هل يستفاد من الغيبة والإمام الغائب؟(1)

17/8/1430هـ

أحمد عبد الرحيم الحي *


كثيرا ما يثار هذا السؤال عند التأمل في مسألة الإمام المهدي الذي يجمع المسلمون على حتمية ظهوره آخر الزمان، وإن اختلفوا في ولادته من عدمها. ونحن هنا نبحث في إجابة هذا السؤال بالتحديد، ونتجاوز البحث عن النقاط الأخرى المتعلقة بمسألة الغيبة كالحكمة منها، ولماذا لم ينتصر الله لوليه بدل أن يغيبه، والغيبة في كتب أهل السنة(1)، وغيبات الأنبياء عبر التاريخ وبالخصوص غيبة نبي الله عيسى، بل وغيبة البشر العاديين من ملوك وحكام لعلل يرونها، وطول عمر الإمام، ومقدرته على التغيير، وغيرها ذلك مما تعرض له كبار علمائنا الأقدمين والمعاصرين، فتطلب من مصادرها.

إن من يتأمل في مسألة الغيبة بدقة ويعمل عقله فيها، ثم يراجع الأحاديث الواردة عن رسول الله والأئمة الهداة من بعده، يجد توافقا بين النتائج التي يتوصل إليها من الطريقين. بل يجد أن غيبتي الإمام المهدي(عج) وما يرافقها من أمور هي من دلائل صدق عقيدة شيعة أهل البيت في أئمتهم، إذ تحقق ما أخبروا به قبل وقوع الغيبة بزمن طويل.

ونقدم هنا خلاصة سريعة لما يمكن أن نصل إليه نتيجة هذا التأمل والبحث في كتب علمائنا الأبرار الذين بحثوا هذه القضية وأجابوا على الإشكالات المتعلقة بها منذ ما يزيد عن الألف عام مستندين بأحاديث رسول الله وأهل بيته، عسى الله أن ينفع بها من يطرأ بباله هذا السؤال فتكون عونا له في تقوية يقينه، أو تكون تذكرة للمؤمنين الذين تنفعهم التذكرة.

ورد عن رسول الله أنه قال للصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري حول غيبة المهدي: "يا جابر إن هذا الأمر (أمر) من أمر الله وسر من سر الله ، مطوي عن عباد الله ، فإياك والشك فيه"(كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق،ص288). وجاء عن الإمام الصادق: "..وجه الحكمة في غيبته، وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره، إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره، كما لا ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضرمن خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار لموسى إلا وقت افتراقهما.."(علل الشرائع للشيخ الصدوق،ج1 ص287). فنحن لا ندعي هنا أن هذه النقاط هي إجابة وافية عن هذا السؤال وهذا ما لا طاقة لنا به، فهي لا تعدو بعض ما تتمكن أفهامنا القاصرة والمقصرة من إدراكه.

• من فوائد الغيبة والإمام الغائب؟

1) وجود الإمام في حد ذاته هو ضمان بقاء البشرية أولا، ورحمتها ورفع العذاب عنها ثانيا.
قال تعالى مخاطبا نبيه الأكرم: ﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم (الأنفال:33). وهذه الآية تجري في أهل بيته الطاهرين كما في الحديث المروي عند أهل السنة: "النجوم أمان لأهل السماء ، فإن طمست أتى السماء ما يوعدون ، وأنا أمان لأصحابي، فإذا قبضت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأهل بيتي أمان لأمتي ، فإذا ذهب أهل بيتي أتى أمتي ما يوعدون" (المستدرك 3 / 457 ، 2 / 448 ، قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه) .وكذلك الحديث المذكور بصورة متكاثرة في كتب الإمامية وبصيغ متقاربة: "لو خلت الأرض طرفة عين من حجة لساخت بأهلها" (علل الشرائع،ج1 ص234).

