العوامية الشيخ السعيد : لئلا نتفرق عن القيادات الصادقة
الخطبة الأولى: لئلا نتفرق عن القيادات الصادقة
- صدر الخطبة
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإن التقوى هي زاد الإنسان للاستقامة على منهج الله، فالإنسان قد يكون في يومه لازماً للجادة، إلا أنه في ليله قد يكون منحرفاً عن الصراط المستقيم، فحينما تنعدم التقوى، يتقلب الإنسان من طريقٍ إلى طريق، ومن ضفة إلى ضفة، وهكذا المجتمع بقدر ما يمتلك من روح التقوى بقدر ما تستقيم مسيرته على منهج الله، ففقدان التقوى هو الذي يدفع المجتمع إلى تبديل منهجه الحق.
- أهمية التوافق على القيادات الصادقة
إن حركة المجتمع نحو الإصلاح والتغيير لا بد لها من قيادة صالحة تقود المسيرة، لأن القيادة هي التي تبلور للجماهير ملامح المنهج الذي تسير عليه، وهي التي تبلور الرؤية في المتغيرات السياسية والاجتماعية، وهي التي تقود المجتمع لمواجهة التحديات الخارجية، وبالتالي هي التي تضبط الحركة، وتوجه المسيرة إلى حيث الأهداف والتطلعات.
ومن تنبع نقطة محورية وغاية في الأهمية، وهي ضرورة توافق المجتمع على القيادات، والتي تحكي آماله وآلامه وتسعى من أجل تحقيق أهدافه وتطلعاته، وحركة القيادة الربانية تتمثل في مشروع- سواء كانت صبغته صبغة دينية أو اجتماعية أو سياسية- وهذا المشروع حتى ينجح بحاجة إلى التفاعل من المجتمع والدعم والتأييد من الجماهير، وتوافق المجتمع على القيادة الرسالية هو الذي يحقق الدعم والتأييد لمشاريع القيادة، فالمشروع الذي تتبناه القيادة الرسالية إنما يمتلك القوة من خلال الرصيد الاجتماعي، ومن خلال تفاعل مختلف الطاقات والنخب الاجتماعية.
وكما أن توافق المجتمع على قياداته المخلصة يعد عنصراً هاماً، كذلك تفرق المجتمع عن قياداته المخلصة يعد عقبة كبيرة أمام البرامج والمشاريع الرسالية، بل إن تفرق المجتمع عن قياداته المخلصة هو الذي يقوض المشاريع الكبرى التي تتبناها القيادات.
- أسباب تفرق المجتمع عن القيادات المخلصة
وهنا نتساءل تساؤلاً هاماً: ما هي أسباب تفرق المجتمع عن القيادات المخلصة، فنحن لو راجعنا التاريخ الغابر أو الواقع المعاصر، لرأينا بأن عدم توافق المجتمع على قياداته المخلصة تكاد تكون ظاهرة طبيعية.
ففي سيرة أهل البيت عليهم السلام: تجد بأن أمير المؤمنين عليه السلام، يقول: أفسدتم علي رأي بالعصيان، ولا رأي لمن لا يطاع، فأمير المؤمنين عليه السلام كان لديه مشروع إصلاحي كبير، لكنه لم يتمكن من تحقيق هذا المشروع حينما تفرق عنه الناس، وهكذا تجد في سيرة الإمام الحسن عليه السلام، وحينما كانت مواجهته مع معاوية، تجد بأنه قد تفرق الناس عن الإمام الحسن مع أن قيادته كانت قيادة معصومة وتتمتع بكافة الصفات القيادية، إلا أن تفرق الناس عن قيادته أجبر الإمام على الصلح مع معاوية، مع أن فئات من الشيعة لم تكن تقبل بصلح الإمام الحسن مع معاوية إلا أن تفرق الناس عنه هو الذي قاده إلى هذا المخرج، وهذه التسوية، وبعبارة أخرى، إن الخيار الأول للإمام الحسن مع معاوية كان التصعيد والمواجهة، وليس الصلح والتسوية، لأنه من المعلوم أن معاوية ينكث بهذا الصلح.
