الإجازة الصيفية ... فرصة التنمية والبناء

حسين أحمد بزبوز *

 

قلما يجد الفرد منا في هذه الحياة المعقدة والمتشعبة متسعاً من وقته يقضيه كيفما يشاء وفيما يشاء، خصوصاً في هذا العصر الضيق الذي ازدحمت فيه الأشياء وتجمعت فيه الشواغل وتكاثرت فيه الأضداد، وخصوصاً عندما يكون الفرد منا من أرباب الأسر (أي من جيل الآباء) أو من أصحاب الوظائف والأعمال والمسؤوليات  ... فعندها يكون المرء حينها حتماً مطالباً بكم هائل ومضاعف من الوظائف والمسؤوليات والمهام ... التي يضيق معها الوقت وتتعقد وتصعب معها شؤون الحياة.

 وحتى لو كان الفرد منا مجرد طالب مدرسة ... فعندها سيكون لديه من الهم والضيق والشواغل ما يكفيه ويلجمه ويكدر عليه ... طيلة العام ... (الدراسي طبعاً).

 لذا لابد من محطة ... راحة ... وتوقف ... وتأمل ... وفراغ ... واختيار ... وشرود إلى مناطق الهوايات والرغبات والميول والحاجات ... التي ربما قضى على كثيرٍ من فرص تنميتها أو العناية بها هذا الزمان.

 وهنا تكون ... "الإجازة الصيفية" ... شيءً آخر ... في كل بيت تقريباً.

 المعلمون والطلاب اليوم أو غداً في إجازة ... ويكاد لا يخلو بيت تقريباً من أحد هذين الصنفين من الناس.

 والإجازة الصيفية هنا عندما تبدأ ... فهي إنما ... تبدأ ... بفرصة أو فرص للجميع ... أقصد بفرصة أمة ومجتمع ... وليست فرصة قلة من الأفراد المتناثرين هنا أو هناك فحسب ... و ... أتصور أن هذا المعنى بينٌ وواضحٌ للجميع ... ولا يحتاج للتبيان.

 ولقد حلت الإجازة الصيفية على طلابنا الأعزاء فعلاً هذا العام في هذه الأيام ... ورغم تطور العلم والعالم فلازال بعض الطلاب الأعزاء يرى أن هذه الإجازة إنما هي فرصة واسعة فقط ... للنوم والشخير المفرط ... أو ... فقط ... فرصة للهو واللعب والتهريج الواسع ... أو فرصة فقط للسفر والسياحة بلا هدف ... فحسب ... أو فرصة فقط للصياعة المائعة ... لا غير ... الخ، ... أليس كذلك؟؟؟.

 وقليلون منا هم أولئك البشر الجادون الفاعلون الذين يحترمون الوقت بجد فيرونه ... فرصة للتنمية والبناء ... بجد.

 ومع ذلك ... فيمكننا القول أن البرامج والدورات الصيفية تشهد في منطقتنا الحبيبة ومجتمعاتنا في الفترة الراهنة والسنوات المتأخرة ... إقبالاً جيداً ... بل ربما ... ممتازاً ... أو ربما منقطع النظير أيضاً ... إن أحببنا طبعاً المبالغة.

 وعلى الأقل يمكننا القول صدقاً أن أوضاعنا اليوم هي أفضل بكثير من أوضاع عام 1409هـ أو أوضاع عام 1410هـ على التقريب، حين كانت الدورات التعليمية والتثقيفية عموماً والدورات الصيفية خصوصاً - في المنطقة - تترنح بين الوجود والعدم ولا تعدوا كونها أهدافاً شبه مستحيلة لأناسٍ حالمين يصفون أهدافهم في مصاف الأوهام والتخيلات، إذ لم يكن من الممكن حينها أن تنبثق أو تتحقق تلك الدورات فوق أرض الواقع إلا بشق الأنفس ... وبعد هذا فسرعان ما قد يعتري تلك الدورات الذبول وسرعان ما قد تركنها الأيام القليلة لانطلاقتها... في مكب النسيان.

 لكن مع كل ذلك الزخم الكبير من الإقبال حالياً في هذه السنوات المتأخرة على تلك الدورات الصيفية وعلى نشاطات تطوير وبناء الذات، فقد لا يكون كل هذا الإقبال أو معظمه سوى فقاعات صابون، أو رغبات عفوية من الأهالي وأولياء الأمور خالية كثيراً من الاستهداف والتخطيط، بل قد يكون هدفها الحقيقي والرئيس هو فقط التخلص من ضجيج أبنائهم الكثير بعض الوقت القليل، وقد لا يجبرهم على تلك الدورات سوى السعي القسري منهم جميعاً باتجاه الراحة والفرار من الشجار ووجع الرأس ...، أو ربما فقط في أحسن الأحوال تنشأ اهتماماتهم بها من استهدافهم إشغال أوقات فراغ الأبناء بشيء ما جيد ويسير وزهيد ... بغض النظر عن الهدف الجيد والمحتوى المناسب والنتيجة المثمرة والمضمونة، وبعيداً كل البعد عن قيم الاستغلال أو الاستثمار الجيد والفعال والمثمر للوقت والجهد في بناء وتطوير الذات والأبناء.

