القيام بالقسط ضرورة لاستقرار الحياة (1)

شبكة مزن الثقافية
سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة الشيخ نمر النمر
سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة الشيخ نمر النمر

إن بسط العدل وإقامة القسط يعد من الأهداف الكبرى التي من أجلها أرسل الله الرسالات وبعث الأنبياء، وهذه حقيقة واضحة وجلية لكل من يتدبر في بصائر القرآن وحكم التشريع.

  • مفهوم القسط:

القسط يعني فيما يعني أن يأخذ كل إنسان حقه ونصيبه بحكم عادل بلا زيادة أو نقيصة، وهذا يتضح من خلال المعنى اللغوي للقسط والذي يعني النصيب والحصة.

وهنا ينبغي أن نلاحظ أن العدل يقابل الجور، بينما القسط يقابل الظلم، وهذا يعني أن حقيقة القسط منع الظلم، فعدم الجور لا يعني بالضرورة أن الإنسان أصبح من المقسطين إلا إذا كان سداً أمام أمواج الظلم وشوكة في عيون الظالمين، ويمكننا أن نقول: أن القسط هو الدرجة العليا في سلم العدالة، وإقامة القسط تعني تجفيف منابع الظلم وطمس أسبابه بحيث لا يبقى في واقع الحياة قطرة من الظلم.

ويمكن أن نوضح مفهوم القسط من خلال المثال التالي: لو أن أباً كان يدع أبنائه يتناوشون ويظلم أحدهم الآخر، وهو ينظر إليهم متفرجاً، هنا الأب لم يجر على أحد من أبنائه، إلا أن وقوفه موقف المتفرج أمام الاعتداءات يعدُ ظلماً ينافي القسط.

وهكذا قد لا يجور الحاكم على طائفة من شعبه ورعيته، إلا أنه قد يفتح أبواب الظلم بصمته وسكوته، فيتيح المجال لبعض الطوائف المتطرفة لأن تعتدي على الطوائف الأخرى، وهنا وإن لم يمارس الحاكم الجور والاعتداء، إلا أنه يعدُ ظالماً لأنه لم يجفف منابع الظلم ولم يشيد قوائم القسط بين الرعية.

ولهذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «العزيز عندي ذليل حتى آخذ الحق منه، والذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له» فحكم أمير المؤمنين كان تجسيداً حقيقياً لقيمة العدالة، إلا أن حكمه لم يقتصر على ذلك، وإنما شيّد بنيان القسط بحكومته الإلهية.

  • موقعية قيمة القسط التشريعية:

إن الله سبحانه خلق الكون على أساس العدالة، قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[2] إلا أن محورية قيمة العدالة لا تنحصر على صعيد عالم التكوين، وإنما هي تتجلى أيضاً على صعيد عالم التشريع، فقيمة العدالة هي الصبغة العامة التي تصطبغ بها كل الأحكام الإلهية والتشريعات السماوية، فما من حكم إلهي ولا تشريع سماوي إلا والعدالة صبغته المثلى، أما التشكيك في عدالة بعض الأحكام والتشريعات، فمرجعه جهل الإنسان بآفاق العدالة وبكثير من الحقائق الواقعية.

يقول تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[3] إن الله سبحانه وبعد خلق الكون على أساس العدالة نهى عباده عن ظلم بعضهم البعض، من خلال أحكامه وتشريعاته التي تتكفل بتحقيق القسط، والله سبحانه وإن أعطى الإنسان الحرية في إتباع هذه الأحكام والتشريعات أو تجاوزها، إلى أنه سيحاسبه على مخالفتها في الآخرة على أساس القسط.

إن الله سبحانه خلق الكون على أساس العدالة ولا يزال ولن يزال قائماً بالقسط، ولذلك الله سبحانه أمر بالقسط كما أمر بالعدالة، قال تعالى: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ[4]وحتى يتمكن العباد من إقامة القسط ومنع الظلم وضع الله سبحانه الميزان من أجل إقامة القسط، ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ[5] والميزان يتمثل في القرآن الكريم والكتب الإلهية وما فيها من أحكام وتشريعات، كما يتمثل في الأنبياء والرسل وكل ما جعله الله مقياساً للحكم بين الناس. ﴿أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ* وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ.[6] فكل الإجراءات والمعاملات، والسلوكيات والمواقف، والرؤى والأفكار يجب ألا تخرج عن إطار القسط.

ويقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ

إن تشييد أركان العدالة وإقامة القسط في واقع الحياة ليس هدفاً هامشياً عابراً، فهذه الآية القرآنية تبين محورية إقامة القسط في التشريع الإسلامي، ويمكننا أن نستوحي من هذه الآية القرآنية البصائر التالية:

ألف: إن الله سبحانه أرسل رسله وبعث أنبيائه بالبينات من أجل منع الظلم وإقامة القسط، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ فإقامة القسط ومنع الظلم هي مسؤولية القيادات الرسالية، التي زودها الله بالبينات الواضحة لئلا يختلف الناس في المنهج الإلهي وفي تطبيقه على وقائع الحياة، كما هو حال الدساتير البشرية التي يتلاعب بها أصحاب الأهواء والأغراض، وبكلمة؛ إن النص الذي يتكفل بتحقيق القسط بين الناس يجب أن يكون واضحاً بيناً لا اختلاف فيه.

باء: إن إقامة القسط لا يكون إلا من خلال منهجٍ يتكفل بتحقيق هذه القيمة الكبرى في الواقع الخارجي، وهذا المنهج لا بد يكون منهجاً متكاملاً شاملاً لكل مفردة من مفردات الحياة ﴿وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ.

جيم: ولأن التشريعات المجردة لا تكفي لتحقيق القسط بين الناس أنزل الله سبحانه الميزان، وهو ما يعرض عليه في حال طرأت أي تجاوزات، وبعبارة أخرى؛ إن الميزان هو القضاء، الذي بدونه لا يمكن أن يقام القسط، فهو يمثل صمام الأمان الذي يمنع الظلم ويضمن تحقيق القسط بين الناس، لأن القضاء هو الذي يعطي الحكم الفصل ويحدد صاحب الحق حينما يكون هناك نزاع أو خلاف بين الناس: ﴿وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ

دال: حتى يقام القسط لا بد من وجود قوة رادعة من خلالها يعاد الحق إلى أهله، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ولهذا كانت هناك الحدود الشرعية التي تصل إلى درجة القتل من أجل إقامة القسط ومنع الظلم.

هاء: لا يمكن إقامة القسط بدون فئة مخلصة تتحمل المسؤولية الثقيلة في إقامته في واقع الحياة، وهذه الفئة هم المؤمنون المخلصون الذين ينصرون المنهج الإلهي (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).[7]

  • آفاق القسط

إن ضرورة إقامة القسط ليست خاصة بمجال دون آخر، وإنما مسؤولية الإنسان أن يسعى لإقامة القسط في آفاق الحياة المتنوعة بحسب قدراته وإمكانياته.

  • القسط في المعاملات والعلاقات الاجتماعية

من يراجع القرآن الكريم يجد أنه في مواضع متعددة يؤكد على محورية القسط في رسالات الأنبياء، حيث يحكي على لسان نبي الله شعيب : ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ حيث تشير الآية إلى ضرورة إقامة القسط في المعاملات، ثم تقول الآية الكريمة ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ[8] وهكذا تتجلى قيمة القسط في تعامل الإنسان مع الناس مع اختلاف مراتبهم ومقاماتهم، فالناس في مراتبهم ومقاماتهم ليسوا سواء، وإنما هناك تفاضل بينهم بالتقوى والعلم والجهاد، إلا أن الدنيا قد تضع أهل الفضل عن مراتبهم وترفع آخرين لا يستحقون الرفعة، فهنا كيف ينبغي أن نتعامل مع أهل الفضل ومع غيرهم من الناس؟

إن إقامة القسط تعني فيما تعني منع الظلم وعدم القبول به وعدم الوقوف منه موقف المتفرج، ولهذا لو كان الواقع الاجتماعي قائم على بخس أهل الفضل مقاماتهم وامتيازاتهم، كان مقتضى إقامة القسط عدم مسايرة الواقع والرضا به، وإنما لا بد أن يقسط في التعامل مع الآخرين، وأن يرفض حالة البخس وما فيها من ظلم.