بل حتى لو تأملنا في الواقع المعاصر لوجدنا بأنه من الصعب أن يتوافق المجتمع على قياداته حتى وإن كانت تتمتع بالكفاءة والإخلاص من أجل أهداف المجتمع، لو جئنا إلى مانديلا ذلك القائد العتيد في تاريخ جنوب إفريقيا، والذي حرر السود من التمييز العنصري، ومن هيمنة البيض، لم يكن مشروعه في التحرير محل إجماعٍ ووفاق، بل كان هناك عددٌ من السود- وهو عدد ليس بالقليل- كان يقاتل مع المستعمرين البيض، وكانوا يعتبرون مانديلا شراً وشيوعياً أحمر، بل كانوا ينقمون على مانديلا حركته لأنها في نظرهم تحرمهم من الخير الذي جاء به البيض [1].
- فيا ترى ما هي أسباب تفرق المجتمع عن القيادات المخلصة؟
لو جئنا إلى أسباب تفرق المجتمع عن قيادته المخلصة لوجدنا بأن هناك أسباب داخلية، من داخل الوسط الاجتماعي، كما أن هناك أسباب خارجية.
الأسباب الداخلية:
- عدم إيمان المجتمع بمشروع القيادة
إن المجتمع لا يمكن أن يتحرك مع قياداته المخلصة ما لم يكن مؤمناً قبل ذلك بمشروعها، وجداوائية ذلك المشروع، فحينما يؤمن المجتمع بمشروع القيادة وبأسلوبها في العمل، تجد منه التأييد والدعم، أما عدم إيمان المجتمع بحركة القيادة ومشروعها الإصلاحي قد يتسبب في مواقف سلبية، قد يتسبب في حدوث مناوشات وتشويشات على مشاريع القيادة وحركتها.
وهذه المسألة تتأثر بشكل كبير بقناعات النخب الاجتماعية وأصحاب الرأي والتأثير، فإيمان النخب بمشروع القيادة له تأثير على الواقع الاجتماعي، بمقدار اتصال هذه النخب مع الأوساط الاجتماعية، وهكذا عدم إيمانهم بحركة القيادة ومشروعها قد يؤثر على مسار هذا المشروع في الوسط الاجتماعي، بل قد يتسبب في حدوث حالة من التفرق عن القيادة الرسالية.
- عدم أهلية المجتمع في تحمل مشروع القيادة:
ثم إن المجتمع حتى يستمر مع قياداته المخلصة هو بحاجة إلى أن يكون مؤهلاً في تحمل مشروع القيادة، فحينما يكون المجتمع مجتمعاً مخملياً قد تعود على حب الدفء والراحة، لا ريب أن هذا المجتمع سوف يتفرق عن قيادته، وهذا مثل مجتمع الإمام الحسن حيث كان مجتمع الكوفة منهك من كثرة الحروب التي خاضها مع أمير المؤمنين وحينما تسلم الإمام الحسن زمام الخلافة وكانت المواجهة مع معاوية لم يكن المجتمع حينذاك مستعداً أن يتحمل المشروع، بل كان يبحث عن الدفء والراحة.
- الجهل بالقيادة
إن المجتمع لا يمكن أن يتحرك مع القيادة ما لم يكن عارفاً بجدارتها في أن تقود المسيرة، ولهذا حينما يكون المجتمع جاهلاً بقيادته المخلصة، فلا ريب أنه سوف يتفرق عنها، ولهذا نحن نجد في عالم السياسة أن كل من يرشح نفسه للانتخابات يصرف أموالاً طائلة من أجل حملته الانتخابية، ومن أجل تعريف الناس بمشاريعه، حتى ينتخبه الناس ويتوافقون عليه، ولهذا حينما تكون صورة القيادة صورة ضبابية أو مشوشة، فمن الطبيعي أن يتسبب هذا الأمر في تفرق الناس عن القيادة، خاصة إذا وضعنا في عين الاعتبار أن هناك بعض الجهات قد تعمد إلى تشويه صورة القيادات إعلامياً.