 فالقضية قد تكون غالباً هنا ... قشور بلا مضمون ... وحراك بلا حركة أو بركة ... وحج بلا حجاج ... وتنمية بلا تنمية - حقيقية ومستدامة - ... وهذا ما نخشاه. 

 وهنا تكمن المصيبة.

 فلا أحد يتساءل:

 ما هو نوع تلك البرامج الموجودة؟ وما هي طبيعة تلك الدورات المقدمة؟ وما مدى انسجام تلك الدورات مع ميول وحاجات الناس؟ وما مدى ملاءمتها لسن الفرد؟ وما أثرها على كفاءة ومستقبل الأبناء والأفراد؟ وما مدى تطورها وتقدمها ... وحاجتها للاستمرار ... وحاجتنا إليها؟.

 فكل هذا لا يهم ... والمهم فقط هو مجرد ... الاشتراك في برنامج ... من المتاح ... وشغل وقت الفراغ ... ببرنامج موجود ... حتى لو كان ذلك البرنامج ... برنامجاً خاطئاً مربكاً ... أو مسمماً للعقول والأذهان والأفهام والقلوب والسلوك ... وتلك هي المصيبة ... بل هي مصيبة المصائب ... وطامة الطوام.

 فالبرنامج الجيد والبرنامج الرديء ... والبرنامج الضار والبرنامج النافع ... والبرنامج الآمن والبرنامج غير الآمن ... كلها تحظى بنفس الشعبية ونفس الفرصة ونفس الإقبال!!!.

 لذا ... فإنني أدعو الجميع عبر هذه النافذة الصغيرة والمقالة الموجزة ... لإعادة الفرز والنقد والتقييم ... وتجديد التأمل والتفكير في أهمية الفرص المتاحة ونوعية البرامج المقدمة - التي يجب أن تستهدف الأفراد والأبناء والتي يجب أن يشغل بها المجتمع - ... وفي مدى جودة تلك البرامج ... وفي مدى فاعلية وأداء تلك الدورات.

 فمن خلال هذه الفرص وتلك الإجازات وعبر هذه الفسح ومن خلال تلك الدورات: كم من فنان يمكن أن ننتج؟ وكم من شاعر يمكن أن نطور؟ وكم من متحدث بلغة أجنبية يمكن أن ندرب؟ وكم من مشكلة تعليمية متراكمة لدى التلاميذ في اللغة العربية أو في الرياضيات أو في الكيمياء أو الفيزياء ... الخ، يمكن أن نحل ونفكك؟ وكم من قدرة على النحت ... أو الطبخ ... أو الخياطة ... أو الخطابة والإلقاء ... أو إدارة المشاريع واللقاءات وتخطيطها ... يمكن أن نخلق ونطور؟.

 كفاءات ومهارات وقدرات كثيرة ومتنوعة يمكن تفجيرها وتوليدها أو تطويرها وتحسينها وتفعيلها - عبر هذه الإجازات - لتنهض بها الأمة وينمو بها المجتمع ... وهذا كله يعتمد على حجم ونوع وكم وفاعلية وكفاءة الوعي والفكر والفعل والانشغال ... الذي نشغل به ونحتويه.

 وهنا ... فإن العملية النهضوية إنما هي عملية تطوير تراكمي مستمر وبناء متواصل ... فيجب أن نراه ببصيرة وأن يتم التخطيط له بعناية فائقة وانتباه متواصل ... لا بغباء وتبلد واسترخاء.

 هنا ...

 قد نختار الأفضل ...

 وقد نختار الأسوء ...

 كما يمكن أن نختار أن نهدم ...

 ويمكن أن نختار أن نبني ...

 ونتوقف ...

 أو نستمر ...

 وهكذا ...

 حتى نصل في النهاية إلى الهدف المرجو ... أو لا نصل ... أو نبقى في القيعان ... بلا أهداف مرجوة.

 لذا علينا أن لا نخطيء وأن لا نقصر وأن لا نتوانى وأن لا نتوقف بل نستمر ... كي لا يضعف أو يعوج أو ينهار أو يضيع الجهد والبناء.

 ولذا أتمنى في نهاية هذا المطاف ... أن نحسن الإختيار وأن نحث الخطى وأن لا نضيع هذه الفرصة الكبرى والعظيمة ... والجهود الواسعة ... والوقت المتسع ... هباء ... بسبب التقصير أو التواني والإهمال.