مسئولية الراعي وحق الرعية
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلي على محمد وآله إذا ذكر الأبرار، وصلِ على محمد وآله ما اختلف الليل والنهار، صلاة لا ينقطع مددها، ولا يحصى عددها، صلاة تشحن الهواء، وتملاء الأرض والسماء، صلى الله عليه حتى يرضى وصلى الله عليه وآله بعد الرضا، صلاة لا حد لها ولا منتهى، يا أرحم الراحمين .
قال تعالى :﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾[1]، إن هذا الأمر الإلهي يجب تنفيذه بحذافيره على أرض الواقع، وليس فقط طرحه وتناقله بين الناس دون تطبيق .
إن العدل ضد الجور وهو المساواة في المكافأة والعطاء، والجور يعتبر نقيض العدل [2]، لهذا الأمر على الوالي أن يحكم بين الناس ويفصل وينظر في دعاويهم بالعدل والإحسان، وهو المتصرف في أمورهم بأداء الواجبات من كثرة الخير والإحسان الوافر .
والإحسان هو الابتعاد عن القبيح والتنزه عن فعل المساوئ والابتعاد عن فعل المنكر[3] .
من وصية الإمام علي لمالك الأشتر نأخذ الدروس والعبر والمواعظ، وذلك لما وصى الإمام مالك الأشتر حين أرسله والياً على مصر ليحكم بينه وبين الناس بالعدل والإحسان لأن بهما تستقيم وتستقر الحياة، قال له : " اعلم يا مالك، إني وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك، من عدل وجور، وإن الناس ينظرون من أمورك، في مثل ما كنت تنظر من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين، بما يجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك، ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك، وشح بنفسك عمّا لاّ يحل لك، فإن الشح بالنفس الانصاف منها فيما أحبت أو كرهت .
واشعر قلبك الرحمة بالرعية، والمحبة لهم، وألطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان : إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرض منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتي على أيديهم في العمد والخطأ، فاعطهم من عفوك وصفحك، مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فانك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك "[4]
إن هذه الوصية نستخلص منها عدة أمور وهي كما يلي :
فالمطلوب من التعامل هو الانطلاق من الذات وهو البذرة الأساسية يا مالك لزراعة الحب والرحمة واللطف، وذلك ليتسع ويشمل جميع مكونات النسيج الاجتماعي باختلاف أطيافهم وتعددهم من خلال التعامل معهم بالعدل والعقلانية، إضافة إلى ذلك تصحيح نظرة الناس إلى بعضهم البعض، بتأكيد وحدة الأصل الإنساني من خلال قول الإمام علي في وصيته : " فإنهم صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق " ويشير أيضاً في وصيته بأن الحب والتلطف والكلام الجميل لوحده لا يكفي ؟ لماذا ؟ .
لأنه إذا لم يُعزز بإعطاء الرعية حقوقها وعدم الإضرار بهم في جميع مجالات الحياة وهضم حقوقهم، كما قال الإمام : "ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً، تغتنم أكلهم"، وبعد ذلك يؤسس الإمام لخلق أرضية خصبة وجاهزة للتسامح والتعايش من خلال بوابة العفو والصفح، لأن بعض الناس من يرتكب بعض الأخطاء، وهي من طبيعة الإنسان بسبب الغفلة، ولكن أيها الوالي أعطهم من عفوك وصفحك ولا تندم على من عفوت عنه، إذ العفو أحسن من عاقبة الانتقام، ولا تفرح بسبب ما عاقبة به أحد من رعيتك لأن العقوبة عندما تقع على الإنسان البسيط الضعيف تكون شر عاقبة مهما كانت حقاً، وتحاسب عليها في دار الدنيا قبل الآخرة، وطبعاً للعفو والصفح حدود لأنك تحب أن يعطف ويعفو عنك من ولاك على أمر الرعية، وكذلك تحب العفو والصفح من الله سبحانه وتعالى، فعليك إذاً أن تعطي الرعية بما تحب أن يعطى إليك، كما قال الإمام : "فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه" .
