عاملونا كما تعاملون معاوية
يحظى معاوية بن أبي سفيان عند قطاع عريض من متشددي السلفيين بمعاملة تفضيلية من الطراز الأول، هذه المعاملة تتسم بخطاب غاية في التسامح ينقب عن الأعذار والمبررات بكل الطرق من خلال آليات لا يحتاج اكتشافها إلى عناء كبير.
فبرغم أن المحدث النسائي صاحب السنن اعتذر من أهل الشام عن تأليف كتاب في فضائل معاوية لأنه لا يعرف فيه إلا حديث ( لا أشبع الله بطنه )، وهذه ليست فضيلة حيث ذكرها مسلم في صحيحه في باب ( من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبه أو دعا )، إلا أنهم تأولوها فأصبحت منقبة لأن الشبع يضر البدن أو لأن عدم الشبع دليل على دوام الصحة والعافية. هذا المعنى الذي لم يفهمه النسائي حيث صرح قائلا حسب رواية ابن كثير في البداية والنهاية: أما يكفي معاوية أن يذهب رأسا برأس حتى يروى له فضائل؟ ومعروف كيف أن النسائي تعرض إثر هذا الموقف للتنكيل، حيث جعلوا يطعنون في خصيتيه حتى أخرج من المسجد الجامع ومات في نفس سنته متأثرا بما أصابه.
وبرغم أن الحافظ ابن حجر العسقلاني ذكر في كتابه فتح الباري أن شيخ البخاري إسحاق بن راهويه قـد نصَّ على أنّه لم يصحّ في فضائل معاوية شيء، إلا أنهم كتبوا وألفوا في فضائله ربما اعتمادا على رأي ابن حجر الهيثمي صاحب الصواعق المحرقة الذي فتح الباب على مصراعيه بقوله: الذي أطبق عليه أئمتنا الفقهاء والأصوليون والحفاظ أن الحديث الضعيف حجة في المناقب.
وبرغم الحديث الذي رواه البخاري: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " إلا أنهم فسروا البغي بأنه بغي تأويل وليس بغي عدوان، فمعاوية اجتهد فأخطأ فله أجر وإن أدى ذلك الاجتهاد إلى خروجه على إمام زمانه وقتل الآلاف في معركة صفين.
وبرغم الحديث الذي رواه ابن ماجة في سننه وصححه الألباني: " عن سعد بن أبي وقاص، قال قدم معاوية في بعض حجاته فدخل عليه سعد فذكروا عليا فنال منه فغضب سعد وقال تقول هذا لرجل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كنت مولاه فعلي مولاه وسمعته يقول أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وسمعته يقول لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله " إلا أنهم برروا نيل معاوية من علي بأنه يحتمل وجوها عديدة، والحدود تدرأ بالشبهات. هذا على الرغم من شرح أبي الحسن الحنفي للعبارة في حاشيته على سنن ابن ماجة بقوله: فنال منه ) أي نال معاوية من علي ووقع فيه وسبه بل أمر سعدا بالسب كما قيل في مسلم والترمذي )
وبرغم الإقرار بقتل معاوية الصحابي حجر بن عدي وأصحابه إلا أنهم برروا ذلك بالاجتهاد، وذهب ابن العربي في العواصم إلى أبعد مدى حين ذكر بأن الأصل في قتل الإمام (أي معاوية) أنه قتل بالحق فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل، بل ألقى البعض باللائمة على حجر لأنه أراد الفتنة حين احتج على زياد بن أبيه!!
وبرغم ما فعله بسر بن أرطأة في اليمن عندما بعثه معاوية إليها، حيث يروي ابن عبد البر في الاستيعاب: أغار بسر بن أرطأة على همدان . وكانت في يد علي - وسبى نساءهم فكن أول مسلمات سبين في الإسلام ، وقتل أحياء من بني سعد.
بالرغم من ذلك فغاية ما يقوله ابن حجر في الإصابة: وله – أي بسر - أخبار شهيرة في الفتن لا ينبغي التشاغل بها.
وبرغم ما فعله في الأنبار جيش معاوية بقيادة سفيان بن عوف الغامدي من قتل وسلب، حيث وصف الإمام علي عليه السلام تلك الأحداث متألما ومتفجعا بقوله: وهذا أخو غامد وقد وردت خيله الأنبار، وقد قَتَلَ حسانَ بن حسان البكري، وأزال خيلكم عن مسالحها. ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقُلبها وقلائدها ورعاثها، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام.
بالرغم من هذا فإنهم لا يتساءلون لماذا لم يقم معاوية بمحاسبة هؤلاء على أفعالهم، ولماذا لم يشكل محكمة جنايات إذا كان لا يقر تلك الأفعال؟! بل نجدهم في المقابل يذكرون سفيان بن عوف الغامدي بأنه قائد صحابي من الشجعان الأبطال.
ما ذكرته هنا هو نماذج بسيطة من التعاطي المفرط في التسامح والسخاء مع معاوية، فكل نص يمكن أن يؤول، وكذلك كل فعل من سب أو قتل أو غيرهما، والنماذج كثيرة جدا لا نريد استقصاءها.
لكن ما نطالب به بكل تواضع أن تشملنا هذه القدرات التأويلية الخارقة والتي تستطيع أن تجد عذرا أو مبررا ما بطريقة أو بأخرى لمعاوية، أن تشملنا لتبحث لنا عن عذر حين نختصم وإياها في قضية من قضايانا الخلافية المزمنة، فنحن ننطلق من إطار مرجعي عماده الكتاب والسنة في كل معتقداتنا وسلوكياتنا، ولكل من يختلف معنا أن يطالبنا بالدليل في كل صغيرة أو كبيرة.
ما نطالب به أن تتوقف فتاوى التكفير التي تنطلق بين الحين والآخر متذرعة بأسباب واهية والتي تمهد الطريق أمام الفتن الداخلية واستباحة الدماء البريئة كما يحصل في باكستان والعراق وغيرهما.
نحن لم نقل ولا نقول بتكفير أحد من أهل القبلة ناهيك عن صحابة رسول الله ، فالكفر لدينا واضح المعالم مقنن فقهيا، والكافر عندنا حسب عبارة السيد محمد كاظم اليزدي في العروة الوثقى: من كان منكرا للألوهية أو التوحيد أو الرسالة أو ضروريا من ضروريات الدين مع الالتفات إلى كونه ضروريا بحيث يرجع إنكاره إلى إنكار الرسالة.
هذا هو تعريف الكافر عند فقهائنا، وهو تعريف يغلق الباب أمام فتاوى التكفير التي تخرج المسلمين من الإسلام لأدنى شبهة. فهل لدى هؤلاء تعريف أدق؟!