- الأسباب الخارجية:
- أصحاب المصالح:
فهناك جهات من أصحاب المصالح يغيضها توافق المجتمع على قياداته المخلصة، ولهذا هي تلجأ إلى كافة الوسائل والأساليب التي من خلالها تعزل القيادة عن الجماهير وتقطع الطريق أمام تموجاتها الاجتماعية، ولهذا نجد أن الغرب يعمدون إلى تشويه صورة القيادة المرجعية التي تعارض السياسات الغربية وتهدد مصالحها من خلال بث الأكاذيب وتزوير الحقائق وبث المغالطات من أجل عزل القيادة المرجعية عن الجماهير، ولهذا فإن القيادات الربانية عادة ما تكون سهام الأعداء مسلطة عليها من أجل فك الارتباط بينها وبين المجتمع.
وأصحاب المصالح يمارسون كافة المكائد والدسائس من أجل تفريق المجتمع عن قيادته، وعزل القيادة عن الجماهير وامتداداتها الاجتماعية، فتارة يعمد أصحاب المصالح إلى التلاعب بالحقائق عبر وسائل الإعلام من أجل زعزعة ثقة المجتمعات بقياداتها المخلصة، فيتهم القيادات بالإفساد، وهذا المنطق أكد عليه القرآن الكريم: قال تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ) [2]وهنا فرعون يتهم نبي الله موسى بأنه شخصية مفسدة، حتى يرفع عنه الغطاء الاجتماعي والتأييد الشعبي، حتى يسهل له الأمر بأن يصفي نبي الله موسى جسدياً.
وتارة تجد بأن أصحاب المصالح يلجأون إلى استخدام أسلوب الترغيب والترهيب من أجل تفريق الناس عن القيادات الصالحة، حيث تعرض عليهم حزمة من الامتيازات إن هم رفعوا تأييدهم عن القيادة، أو يستخدم معهم أسلوب الترهيب والتهديد والوعيد، وهذه الأساليب أشار إليها القرآن الكريم، حيث يقول تعالى: (وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ) [3]فأنتم إن اتبعتم هؤلاء، فسوف تخسرون كثيراً من المكاسب المادية، ونحن لا نريد لكم السوء والإساءة إلا أن إتباعكم لهؤلاء يسبب لكم المشاكل، وأنتم من سيخسر في هذه المعادلة.
وهذا الأمر نراه بشكل واضح وجلي، بل يعد من يوميات الحياة السياسية، فكل جهة تتبنى مشروع أو حركة إصلاحية- سواء كانت هذه الجهة دولة، أو حزب، أو شخصية قيادية- نرى أن أصحاب المصالح يستخدمون كافة الوسائل من أجل تشويه صورة هذه الجهة إعلامياً، فتتهم بأنها تتخذ مغامرات غير محسوبة، أو أنها متهورة تسببت في سفك الدماء، أو أنها تدعم الإرهاب، أو صاحبة أطماع في المنطقة، كل ذلك حتى تتمكن من عزلها عن المجتمعات وعن الأمة، ولهذا ترى أن الأموال تبذل، وسائل الإعلام تجند من أجل خلق العقد أمام المشاريع الإصلاحية.
ومن المغالطات المكشوفة التي دائماً ما تبثها وسائل الإعلام- والتي يسوق لها بعض الناس بدافع من الجهل- أنها تتهم المصلحين والذين يدافعون عن كرامة مجتمعاتهم وكرامة أمتهم بأنهم هم سبب اختلال الأمن، أو هم سبب سفك الدماء، وما جرى على الناس من قمع أو ظلم، بدلاً من أن تسلط الضوء على المتسبب الحقيقي لسفك الدماء وللظلم الذي حدث على الناس.
فإذاً هناك ثمة عوامل وأسباب هي التي تتسبب في تفرق المجتمع عن قياداته المخلصة، ووجود هذه العوامل والأسباب حالة طبيعية ، ولهذا تجد على امتداد التاريخ من الصعب أن يتوافق المجتمع على قياداته المخلصة منذ البداية، وذلك بسبب عوامل كثيرة، بل حتى لو نظرنا إلى تاريخ أعظم القيادات، التي برزت وصنعت تحولات كبرى في مجتمعاتها، لرأينا بأنها وقعت محلاً للخلاف بين سائر الفئات والشرائح الاجتماعية، إلى أن القيادة مع مرور الزمان تثبت جدارتها وكفاءتها في قيادة المسيرة.