ويقول تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [9] والقسطاس تعبير عن المبالغة بالقسط وهو الميزان المستقيم.

ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا[10] فمسؤولية الإنسان المؤمن إقامة القسط حتى وإن كانت هذه الشهادة على نفسه أو على أقرب المقربين، وهكذا إقامة القسط تقتضي الإدلاء بالشهادة سواء كانت على غني أم على فقير، على عالم أم على جاهل، فالكل سواء أمام الحق.

وهكذا ينبغي إقامة القسط في العلاقات الداخلية مع الآخر الذي نختلف معه في الوسط الداخلي، قال تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ بل إن الآية لا تقف عند حد العدالة، وإنما تؤكد على ضرورة إقامة القسط، لأنه حتى مع تطبيق العدالة وإعطاء كل ذي حق حقه، قد ترجع بعض الأطراف للممارسة الاعتداء على الطرف الآخر، ولهذا لا بد من القسط الذي يمنع الظلم وسلب الحقوق مرة أخرى، لهذا تؤكد الآية:﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[11].

  • إقامة القسط مع الآخر المختلف

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ[12] وهكذا ينبغي على المؤمنين الشهادة بالقسط وتطبيق العدالة بدون محاباة أو تحيز حتى مع ألد الأعداء، فالعداوة مع طرف من الأطراف ليست مبرر لمجافاة القسط والعدالة، بل حتى لو كان هناك إنسان كافر أو مشرك لا يجوز للمؤمن أن يتركه يظلم وتسلب حقوقه فضلاً عن أن يعتدي عليه بنفسه، وإنما لا بد من إقامة القسط.

ويقول تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[13] والذي يتحلى بالقسط يكون من أحباء الله، ومن كان من أحباء الله كان من المقربين، وحضي بالجنة والرضوان الإلهي.

بل حتى لو أن فئتين من الكفار اقتتلتا فيما بينهما واحتكمتا إلى حكم الإسلام، هنا لا يكتفى بالعدالة، وإنما لا بد من إقامة القسط ومنع الظلم والاعتداء فيما بينهم. قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا[14]

ويقول تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ فهؤلاء مع أنهم كفار معاندين طبع على قلوبهم، وقد ذكرت الآية بأن من صفاتهم ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ولكن مع ذلك ﴿فَإِن جَاؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وذلك حسب ما تقتضيه المصلحة الدينية،(وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).[15]

  • إقامة القسط مسؤولية كبرى:

إن إقامة القسط ومنع الظلم هي مسؤولية دينية على عاتق كل إنسان مهما كان موقعه، وتتعمق هذه المسؤولية وتزداد رقعتها اتساعاً إذا كان الإنسان يتبوأ موقعاً مسؤولاً كالحكام والعلماء والوجهاء فضلاً عما دون ذلك من المواقع، فكل إنسان يمتلك القدرة على منع الظلم أو الشهادة على الظالم ثم لم يفعل فليس من المقسطين.

ولهذا توالت آيات الذكر الحكيم لتوجه المؤمنين وتحملهم مسؤوليتهم الرسالية في إقامة القسط. وهنا لا بد من استعراض بعض هذه الآيات القرآنية، حتى نستوحي منها البصائر والرؤى التي ننير بها واقعنا.

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ [16] وهذه الآية الكريمة عبرت بلفظة (قوامين) وهي صيغة مبالغة تدل على كثرة العمل والقيام بأمر الله وعدم القعود والانزواء عن تحمل المسؤوليات الرسالية، ثم إن القيام يجب أن يكون خالصاً لله، لا من أجل مصلحة الحزب أو الجماعة، أو الوطن أو الإقليم، أو القوم أو العشيرة، وما شابه من الاعتبارات الزائفة. فحركة الإنسان يجب أن تكون خالصة من كل هذه الاعتبارات الزائفة، وإلا فقدت صبغتها الإلهية، وخرجت عن عنوان الآية القرآنية (القيام لله) ودخلت في عناوين زائفة من قبيل (القيام للتراب) أو (القيام للقومية) أو (القيام للحزب)، ومهما كانت الجهود المبذولة كبيرة من حيث الحجم إلا أنها تصبح جوفاء ما لم تكن تحت عنوان (القيام لله).

