتب -على سبيل المثال لا الحصر-: الأمة الواحدة، الأخوة الإسلامية، لكي لا تتنازعوا، كيف نجمع شمل المسلمين، وصولا إلى حكومة إسلامية واحدة، جمع الكلمة وتعدد الأحزاب، السبيل إلى إنهاض المسلمين، ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين، السبيل إلى الوحدة الإسلامية، لا للحدود الجغرافية، إلى حكم الإسلام وغيرها.
كذلك لم تغب قضايا الأمة عن كتبه ومحاضراته، فقد كتب وحاضر كثيرا حول قضية فلسطين بشكل مستقل، وتطرق مرارًا لقضايا أفغانستان، تركستان الشرقية، أندونيسيا، أرمينيا، بورما(ميانمار)، والبلاد الإسلامية في الاتحاد السوفياتي البائد (طاجكستان، تركمنستان، أوزبكستان، كازخستان، أذربيجان، قرغيزيا، والشيشان) وغيرها.
لقد اعتبر الإمام الشيرازي تسمية المسلم لأخيه المسلم بالأجنبي أمرا غير جائز شرعا(1)، وكذلك يرى أن "التفريق بين المسلمين وجعل الدولة الإسلامية عدة دول متفرقة يعتبر من أشد المحرمات في الإسلام.. سواء كان ذلك تفريقاً بالقوميات أو تفريقاً بالأراضي أم تفريقاً بالجنسيات، وكل ذلك مرفوض في الإسلام رفضاً شديداً"(2) لما يؤديه ذلك من إضعاف للمسلمين وتشتت قواهم. ويشدد السيد: "ليس الإسلام منحصراً في الصلاة والصيام وتعمير المسجد وما أشبه فقط، بل هذه أجزاء من الإسلام، وهناك أجزاء أخرى منها توحيد البلاد الإسلامية تحت لواء واحد"(3)، ويرى أن "من القوانين الإسلامية المضيعة هو الوحدة الإسلامية بين الأمة، فقد قال اللّه سبحانه: (إن هذه اُمّتكم أُمّة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)؛ فالمسلمون كما ينص القرآن أُمّة واحدة.."(4).
نبعت هذه المواقف من موقع المسؤولية التي كان يستشعرها الإمام الشيرازي والتي تقع على كاهلنا جميعا ونحن نرى ما آلت إليه الأمة من التشتت والتشرذم والضياع، إذ بلغت أصناف التفرقة الرئيسية إلى 11 صنفا، كما عددها الإمام الشيرازي!(5) ناهيك عن ما تتفرع إليه من فروع كثيرة ومتجددة لا تكاد تحصى.
• ما هو نوع الوحدة التي يدعوا لها الإمام الشيرازي؟
يجب وقبل أن نشرع في التفاصيل أن نجيب على هذا السؤال الجوهري، فهذه الوحدة –حسب اطلاعي المتواضع على كتب السيد في هذا المجال- تقوم على:
1) الحرية بشكل عام وحرية المعتقد بشكل خاص: "الكل له الحق في إبداء الرأي والمناقشة وتحري الحقيقة"(6). كما أن "لكل طائفة من الطائفتين، حرية المناقشات الأصولية والفروعية، وسائر حرياتها المشروعة، وإنما لا يحق لطائفة أن تعتدي على الأخرى اعتداءً جسمياً أو مالياً أو ما أشبه، فإن حرية الرأي والكلام والنشر وغيرها من مفاخر الإسلام الذي جاء لإنقاذ الإنسان من الكبت، من كل أنواع الكبت. قال تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِم)"(7). وعلى هذا الأساس "فإن الحكومة الإسلامية الواحدة سوف لاتواجه مشكلة كبيرة بالنسبة إلى اختلاف المذاهب لأنها تعطي الحرية لكل مذهب بحسبه وفي مجاله"(8).
2) التعددية ضمن إطار الوحدة العامة أو كما يسميها السيد "الوحدة الإطارية والتعددية التنافسية": "الوحدة في ظل حزب واحد أو مبدأ واحد هو التشتت والتفرقة والتمزّق"(9). وإنه "من المهم جداً أن يأخذ الناهضون الذين يريدون توحيد صف المسلمين ولم شملهم، بمبدأ التنافس في الأعمال، لأن التنافس يخلق في الإنسان روحاً غريبةً تطلب التقدم"(10).
