طقوس النهاية
في يوم جديد لا شيء فيه سوى أنه امتداد لحلقة أيام متوالية تحمل نفس الروتين وان تغيرت وجوه المرضى وتشخيصاتهم ، غير أن التكرار يفقدنا جمال الإحساس بالوقت .. وجدت نفسي أدخل غرفتها ، لم تكن الوحيدة بها، فخمس سيدات أخريات كن معها ، حيث ترقد قرب الزاوية، بدت يقظة حين دخلت إليها ، كان الخارج يضج بروتين الأطباء ومرورهم وتقليب بعض الملفات المكومة بين أيديهم وعرض صور الأشعة ومناقشة بعض الحالات ، إنه الجدل اليومي في محاولة حثيثة لاستمرار الحياة ..
ازدحام شديد على حلقة التمريض , بعض الوجوه ربما لا يمكن أن تلتقي بها سوى هنا في قسم الباطنية .. المكان الأكثر جدلا في المستشفى .. وفي الداخل تبدو الأشياء كالعادة بأوجاع مختلفة , صوت الآهات الصادرة من بعض المرضى يتلوون من الألم ، البعض لم يمضي ليله براحة كما يبدو ، والممرضات تخترق كل الفتحات بين الممرات لتدور كخلية نحل لا تعرف الكلل ، رائحة الدواء تتداخل مع رنين الأجهزة الصارخة في وجه الموت، لا أحب هذا القسم عادة فهو مليء بالثقل على نفسي .
شدني عالم النزاع على الموت والحياة ، كأني أرهف السمع لأصل لتلك التنهدات المضطربة ، أصغي لها تطارد الحياة ..اخترقت تلك السحب البيضاء فتقافزت بعض الوجوه إلى رؤيتي كأنها تسجل حضور تقاوم به لحظات الغياب .
حين دخلت غرفتها كان الضجيج قد هدأ بعد خروج جمع من الأطباء .. بدا الكل مسترخيا أو معاودا لنومه الطويل أو متصالحا مع وجعه لحين يكف عنه أو يهدأ ، فبدوا كمن ركنوا عقولهم جانبا وراحوا يحلقون في فتنة أللاوعي .. وحده السرير الرابع من كان يسبح في فلك آخر، كأنما يسبح في ملكوت الكون ، مكانه عند النافذة تماما ، اقتربت منه ، كانت ترقد به سيدة مسنة ، عجوز تربو أعوامها على الثمانون عاما أو أكثر، يوقظها ضجيج الألم من فراشها فتبدو كتكومات لأغطية وملاءات السرير، تشي ملامحها في هدوء شديد مختلف عن رفيقاتها ، كان وجهها مليء بالتجاعيد وإن بدا مشرقا على غير ما يمكنه أن يكون ، ربما لا تستوعب ما يجري حولها لكن بها شيء شدني نحوها , رفعت لها كفي ملوحة بالتحية ، كان كل شيء بها (مكرمش) حتى ابتسامتها ، أشارت لي لأقترب ففعلت ووجدتني أتأمل تفاصيل وجهها تبدو في شبه وداعة طفولية غير أن الخطوط الزمنية تملؤها ، ابتسمت لي فتعلقت نظراتي بعينيها ولا يبدو أنها ستفهم كلامي لها فقد كانت هي الأخرى مكومة بهدوء وسط سريرها معلقة شفتيها بين الموت والحياة في ذوبان متناهي .. تبتسم كالأطفال ابتسامة لا تحتفظ بتفاصيل الأسنان فقد أسقطتها السنون ، أشارت لي بالاقتراب رافعة لي يدها بنظرات صامتة تترقب استعدادي لمنحها يدي أنا الأخرى، لمستها بحذر خشية أن اكسرها , بدت كعود نحيل من الخشب اليابس، محفور بنقوش التجاعيد المتدرجة ، خطت السنون عليها معالمها ، شعرت برغبة لدعكها ولم أكن قد جربت لمس التجاعيد من قبل لإنسان في مثل عمرها .. كانت ضئيلة للغاية.. بتردد قربت منها أصابعي ربت عليها وحاولت أن أحتويها بدفء وبحذر خشية أن أكسرها ، فقد كانت ضئيلة وهشة كعود قش يابس .. أردت أن أهبها إحساس بالطمأنينة ..