إن القيام لله هو الشجرة التي يثمر منها كل خير، فإذا كان الإنسان قائماً لله كان شاهداً بالقسط، والشهادة بالقسط ضرورة لاستقرار الحياة، لأنه من خلال الشهادة بالقسط تقتلع جذور الظلم، فلا يظلم أحدٌ أحداً، فحينما يكون هناك ظالم ومظلوم فإن المسؤولية الرسالية تحتم على الإنسان أن يصدح بكلمة الحق ويشهد على الظالم لا أن يتستر عليه أو يتهرب من مسؤولية الصدح بالحق والحقيقة، وإلا فإن الإنسان وإن لم يكن جائراً على المظلوم إلا أنه لم يكن من المقسطين. وهذه الآية القرآنية تلفت إلى نكتة دقيقة جداً، وهي أن حركة الإنسان وإن كانت من أجل الله إلا أن هذا لا يعني أنه يسوغ للإنسان أن يجانب القسط من أجل الوصول إلى أهدافه، وإنما قيام الإنسان لله يجب أن يتشح بوشاح العدالة والقسط.

ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ[17] إن الآية القرآنية المتقدمة وجهت أمرين رساليين، وهما القيام لله والشهادة بالقسط، بينما هذه الآية القرآنية توجه المؤمنين إلى القيام بالقسط والشهادة لله، حيث يجب أن يكون الإنسان قوّاماً بالقسط فتكون حركته وسعيه من أجل إقامة القسط، كما أن الإنسان حينما يشهد يجب أن تكون شهادته خالصة لله، صافية من كل المصالح الحزبية والفئوية، فالإنسان يرجو بشهادته رضا الله سبحانه لا رضا العشيرة أو الحزب والجماعة .

إن المجتمع الإيماني من خلال تطبيقه لقيمة (القيام بالقسط) ومن خلال تجسيده لقيمة (الشهادة لله) يتمكن من تبديد الظلم وكسر شوكة الظالمين وتفتيت قوتهم، وحينها يبسط العدل ويقام القسط، ويصل المجتمع إلى أعلى درجات الإنسانية، وهكذا كان القيام بالقسط والشهادة لله مسؤولية كبرى ينبغي على المؤمنين أن يحملوها على عواتقهم، وإلا ساد الظالمون وقويت شوكة الظلم.

نعم، حينما يتحمل الإنسان مسؤولية إقامة القسط فإن أصحاب المصالح والأغراض الشخصية سوف يقفون في طريقه، حتى لو استدعى الأمر أن يصفوه جسدياً، فأصحاب المصلح من الحكام الذي يعملون في الناس ظلماً وجوراً لن يقبلوا كلمة الحق حينما يصدح بها المؤمنون، ولهذا سوف تطاردهم أنظمة البغي بأحكامها الجائرة من أجل إخماد كلمة الحق والقسط.

قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ[18]ومع أن الآمرين بالقسط قد تتعرض حياتهم إلى الخطر، إلا أن ذلك لا يرفع عنهم مسؤوليتهم.

إن الواقع الخارجي بما فيه من ظلم على جميع المستويات السياسي والاجتماعي والاقتصادي ليس إلا بما كسبت أيدينا، فسكوت المجتمع عن الظلم هو الذي يشجع الظالم على الظلم، فالحديث يقول: (كونوا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً) ولهذا إذا أردنا أن نغير الواقع الفاسد بما فيه من ظلم لا بد لنا أن نتحمل مسؤوليتنا في معونة المظلومين ومخاصمة الظالمين.

 

محاضره مكتوبة للعلامة النمر حفظه الله