- آلية اتخاذ القرار:
من المسائل الهامة والحساسة والتي تؤثر بشكل كبير على توافق المجتمع مع قياداته، آلية اتخاذ القرارات، هل أن القيادة تعمد إلى استخدام الشورى أما أنها تعمد إلى استخدام نوع من الاستبداد الديني؟ ونحن لو رجعنا إلى كثير من الانقسامات التي طرأت في كثير من الأوساط على مستوى دول، وعلى مستوى حركات، فضلاً عما دون ذلك، لوجدنا بأن آلية اتخاذ القرارات تؤثر على علاقة النخب مع القيادات.
ونحن نعلم بأن الإسلام جمع بين مبدأ القيادة الدينية، وبين مبدأ الشورى, فمع أن قيادة الرسول الأعظم قيادة إلهية معصومة إلا أنه مع ذلك، الله سبحانه يأمره بالشورى.
فمن المشاكل التي تحدث بين القيادات وبين النخب الدينية والثقافية- سواء على مستوى دول أو على مستوى حركات أو على مستوى واقع اجتماعي- هي مسألة آلية اتخاذ القرار، وتحديداً عدم الانفراد بالقرار، أو عدم اختطاف القرار من قبل القيادة، وفي الحقيقة هذا الكلام يرجع في كثير من الأحيان إلى عدم إيمان النخب بقيادة القيادة، حيث أنه ينبغي على القيادة استشارة النخب الدينية والثقافية، لكن في المقابل متى ما خالفت القيادة مشورة النخب، هنا يجب على النخب إتباع القيادة، وإلا لما أصبحت قيادة.
وكما يقول الإمام علي لابن عباس: عليك أن تشير عليّ، فإذا خالفتك فأطعني، أي أنه ابن عباس يمثل شخصية علمية ونخبوية وهنا ينبغي الاستشارة أو يحق لابن عباس أن يشير على الإمام ، لكان إذا خالف الإمام ابن عباس يجب على ابن عباس أن يطيع الإمام ، الآية القرآنية تقول (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [4]أي أن القيادة هي التي تعزم.
إن حق القرار لم يوكل إلى القيادة هكذا بشكل اعتباطي، وإنما لمواصفات أكد عليها القرآن الكريم، وأي شخصية تتوفر فيها هذه الصفات تكون جديرة بأن تكون قيادة في الساحة الاجتماعية، بل لا بد أن نتعرف على هذه الصفات، والتي هي معايير ومقاييس يضعها القرآن الكريم لمعرفة القيادة.
الصفة الأولى: الفقاهة، وامتلاك القدرة على تطبيق الوحي على الوقائع الخارجية:
أي أن تمتلك القيادة ناصية الاستنباط، والقدرة على استنباط الحكم الشرعي للثوابت، وللمتغيرات خصوصاً المتغيرات السياسية، حيث أن الساحة السياسية تعج بالأحداث، والقيادة لا بد أن تكون عارفة بالمتغيرات السياسية، كما لا بد أن تكون عارفة بالوحي، من أجل تطبيق الوحي على الوقائع الخارجية، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾[5] أما من يجهل الواقع ويجهل المتغيرات السياسية، أو غير قادر على استنباط الأحكام وتطبيق الوحي على المتغيرات الخارجية، فغير مؤهل للقيادة، وذلك لأن القيادة هي التي تضبط إيقاع حركة الجماهير وفقاً للمتغيرات السياسية والاجتماعية، ووفقاً لأحكام الشرع، وذلك حينما تكون القيادة واعية للمتغيرات السياسية، وواعية لاستعدادات المجتمع، وقادرة على استنباط الحكم الشرعي.
الصفة الثانية: الشهادة على القيم:
ثم إن القيادة ينبغي أن تكون قائمة بالدين شاهدة على تطبيق القيم، لأن الدين ليس مجرد شعارات وخطابات، وإنما هو قيم لا بد أن تتجسد في الواقع الخارجي، ومسؤولية القيادة أن تكون رقيبة وشاهدة على تطبيق القيم، وبالخصوص قيمة العدالة والقسط، والتي ينبغي أن تسودا في الواقع السياسي والاجتماعي، فحينما يكون هناك جور أو حينما يكون هناك ظلم، فمسؤولية القيادة الربانية أن تشهد بالقسط وبالحق، قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء) [6]ولا شك أن الذي ينأ بنفسه عن قول كلمة الحق والشهادة بالقسط ليس جديراً بأن يكون قائداً.