- وتساءلت :
ترى ، كم الفارق بين عمرينا .. يبدو كبير للغاية ، أردت أن أقول لها لا تشعري بالوحدة ، لا أدري هل وصلها هذا الإحساس الذي أردته أم لا .. لكني احسبه حدث فقد كانت نظراتها معلقة بي ونصف ابتسامة مدركة تبادلني إياها . لا أعرف شكل الكبر تماماً ، لكني مارسته في عمق نظراتها .. لم أتبادل وإياها الكلمات فقد كان الصمت بيننا غائرا يعطينا مساحة أكبر لتبادل النظرات المعبرة ، التقت عيوننا للحظات ونصف ابتسامة مرسومة لا تزال على وجهها تخبرني أن إشاراتي وصلتها .. رأيت في عينيها كل صور الراحلين عني تجوب بداخل نظراتها للعالم من حولها .. كان الجميع يسكنها بهدوء متناهي .. بأرواح حرة تطفو لتعانق السماء .. ولأن هناك مسافة بين الحقيقي وتخيلاتي فقد رحت أتأول لون وجهها .. كان أبيض مصفر بتحولات المرض ، وراحت هي تتطلع لوجهي بنفس التعابير وكأنها لا تعي ما يعكسه وضع وجودها هنا ، لدقائق بقيت يدي تمسك بيدها .. كنت قريبة جدا من تلك الخطوط الزمنية المبعثرة على وجهها .. فقد لامستها في رخاوة يديها .. بقيت معها لدقائق على هذا الوضع، أظن أنها تلقت إشاراتي فقد كانت نظراتها تشي بهذا , شعرت بأنفاسها وهي تتقطع , بينما أصابعها تدقق على نبض قلبي .. لم أراها , فقط حاولت أن لا أقلق هدوئها وهي تتأملني , ظلت لدقائق قليلة هي كل ما تحتاجه تتأمل تفاصيلي الجديدة عليها , إلى أن نامت في عيني بوداعة طفل صغير ..
ومن ثم ربت على يدها وخرجت .. تركتها وأنا ما زلت أتطهر من أفكاري و أحمل بداخلي مشاعر شتى بها تباين غريب وشعور لم أألفه من قبل ينتزعني مما حولي ؛ كأنه خليط من الرضا والألم والاطمئنان والخوف تجلله سحابات القلق ، بقيت خارج ذاتي كل الوقت وكانت الكثير من التساؤلات تتفاوض مع نفسي لتصل لنتيجة ، إحساس غريب داهمني وأنا أفعل ، كنت أتساءل .. لو قدر لنا ممارسة الحياة حتى نبلغ أرذل العمر فمن يمكنه أن يحتملنا في كبرنا حين يختفي الأهل والأولاد ، وتحل سحب الغيمات فوق ما تبقى من ظلال الأيام لتمطرنا ونحن نستلقي هناك على أسرة بيضاء تكتسي وجوهنا بصفرة الرحيل ..
أينتهك الموت وحدتنا دونما فرصة لوداع الأحباب .. هكذا تصلني أفكاري حين تطوف بعالمهم .. أدوية وأجهزة وأطباء وممرضات ونقاشات شتى وأنفس تتردد تراوح الرحيل وتغيب حتى تعود.
لا أعرف هل ستمر الأيام وأفكر بأحدهم يشاركني طقوس الانتهاء من هذا العالم أم لا .. مرعبة تلك الفكرة حين نفكر بها .. أن نموت وحدنا على سرير بارد ... لم أشأ أن أوافق مخاوفي ، فقط أردت أن أمضي لباقي غرف المرضى لنسيان الأمر ، علّي أفلح فيه ....