2) الإمام هو الرابطة بين الأرض والسماء في هذا العصر، فالإمام هو "واسطة الفيض الإلهي"الذي لا ينقطع عن البشر أبدا. فإذا لم يكن الإمام موجودا فعلى من تتنزل الملائكة والروح كل عام في ليلة القدر بإذن ربهم من كل أمر؟ وكيف يتحقق حديث الثقلين -الكتاب والعترة- وأنهما لا يفترقان حتى يردا على رسول الله الحوض؟

يقول الدكتور كربن -أستاذ الفلسفة في جامعة السوربون-: "أعتقد أن مذهب التشيع هو المذهب الوحيد الذي احتفظ دائماً بوجود رابطة الهداية الإلهية بين الله والخلق وجعل رابطة الولاية حية قائمة بشكل مستمر..مذهب التشيع لوحده هو الذي يعتقد بختم بالرسول محمد ولكن الولاية وهي رابطة الهداية والتكميل ستبقى حية و إلى يوم القيامة..نعم إن قيام هذه الحقيقة بين العالم الإنساني والإلهي إلى الأبد إنما هو في مذهب التشيع و حسب"(2).

3) تكامل البشرية: ففترة الغيبة الطويلة هي فترة ضرورية لتنضج البشرية وتصبح أكثر تقبلا للحق والعدل والتطور الحقيقي، فالمشاكل الاجتماعية والفكرية والنفسية في المجتمع البشري تحتاج قرونا طويلة من المجاهدة. فلا تتبدل قناعات الإنسان المغتر بنفسه ولا يقبل الحق الذي يستثقله-وفيه راحته وسعادته- إلا بعد تجربة كل الخيارات التي تميل نفسه إليها ثم يثبت لديه فشلها. فبعد آلاف السنين من الحروب الدامية، لا تزال البشرية غير مستعدة للتخلي عن هذا الخيار لحل خلافاتها. وأيضا، قضية إلغاء العبودية هي أحد التحولات التي استغرقت قرونا طويلة حتى أمكن تحقيقها، ومع ذلك لم تحدث بطريقة سلمية واختيارية مطلقة في كثير من الأماكن. وكذلك،"انتظرت السماء مرور خمسة قرون من الجاهلية حتى أنزلت آخر رسالاتها على يد النبيّ محمد لأنّ الارتباط بالظروف الموضوعية للتنفيذ كان يفرض تأخّرها"(بحث حول الإمام المهدي(عج) للسيد محمد باقر الصدر، المبحث السادس).

وهذا لا يعني أن البشرية يمكن لها أن تتكامل بدرجة تستغني بها عن الإمام، وإنما يعني أنه حتى تكون البشرية مستعدة لتقبل ما سيأتي به الإمام(عج) لإنقاذها، لا بد من أن يثبت لدى جميع البشر نقص وفشل الأطروحات البعيدة عن طريق الله بالتجربة، فلا يخرج أحد عن طاعة الإمام مستقبلا زاعما أنه لو أعطي الفرصة المناسبة لجاء بأفضل مما جاء به الإمام. ففترة الغيبة تتيح الفرصة الكافية لجميع البشر ليبذلوا قصارى جهدهم، فيدركوا بعد ذلك قيمة الأنبياء والأوصياء الذين فرط بهم عبر التاريخ، فيكونون أشد شوقا لآخر الأوصياء والمنقذين ويستفيدون منه أكثر بعد ظهوره، فلا يتكرر الخطأ. ولعله يمكن استيحاء هذا المعنى من قول الإمام الباقر: "إن دولتنا آخر الدول ولم يبقى أهل بيت لهم دولة إلا ملكوا قبلنا، لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا، لو ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله عز وجل (والعاقبة للمتقين)" (بحار الأنوار للمجلسي،ج52 ص308).

وقد يرد إشكال وهو: لماذا لا يظهر الإمام(عج) حتى لأوليائه وشيعته؟

فنقول: إذا كان الإمام(عج) يظهر لهم وتقر أعينهم برؤيته ويحل لهم جميع مشاكلهم، فإن ذلك يدفع الكثير منهم إلى التراخي وعدم الاجتهاد الشديد في التمهيد لظهوره(عج) وتهيئة الأسباب لذلك، ولكنه إذا غاب يعلمون أن هنالك خللا عاما حتى في أنفسهم تقع على عواهلهم مسؤولية العمل لإصلاحه، وقد أجاب علماؤنا عن هذا السؤال بالعديد من الإجابات الأخرى، فراجعها في محلها.