3) مراعاة قانون الأكثرية: وهذا "لا يعني إلغاء الوحدة، بل إنه السبيل إلى تمتين دعائم الوحدة".(11) فإذا كانت القضية تختص بطائفة ما، يؤخذ برأي أكثريتها، أما إذا كانت تتعلق بالمسلمين عامة فيؤخذ برأي أكثرية الطوائف جميعا، ويتم هذا عن طريق "المجلس الإسلامي الأعلى". (راجع "الدولة الإسلامية، رؤى وآفاق"، ص5)
• من معوقات الوحدة ومسببات الفرقة:
1) التخلف العلمي والجهل المتفشي في كافة مجالات الحياة وبشكل واسع(12).
2) عدم وجود التنظيم الذي هو العمود الفقري لتوحيد الطاقات والصفوف(13).
3) الحواجز النفسية، والحدود الجغرافية المصطنعة بين بلاد المسلمين وتأثيراتها السلبية على الحرية والاقتصاد وتسببها بالتوترات السياسية والعسكرية، بينما نرى أن العالم يسعى بجدية نحو التوحد كما حصل في "الاتحاد الأوروبي" مؤخرًا، والهند والصين قبل ذلك.
4) معارضة الوحدة: وهنا يشبه السيد من يعارض الوحدة رغم معاناة المسلمين الشديدة من الفرقة أو من يتصور بأنها مشروع غير قابل للتحقق على أرض الواقع بمدمن التدخين رغم منع الطبيب له، إلا أنه يعطل فكره وإرادته بسبب إصغائه لإيحاءات شهوته. (راجع "الأمة الواحدة" ص15- 16).
• خطوات مهمة على طريق الوحدة:
1) التوعية الشاملة: "ممّا يوجب توحيد الصف، توحيد الوعي الموجب لتوحيد الاندفاع، فإنّ الوعي كالجوع الذي يجمع الناس حول الخباز في وقت الظهيرة لشراء الخبز بدون مقدمات"(14)، ويدعو السيد إلى طبع ما لا يقل عن مليار كتاب توعوي- اقتصادي، سياسي، اجتماعي، تربوي، عقائدي. (راجع "السبيل إلى إنهاض المسلمين" ص3)
2) التنظيم: "بأن ننظم ما لا يقل عن عشرين مليون مسلم، لأن المسلمين ألف مليون نسمة، فيكون في دائرة توجيه كل شخص منظم خمسون إنساناً مسلماً".
3) التعاون: "فلنجعل التعاون بين كافة المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم واجتهاداتهم وبلادهم وقومياتهم وجنسياتهم وألوانهم وسائر المميزات بينهم، لنجعل توحيد الكلمة والتعاون هو الأصل العام الذي يرجع إليه الكل قبل الحركة ومع الحركة وبعد الحركة حين الوصول إلى الدولة الإسلامية".
4) "السلام"، و"تجنب العنف بكل أقسامه، فإن الإسلام دينُ الرحمة والرأفة، ودين السلم والسلام.. إن سياسة التكفير والتفسيق سياسة غير ناجحة، وإن صدرت عن بعض أهل العلم أو من يتزين بزيهم".
5) "الاكتفاء الذاتي": لأنه يمكننا من اتخاذ القرارات بعيدا عن الضغوطات الأجنبية، خصوصا من الأطراف التي قد لا تعجبها فكرة الوحدة الإسلامية لأسباب أيدولوجية أو اقتصادية وسياسية أو غير ذلك.(15)
6) توعية البلاد الأجنبية: "يلزم أن يعرف العالَم بأجمعه ما نريده، وأنه هذه الحكومة الواحدة لا تضر أحداً، بل تخدم البشرية جمعاء، وتكون خير مثال لفكرة اتحاد جميع حكومات العالم في دولة عالمية موحدة.. ومن هنا فإن من الضروري نشر الوعي الإسلامي الصحيح حتى في البلاد الأجنبية"(16)
7) الاستفادة من تجارب الآخرين، وعلى رأسهم تجربة العدو الصهيوني في توحيد صهاينة العالم، وحزب المؤتمر الهندي والصين، وكذلك من تجربة المسلمين الأوائل في عهد رسول الله وما بعده، وتوحد العراقيين في ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني بقيادة الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي(قده) الذي أفشل جميع محاولات الاحتلال للتفريق بين طوائف وقوميات الشعب العراقي، وغيرها من تجارب الوحدة. (راجع كتاب"الأخوة الإسلامية"،وكتاب "لكي لا تتنازعوا" وراجع أيضا رسائل الشيخ لقادة أهل السنة)
8) "التغاضي عن الأمور الجزئية والابتعاد عن نقاط التشنج" وتجنب الزوايا الحادة، وترك السلبيات الموروثة. (17)
9) "الأخذ بأحكام وأهداف القرآن الكريم ومراعاة ذلك ومن أهمها (قانون الأخوة)، بالإضافة إلى مزج القول بالعمل والسير على نهج الرسول الأعظموعترته الطاهرة.. فإن من سنن الكون أن العاملين يصلون والذين لا يعملون لا يصلون إلى أهدافهم، وهذا ما يُصرح به القرآن الكريم"(18).
10) من جملة التوجيهات الأخرى، الاهتمام بـ: الإعلام، توزيع الأدوار، المداراة، الإصلاح بين الخطوط، قضاء حوائج الناس، منح الحريات، الاستفادة من المؤسسات، ومراكز الدراسات، التطبيق الممكن،الكفاءة والأهلية، الأخلاق الحسنة وخصوصا الصفح والصبر وحسن الظن، والاهتمام بغير المسلمين. (راجع "الوصول إلى حكومة إسلامية واحدة" و"لكي لا تتنازعوا" و"السبيل إلى إنهاض المسلمين")
• من ثمار الوحدة الإسلامية:
1) تقدم العالم الإسلامي في شتى المجالات.
2) تكوين قوة عالمية عظمى، "فلو جمعنا الموارد في بلادنا الإسلامية لكانت أكبر من موارد الولايات المتحدة وأكبر من موارد أية دولة عظمى أخرى. ومعنى ذلك سيكون عالمنا الإسلامي هو القوة العظمى"(19).
3) إنقاذ العالم من بعض المآسي، فنحن ندعو إلى "حكومة ألف مليون مسلم تنتهي بدورها إلى إلغاء الاستضعاف عن الجامعة البشرية"(20). كذلك ستمكننا هذه الوحدة من "إنقاذ العالم الغارق في مشاكل المادية"(21).
4) انتشار الإسلام انتشارًا سريعًا، كما انتشر في عهد المسلمين الأوائل الذين جسدوا الأخوة الإسلامية بأسمى معانيها، فكان الناس يدخلون في دين الله أفواجا. (راجع "الأخوة الإسلامية"، ص13)
• من جهود وتحركات الإمام الشيرازي في طريق الوحدة:
بعد كل هذا، هل اكتفى الإمام الشيرازي بالتنظير وتوزيع المسؤوليات على الغير وجلس متفرجا، أم عمل وبكل جهد ومثابرة في هذا السبيل؟
إن حياة الإمام الشيرازي هي مدرسة في التحرك الفكري والعملي نحو الوحدة الحقيقية، فرغم كونه مرجعا دينيا -أي أن وظيفته الرئيسية تتركز في توجيه الناس وتوعيتهم- إلا أنه فعل كل ما كان يتمكن من فعله في سبيل الوحدة الإسلامية، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
قام الإمام الشيرازي بدعم من يتمكن من دعمه من المسلمين في مختلف البلاد وخصوصا في فلسطين وكشمير وأفغانستان وتركيا والهند وغيرها عن طريق الفتاوى الشرعية –كفتوى وجوب تحرير القدس، وفتوى تحريم قتال الأكراد عندما طلب منه البعثيون فتوى توجب قتالهم-، والدعم المالي وخصوصا للاجئين، والدعم الإعلامي، وإرسال المساعدات والوكلاء الشرعيين والكتب، وإقامة العلاقات الإيجابية مع العلماء، ومراسلة قادة الدول كرسالته للرئيس الإندونيسي (سوهارتو) والتي ضمت 18 بنداً حول كيفية إدارة البلاد وإصلا ح الأمور(22).
• من تجليات الوحدة الإسلامية في ارتحال الإمام الشيرازي:
كما كانت حياته، كذلك كانت وفاته مظهرا من مظاهر الوحدة الإسلامية.. فبمجرد انتشار نبأ الرحيع المفجع، توالت الرسائل والبيانات والوفود من مختلف القيادات والتيارات والتوجهات من داخل الطائفة وخارجها، بل ومن غير المسلمين أيضا.. كلها كانت تعزي برحيل الإمام المجاهد المفكر العلَم الزاهد. رحمك الله يا أبا رضا، فلقد أديت الأمانة وبالغت في النصيحة لأمتك،وجاهدت في سبيل ربك، ومضيت على ذلك، فنسأل الله أن يوفقنا للسير على هذا الطريق الوعر في توحيد الأمة تحت راية الحق والعدل وأن لا تكون جهودنا في ذلك أضعف من جهود دعاة التشرذم ومثيري النعرات الطائفية والقومية وغيرها، وهذا أضعف الإيمان وأقل ما نجيب به الرحمان يوم نلقاه فيسألنا عن ما قدمنا لأمتنا الممزقة الجريحة.