الإمام الهادي ونظرية المرايا المستوية
لو قمنا باختيار عينة عشوائية من عالمنا الإسلامي وطلبنا من أفراد العينة أن يكتب كل واحد منهم نصف صفحة من معلوماته الحاضرة في ذهنه عن أحد شخصيتين: أويس القرني والحجاج بن يوسف الثقفي، فعلى من سيقع الاختيار؟
أجزم بأن أغلب المجموعة بل أكاد أقول كلها ستختار الشخصية الثانية وذلك لأن ما تعرفه عن الحجاج أكثر بكثير مما تعرفه عن أويس، وهذا يدل على خلل كبير في بنيتنا الثقافية التي لا تعطي لعظمائنا الحقيقيين المساحة اللائقة بهم، فرجل مثل الحجاج الثقفي الذي نقل ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية بعض ما قيل فيه حيث قال:
قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئناهم بالحجاج لغلبناهم.
وقال أبو بكر ابن عياش: عن عاصم بن النجود ما بقيت لله حرمة إلا وقد ارتكبها الحجاج.
أقول: مثل الحجاج يحظى بمساحة واسعة من التغطية حتى في بعض الكتب المدرسية التي تشيد بنصوص خطبه الوعيدية التهديدية، بينما لا يحصل أويس القرني الذي أثنى عليه رسول الله ( ص) أيما ثناء وأنه يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر على نصف تلك المساحة.
أسوق هذه المقدمة لأن شخصية عظيمة أخرى مثل الإمام علي الهادي الذي هو سليل بيت النبوة ومعدن الرسالة لا تكاد تعرف الأغلبية من المسلمين شيئا من سيرته العطرة وكلماته الوضاءة وأجوبته العميقة على مختلف المسائل العويصة التي سئل عنها، فغاية ما يمكن أن تعرف عنه أنه أحد أئمة الشيعة وأن ضريحه في سامراء تعرض للتفجير الآثم مرتين، هل هذه معرفة!!!
إن عدم أو قلة معرفتنا بمثل هذه الشخصية العظيمة لا ينقص منها شيئا، كما أن معرفتنا بها لا تزيدها شيئا، إذ نحن المحتاجون لعلومها ومعارفها وحكمتها. أليست الحكمة ضالة المؤمن، فلماذا نترك البحث عنها في مظانها الصحيحة؟! أليس هذا نقصان حظ؟!
ماذا لو تعلمنا من قوله : (من رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه). ألا تدفعنا هذه الحكمة إلى التطوير المستمر للذات وعدم الرضا بما تبلغه، فالرضا عن النفس وأنه ليس بالإمكان أفضل مما كان يدعو إلى الدعة والسكون، بل إلى الغرور وعدم محاسبة النفس.
ماذا لو تعلمنا معنى جديدا للغنى والفقر يتمثل في قوله : الغنى قلة تمنيك والرضا بما يكفيك، والفقر شره النفس وشدة القنوط.
هذه ليست دعوة للقناعة بمعناها السلبي، بل هي دعوة للعمل الجاد المحفوف بالرضا والأمل، ونبذ للتمنيات الفارغة المغموسة بالوهم واليأس.
أما عن نظرية المرايا المستوية، فهي ليست في مقابل المرايا المقعرة أو المرايا المحدبة للكاتب الجاد الدكتور عبد العزيز حمودة الذي حاول أن يؤسس لنظرية نقدية عربية، ورحل عن الدنيا في هدوء من دون ضجيج إعلامي رغم إسهاماته القيمة.
مرايانا المستوية لا علاقة لها بذلك، مرايانا المستوية يكشفها جواب الإمام الهادي للمتوكل العباسي حين طلب نصيحته، فقال له:
ﻻ تطلب الصفا ممن كدّرت عليه، ولا النصح ممّن صرفت سوء ظنك إليه فإنما قلب غيرك لك كقلبك له.
هذا الجواب يجب أن يعلقه كل حاكم ومسؤول في لوحة أمامه، فالقلوب كما يشير الإمام عليه السلام مرايا، لكنها ليست المرايا المحدبة التي تصغر الصورة ولا المقعرة التي تكبر الصورة، بل هي مرايا مستوية ترينا الأشياء بأحجامها.
فالحاكم والمسؤول إذا أراد أن يعرف مدى حب الآخرين له وتعلقهم به عليه أن يكتشف ذلك من نفسه، فبقدر ما يبادلهم من حب سيبادلونه، وبقدر ما يبذل لهم من صفاء ونصح سيحصل في المقابل على مثله، والعكس صحيح تماما، فالقاعدة الذهبية هنا: فإنما قلب غيرك لك كقلبك له.
بهذه القاعدة البسيطة وبدون حاجة إلى نسبة 99% يستطيع كل حاكم أو مسؤول أن يحدد مدى محبوبيته وجماهيريته.
هذه نماذج بسيطة وغيض من فيض من كلمات هذا الإمام والتي يمكن أن تشكل لنا علامات ترشدنا إلى طريق النجاة والفلاح إذا رعيناها حق رعايتها.