الصفة الثالثة: الخشية من الله واحده
ثم إن القيادة الرسالية لا بد أن تتصف بالشجاعة، وأن تخشى الله وحده، ولا تخشى الناس، ولا تبيع قيم الرسالة من أجل ثمن قليل، أو من أجل مكاسب ذاتية وشخصية، حتى تتمكن من أداء مسؤوليتها اتجاه الحق واتجاه القيم، قال تعالى: (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) .[7]
الصفة الرابعة: اليقين:
فالقيادة الربانية تسير على منهجها بكل يقين، فهي لا تشك في طريقها ولا تبدل منهجها، وإنما تمضي بكل يقين من أجل إقامة الدين وتجسيد القيم في الواقع الخارجي، ولا ريب إن الإنسان قد يتعرض إلى الترهيب من قبل الطغاة والمستكبرين، فما لم يكن يمتلك اليقين بالله، وبقيم الرسالة، لن يتمكن من الثبات والاستقامة على أشواك الطريق.
الصفة الخامسة: الصبر:
فالقيادة والتي تحمل مشاريع كبرى في الإصلاح على المستوى الديني والاجتماعي والسياسي، لا بد أن تتحلى بالصبر، لأن الطريق طويل، وفيه يتعرض الإنسان إلى ضغوط الأسرة وضغوط المجتمع وضغوط السياسة، والقيادة ما لم تتحلى بالصبر لن تتمكن من قيادة المسيرة، ولهذا يقول تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [8]، فهم كانوا موقنين بآيات الله، وهذا اليقين هو الذي يمنحهم القدرة على الاستقامة على هذا الطريق.
إن الكفاءة الروحية تعد من الصفات الأساسية في شخصية القيادة، بل لو قلنا بكونها أكثر أهمية من الكفاءة العلمية لما كان في ذلك مجازفة، ولهذا نحن نجد بأن الإمام الحجة (عج) يخص الحسين بن روح النوبختي بالسفارة، بدلاً من محمد بن علي الشلمغاني، والذي كان من أعلام الطائفة ووجوه المذهب آنذاك، بل كانت بيوت الشيعة ملئ بكتب الشلمغاني إلا أنه لم يكن مؤهلاً من الناحية الروحية إلى أن يتقلد مقام السفارة للإمام الحجة (عج) .
فهذه معايير أساسية من خلالها نتمكن من معرفة القيادة، ومن توفرت فيه هذه الصفات كان جديراً بقيادة المجتمع، وهنا وإن كان على القيادة أن تستشير أهل الخبرة العارفين بالدين، والعارفين بالواقع الخارجي، والمتصفين بالعدالة، إلا أن من حق القيادة أن تتخذ القرار، وهنا ينبغي على بقية النخب أن تقف موقف الدعم والتأييد، حتى في حالة المخالفة، لا أن ننثر بذور الشقاق والاختلاف من خلال الكلمات السلبية والمواقف المهلهلة والضعيفة.
ومن خلال هذه الرؤى نكون قد بينا معايير القيادة من خلال القرآن الكريم، ونكون قد عرفنا أن الجهة التي يحق لها اتخاذ القرارات الهامة.
- روايات في أهل الشورى
وهنا نسلط الضوء على صفات أهل الشورى من خلال بعض الروايات.
عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: كان أبي عليه السلام يقول: قم بالحق .. واستشر في أمورك الذين يخشون ربهم[9] .
وعن محمد بن آدم، عن أبيه، عن أبي الحسن الرضا، عن آبائه، عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى اله عليه وآله: يا علي لا تشاورن جباناً فإنه يضيق عليك المخرج ولا تشاورن بخيلاً فإنه يقصر بك عن غايتك، ولا تشاورن حريصاً فإنه يزين لك شرها[10].
ثم لا بد أن نؤكد بأن الفكر الديني ليس فكر استبدادي، وإنما هو فكر يقدس الشورى، والروايات التي جاءت لتؤكد على مبدأ الشورى هي روايات كثيرة، ونحن في واقع عملنا الديني والاجتماعي وفي الواقع السياسي أيضاً، نحتاج إلى تكريس مبدأ الشورى مع أهل الشورى ووفق الضوابط التي بينتها النصوص الدينية، حيث أنه أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله، ونحن بحاجة إلى العمل المؤسساتي الجمعي المنظم، لأنه الآلية الحديثة من أجل تطبيق الشورى.
ومن الأمور الملفتة في هذا الصدد أن خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي وجهه الشهر الماضي إلى العالم الإسلامي، كان قد أطلع عليه وأبدى الرأي فيه من 38 إلى 42 خبيراً ومستشاراً، على اعتبار أن ذاك الخطاب كان يراد له أن يقرب ويحسن من علاقة العالم الإسلامي بالولايات المتحدة، فكان هناك اهتمام كبير بشكل الخطاب لا بمضمون الخطاب.
- مسؤوليتنا:
وفي ختام الكلام نؤكد أن قيادات المجتمع هي نبض المجتمع، وتفرق المجتمع عن قياداته المخلصة هو تفريطٌ بهويته، وطمسٌ لشخصيته، فتوافق المجتمع على قياداته المخلصة هي مسألة من المسائل المهمة من أجل تغيير الواقع، ولا ريب أن مسؤولية المؤمنين أن يعملوا على رفع جميع الأسباب التي تؤدي إلى تفرق المجتمع عن قياداته ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وهذا بحاجة إلى العمل الجاد من أجل تعريف المجتمع بقياداته المخلصة، وما تحمله هذه القيادات من مشاريع إصلاحية تنهض بالمجتمع إلى أسمى درجات التكامل والنهضة، أسال الله سبحانه أن يوفق المؤمنين والمؤمنات لذلك، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
بسم الله الرحمن الرحيم
قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
الخطبة الثانية: كيف نستفيد من حركة التغيير؟
صدر الخطبة:
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، اتقوا الله ما استطعتم، إن الله حينما يأمر الإنسان ببذل أقصى الوسع والاستطاعة من أجل تحصيل التقوى، فهذا الأمر ليس اعتباطياً حتماً، بل لأنه السبيل الوحيد حتى يخلص الإنسان نفسه من حساب الله في الآخرة، والإنسان على نفسه بصيرة، فكل إنسان يعلم حقيقة جهده وسعيه من أجل تحصيل التقوى، إلا أن مشكلة الإنسان أنه يغفل عن محاسبة نفسه، فيترك نفسه لهذه الحياة الدنيا.
إن التغيير سنة إلهية، فمن سنن الله التي لا تتبدل ولا تتغير سنة التبدل والتحول، فهذه الحياة ليست على نسق واحد، وليست على حالٍ واحد، وحركة التغيير في تسارع هائل، فنحن اليوم نعيش في عصر العولمة وفي عصر القرية الواحدة، التي يترابط ويتداخل فيه العالم مع بعضه البعض.
إلا أن تفاعل المجتمعات مع حركة التغيير لا يجري على نسق واحد، فهناك من المجتمعات من بيده الفعل، فهو الذي يصنع التحولات وهو الذي يغير واقعه بيده من خلال إرادته الواعية، ووعي المجتمع هو الذي يؤهله للاستفادة من حركة التغيير العالمية، وهو الذي يؤهله للاستفادة من ترابط العالم مع بعضه البعض، خصوصاً الترابط الإعلامي حيث أصبح العالم مترابطاً إعلامياً أكثر من أي وقت مضى.
وهناك من المجتمعات من لا تملك الفعل، وإنما هي تنفعل مع حركة التغيير، فهي لا تتحرك إلا بمستوى ردود الأفعال لما يجري من أحداث ومتغيرات سياسية واجتماعية، وفارقٌ كبير بين من يمتلك الفعل، ويمتلك رؤية واضحة للعمل، وبرنامج واضح يسير عليه، ويعمل على تسخير كل ما هو متاح من قدرات وإمكانات، وبين من يفتقر إلى الرؤية الواضحة والبرنامج المحدد.
ومن الطبيعي أن المجتمع الذي يمتلك القدرة على الفعل -لا الانفعال لما يحدث في الخارج- هذا المجتمع هو القادر على استثمار الأحداث والمتغيرات.
المؤرخ إريك هوبسباوم في دراسة تاريخ المجتمعات وتاريخ الحضارات يقول ليس مهماً طول المدة لزمنية، وإنما المهم ما يجري في هذه المدة أو الحقبة من أحداث، فالمجتمعات قد تمر عليها سنوات متطاولة ما فيها إلا التخلف والاستعباد، ولكن قد تمر عليها بعض الأحداث هامة تفوق في أهميتها تلك السنوات الطويلة، ولكن بالقطع واليقين هذا الأمر يعود إلى كفاءة المجتمع وكفاءة قياداته في التعامل مع الأحدث والمتغيرات من أجل صنع الانعطافات التاريخية.
ومن يتأمل في شخصية مجتمعاتنا، يدرك بأن ثمة قيود تكبلنا وتحول بيننا وبين الاستفادة من الأحداث من أجل صنع التغيير، وهنا نشير إلى عدة أمور:
- القبول بالواقع السلبي:
وهذه حقيقة نراها على مستوى الأفراد ونراها على مستوى المجتمع ككل وهي أننا نعيش حالة من الرضا والقبول لواقعنا السلبي، فالفرد حينما يعيش حالة من الفقر المدقع إلا أنه راضٍ بهذه الحالة، ويقبل أن يقضي حياته بأن يعيش متسولاً كلاً على الآخرين، لا شك أن هذا الفرد لن يسعى من أجل تغيير واقعه.
الفرد قد يعيش حالة سلبية متخلفة إلا أنه قد يكون راضٍ كل الرضا عن أوضاعه، فلا يعيش أي طموحات أو تطلعات، هذا الفرد لو جاء أحدٌ وأراد أن يجره جراً من أجل تغيير واقعه فلن يغير من واقعه شيئاً، وهكذا المجتمع حينما يقبل بواقعه السلبي، وحينما تكون روحه فارغة من الهموم والتطلعات فلن يستثمر ما يمر به من أحداث، نحن نعيش بحالة جيدة وأفضل من كثير من المجتمعات، فلماذا نتحرك؟
من الطبيعي أن المجتمع الذي يتطلع إلى الأهداف هو الذي يوفر المقدمات، فالإنسان لا يتحرك والمجتمع لا يتحرك إلا إذا كان مؤمناً بضرورة الحركة، وحتى نتجاوز هذه الحالة لا بد أن نعرف الواقع الخارجي حتى ندرك حقيقة الواقع السلبي الذي نعيشه، ونحن بحاجة إلى نغرس في أرواحنا الطموحات والتطلعات الكبرى، فكل إنسان لا بد أن يتطلع إلى بناء ذاته وتغيير واقعه إلى الأفضل، وهكذا مجتمعاتنا لا بد أن نغرس فيها التطلع إلى العدالة والكرامة والحرية، لأن هذا التطلع هو الذي يجعل الإنسان ينبذ واقعه السلبي، ومن ثم يتحرك من أجل تجاوزه.
- اتخاذ قرار التغيير
فلا شك أن المجتمع حينما يرفض واقعه السلبي يتخذ قراراً بضرورة التغيير، وخصوصاً نخب المجتمع- النخب الدينية والثقافية- أول من يتوجه إليهم الكلام بضرورة السعي نحو تغيير الذات وبنائها، لكن حينما تكون النخب في سبات، أو حينما تقف موقفاً سلبياً من مساعي التغيير الداخلية فلا شك أن المجتمع لن يستفيد من الظروف والمتغيرات.
ونحن حينما نتخذ قراراً حقيقياً من أجل السعي نحو التغيير فهذا يعني أن تغييراً في طبيعة العمل لا بد أن يحدث، ولا بد أن تستوعب مسيرتنا وحركتنا الأحداث والمتغيرات الجديدة التي يمر بها المجتمع، حيث أن المتغيرات التي يمر بها المجتمع يجب أن تفتح آفاق جديدة لا بد أن تنعكس وعي المجتمع وشخصيته.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.
بسم الله الرحمن الرحيم
والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعلموا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.