4) القدوة والنموذج الحي (Exemplar): من المعروف أن القدوة المعاصرة لجمهورها يكون تأثيرها على سلوكه أكبر من القدوة التي تفصل بينها وبينه عدة قرون. بل إن من يعتقد أن إمامه حي حاضر بين الناس ولكنه لا يعرف شخصه، يراقب سلوكه -أكثر ممن يعرف إمامه الحي بشخصه- لأنه يدقق في كل عمل من أعماله خشية أن يكون الإمام(عج)ناظرا له وهو لا يعلم، ويحاول بأقصى جهده الاجتهاد في الخيرات ومحاسن الأخلاق رغبة في رضاه ورضى ربه تعالى لأنه يعلم أن الإمام مطلع على كل أحواله بإذن الله.

عن أمير المؤمنين: "اللهم إنه لابد لأرضك من حجة لك على خلقك، يهديهم إلى دينك ويعلمهم علمك لئلا تبطل حجتك ولا يضل أتباع أوليائك بعد إذ هديتهم به، إما ظاهر ليس بالمطاع أو مكتتم مترقب، إن غاب عن الناس شخصه في حال هدايتهم، فإن علمه وآدابه في قلوب المؤمنين مثبتة، فهم بها عاملون" (كمال الدين وتمام النعمة،ص302). وعن الإمام الكاظم: "يغيب عن أبصار الناس شخصه، ولا يغيب عن قلوب المؤمنين ذكره" (نفس المصدر،ص368-369). وعن الإمام الصادق أيضا: "..يا فضيل اعرف إمامك، فإنك إذا عرفت إمامك لم يضرك تقدم هذا الامر أو تأخر.." (الغيبة للنعماني، ص329).

إن كون ظهور الإمام(عج) كما قال رسول الله: "مثله مثل الساعة التي (لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة)" (المصدر السابق، ص373)، يجعل المؤمن به في حالة استعداد دائم محافظا على الفضيلة والأوامر الإلهية رغبة أو رهبة، لأنه يتوقعه في كل لحظة.

5) الإمام(عج) عامل الوحدة الذي لا يمكن تجاوزه بحال من الأحوال، فالشيعة مهما مزقتهم الخلافات، ومهما تضاربت مصالحهم وآراؤهم، فإن الذي يجمعهم في نهاية المطاف هو الإيمان بإمام حي ينضوون تحت رايته ويجمعهم الولاء له. وقد يقول قائل: حتى غير الشيعة تجمعهم رموزهم الحية أو الميتة، فما الفرق؟

نقول: هذا صحيح، ولكن كما ذكرنا في النقطة السابقة، فإن كون الإمام حيا يزرع نوعا خاصا من التمسك به والتقيد بالمنهج الذي يمثله إما رغبة أو رهبة. كما أن صفات هذا الإمام(عج) ومقامه يختلف عن كل الرموز الحية الأخرى من ناحية القداسة والقدرة والمهمة، وبالتالي فإن استشعار وجوده ومراقبته يؤثر أكثر من غيره.

وبالتالي فإن من "يوقن" بهذا الإمام(عج)، لابد له أن ينصاع لصوت الحق والعقل، ويسعى نحو الوحدة وإنهاء الصراع والنزاع، إذا ذكّره أحدهم بمراقبة الإمام(عج) لتفرق شيعته لما لا يجدر التفرق بسببه، وما يمكن أن يؤدي له ذلك من سخطه(عج). وهذا السلاح الفعال لابد من تفعيله في واقعنا أكثر، لاسيما عند الأخيار، لحل الخلافات التي لا مسوغ عقلي ولا شرعي لها، فهل يوجد أحد لا يبالي بسخط الله وولي الله عليه؟!

نكتفي بهذا المقدار من الفوائد الدينية والدنيوية المباشرة من الغيبة ومن الإمام المهدي(عج) أثناء غيبته الكبرى، و في الجزء الثاني سنذكر خمس فؤائد أخر تكون أكثر مباشرة من هذه الخمس الأولى بحول الله وقوته، وبركات ودعاء صاحب العصر والزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف).
 

(1) دراسة وثائقية عن الإمام المنتظر، رحيم حسين مبارك، عنوان (علماء أهل السنّة الذين ذكروا غيبة الإمام المهدي عليه السّلام): http://www.m-mahdi.com/book/009/004.htm#00030
(2) الكتاب السنوي "مكتب تشيع " السنة الثانية ص 20–21
صفوى