وأيضاً يتطرق الإمام علي بن أبي طالب في خطبة أخرى بما يرتبط بمقومات التعايش وبالتحديد إنصاف الناس من خلال إعطائهم حقوقهم التي كفلتها لهم الشريعة الإسلامية في جميع الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والثقافية، وكل ما يتفرع منها .
والصبر أيضاً على حوائجهم وبدون تمييز بين أحد منهم لا من خلال الديانة أو العرق أو اللون أو الجنس، قال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[5]، قال الإمام : " انصفوا الناس من أنفسكم، واصبروا لحوائجهم، فإنكم خزان الرعية ووكلاء الأمة ... ولا تضربن أحداً سوطاً لمكان درهم وتمس مال أحد من الناس مصلّ ولا معاهد "[6]، والمقصود بالمعاهد هنا هو غير المسلم من أهل الكتاب[7] ، وكذلك يقول الإمام في دور العدل بأن لا يعتدي شخص على شخص آخر مهما كان مكانه ومركزه في المجتمع، من خلال الاختلاف في الآراء ووجهات النظر، ويلجأ جميع الأطراف إلى الحوار الهادف والناجح، في جميع القضايا التي تمس بالدرجة الأولى حاجات الناس الضرورية والملحة، ولم يكتف بمجرد إرساء أسس التعايش، بل دعى إلى التعامل والتعاطي على أساس الحب الصادق الذي يستند إلى العدالة، ويعتبر التمييز عدواً للتعايش، ويكون التعايش ضعيفاً هشاً، إذا وجد مع الفقر والخوف من المستقبل وإهدار الكرامة الإنسانية .
فالإمام يوصي مالك بالضمان للمجتمع كله في قوله : " ... الله الله – يا مالك – في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم " أي بمعنى لا سبيل لهم لإدارة أمورهم من المساكين وهم الذين ألزمهم فقرهم من الحركة، وأصحاب الحاجة وشديدي الفقر، وذوي الأمراض والعاهات المزمنة التي تمنع صاحبها
عن العمل، فيوجد في هذه الطبقات المتعرض للعطاء بلا سؤال، حيث قال : " واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم "، أي بمعنى أجعل لهم قسماً ونصيباً من بيت المال، وأيضاً قسماً ونصيباً وافراً من غلاة البلاد وتوزيعها على كل القرى والأرياف بدون تمييز في حصة التوزيع، كما قال : " فإن للأقصى منهم مثل الأدنى " ويؤكد عليه السلام بعدم طغيان الملك والنعمة بقوله : " فلا يشغلنك عنهم بطر " فإنه بهذا الطغيان لا يقبل الله منك عذر، ولا حتى من عامة الناس .
وفي الاقتصاد والتنمية يوصي عليه السلام بأن يوسع عليهم الأرزاق بإعطائهم حاجاتهم في رفاه من الوظائف المرموقة وغيرها، لأن بذلك استص
لاح لأنفسهم لكي لا يفكروا إلا في أعمالهم فلا يظلمون الناس بأخذ أموالهم ولا المال العام، ويكون أيضاً حجة عليهم إن خالفوا أمرك وخانوا أمانتك، كما قال : "... وانما يؤتى خراب الأرض من أعواز أهلها ... " .
تور : "فليس من أساس بوثيقة حقوق الإنسان التي نشرتها هيئة الأمم المتحدة إلا وتجد له مثيلاً في دستور ابن أبي طالب ثم تجد في دستوره ما يعلو ويزيد .."، وأيضاً علق الأمين العام للأمم المتحدة سابقاً كوفي عنان قائلاً : (قول علي ابن أبي طالب : يا مالك إن الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق ..).
هذه العبارة يجب أن تعلق على كل المنظمات وهي عبارة يجب أن تنشدها البشرية، وتم التصويت عليه في اللجنة القانونية في الأمم المتحدة من قبل الدول بأنه أحد مصادر التشريع الدولي .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .