التفقه في الدين ,,, المنهج والشروط
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق وأشرف المرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين. رب اشرح لي صدري ويسِّر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.
- الوصية بالتقوى والتفقه طريق إليها:
عباد الله ! أوصيكم و نفسي بتقوى الله. إن لتقوى الله – عز وجل – طرقاً أو طريقاً لا بد للراغب أن يكون من أهل التقوى أن يسلكه, وهو يكاد ينحصر في التفقه في الدين. وقد ورد عنهم (صلوات الله وسلامه عليهم) أن الإمام الباقر (عليه صلوات الله) قال : لو أُتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه في الدين لأوجعت ظهره)(1). والسبب هو أن الإنسان إذا لم يتفقه في الدين سيكون فهمه عن نفسه وعن خالقه وعن المخلوقين وعن الحياة التي يعشيها فهماً مغلوطاً، بشكل كلي أو يشوبه الخطأ بطريقة أو بأخرى. والمعرفة هي التي تولد السلوك أو التي يُبنَى عليها السلوك.
- التفاعل بين المعرفة السلوك:
فالإنسان إنما يسلك هذا الطريق أو ذاك الطريق بناء على معرفته أن في هذا الطريق الذي يرغب سلوكه أو في الطريق الآخر الذي يرغب سلوكه الخيرَ والهدى, لذلك يجب أن يتفقه الإنسان في الدين على مستوى المعرفة؛ من أجل أن يتعرف على الحق فيتبعه وعلى الباطل فيتجنبه. و لذلك جاء في القرآن الكريم ﴿وَقُلْ: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ [مريم/4]، وقد قال الله – عز وجل – :﴿قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ؟! إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ [الزمر/9].
مع التأكيد على أن العلم في الإسلام ليس مقصودا في حد نفسه و إنما يقصد لما يترتب عليه من تصحيح السلوك , كالقرآن الكريم يتلى من أجل العمل به (رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه)(2). يقول أمير المؤمنين على أهمية العلم (العلم يدعو للعمل فإن أجابه وإلا ارتحل)(3). العلم الذي لا يُعمل به سيكون وبالاً على صاحبه. وهذا ما وقع فيه أولئك السابقون الكفار الذين لم يُنقِصوا من ملك الله – عز وجل – بسبب كفرهم شيئاً ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾ [النمل/14].
لذلك في سلسلة أحاديثنا وصلنا إلى قول الله – عز وجل – على لسان موسى ﴿وَقَالَ مُوسَى [مخاطباً قومه]: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [إبراهيم/8]. قلنا أن هناك زاويتين في هذه الآية, الزاوية التفسيرية أشرنا إليها في الأسبوع الماضي وننتقل الآن للزاوية الثانية، و التي ألمحنا إليها أنها ستكون محور الحديث :
- الزاوية الفقهية :
ينقسم الكفر كما نوَّعناه إلى قسمين :
1 - هناك كفر على مستوى المعرفة واليقين والإيمان، فيصنف الإنسان ضمن الكفار في مقابل من نصنفهم ضمن المسلمين والمؤمنين.
2 - لكن هناك كفر جحود نعمة, كفران للنعمة، أي: أن الإنسان يهديه الله – عز وجل – للخير فلا يسلكه, أو يتعرف على الحق فلا يتبعه, أو يمن عليه – سبحانه وتعالى – بشيء من الخير فلا يحسن استثماره؛ يهبه جمالاً فيتيه به, أو يتكبر به على الناس, أو تستعرض المرأةُ محاسنَها بين يدي الأجانب. هذه النعم و أمثال هذه النعم وأشياء كثيرة جداًّ لا يجوز لي ولا لك، ولا لكِ أيتها الأخت، أن نسيء استعمال ما أتانا الله – عز وجل – من الذكاء و الفطنة لتتحول إلى شيطنة.
- العقل والشيطنة
أمير المؤمنين حينما قيل له في مؤامرات خصمه معاوية قال (ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر و يفجر)(4). فلما سئل عن العقل قال (العقل ما اكتسب به الجنان)(5), ما أكتسب به يعني ما أرضي به. سئل فما ذاك الذي في معاوية قال: تلك الشيطنة) يعني العقل حين يساء استثماره يتحول إلى شيطنة هذا لا نسميه (عقل)؛ لأن العقل مشتق من العِقال، أي: يضبط الإنسان على المستوى السلوكي؛ فهم ومعرفة، ذكاء وفطنة يترجمها على مستوى السلوك. ليس من الفطنة أن يتعرف الإنسان على خالقه وعلى قدرته التي لا نهاية لها فيتمرد عليه.
أن يقول فرعون ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات/24]، هذا ليس ذكاءً وفطنةً، مصير فرعون انتهى به إلى ما انتهى إليه ﴿﴿ُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ [يونس/92]، لماذا ؟ لأن الله عز وجل يقول (ليكون عبرة)(6). هنا مسائل متعددة يمكن أن نشير إليها:
المسألة الأولى: أهمية التفقه في الدين
طبعاً المسائل الشرعية لا تنحصر في الحلال والحرام ما يسمى الآن بـ(الفقه). الأحكام الشرعية في الفقه الإسلامي
1 - هناك تفقه ومعرفة. إن شاء الله أتعرض إلى بعض جوانبها
2 - في الرؤية الكونية العقائد أيضاً يجب أن يكون عند الإنسان تصورٌ كاملٌ عن الإسلام يعرفه؛ حتى إذا ما جلس بين يدي حوار في التلفزيون أو أثيرت مسألة من المسائل يقبل أو لا يقبل، لديك من الأرضية ما يعينك، ولديك أيتها الأخت، من الأرضية ما يعينك أن تقولي أن هذا الكلام الذي يقال يمكن قبوله أو لا يمكن قبوله، أما أن يسترسل الإنسان أمام هذه المسلسلات والأفلام وأمام هذه الحوارات والنقاشات فتتشكل رؤيته المعرفية بناءً على إعجابه بشخصية هذا المتحدث أو ذاك الملقي أو ذاك الفنان أو ذاك الممثل وهذا السيناريو وهذا الإنجاز الجيد، فهذه مشكلة.
- التربية في حداثة السن
يقول الإمام الباقر في بعض أحاديثه؛ مخاطباً أولياء الأمور في ما يرتبط بتربية الأبناء في حداثة السن، بادروهم (بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة)(7). هناك تيارات فكرية تتصارع في السابق كانت تأخذ عناوين وأسماء، واليوم تأخذ عناوين وأسماء، كيف تحفظ لابنك دينَهُ؟ وكيف تحفظ لابنتك دينها وعفتها؟! إذا لم تغرس فيها بنحو التيقين وليس التلقين. نحن نريد التربية الحقيقية بأن تبصر وتفهم هذا الولد أن هذا هو الصواب وأن ذاك هو الخطأ ليُترَك له هو أن يختار.
الله عز وجل لم يكلفك، أيها الأب، أن بأن تجبر ولدك على الدين، فلا يستطيع أحدٌ أن يجبر ولده على الدين ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة/256]. قد نستطيع ممارسة الإكراه والفرض ظاهراً؛ فنجبره على الصلاة لكن هل أنت تستطيع أن تجبره على الصلاة؟ لا، أنت تستطيع أن تجبره على أن يستقبل القبلة على أن يقول "الله أكبر"، على أن يأتي بالفاتحة والسورة، على أن يركع ويسجد، لكن لا تستطيع أن تقول له يجب أن يكون هذا الفعل منوياًّ به التقرب إلى الله، قد يؤديه خوفاً منك؛ مجاملة لك، نفاقا لك. والمطلوب أن يصلي هو متقرباً إلى الله، والنيةُ أمرٌ قلبي لا يستطيع أحدٌ؛ لا الحكام ولا الملوك ولا الآباء ولا الجميع، لا يستطيع أحدٌ أن يفرض على أحد أن يحب شيئاً أو يكره شيئاً، ولا أن يؤمن بشيء ولا أن يكفر بشيء ﴿وَقُلِ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف/29]. لا نستطيع نحن أن نفرض الناس.
- الحكمة في الأمر بالمعروف
وهذا المضمون لو قبلناه ستتغير طريقة إدارتنا للتبليغ وللدعوة إلى الله وللأمر بالمعروف وللنهي عن المنكر. أما هذا الذي نشاهده عنده قطاعات واسعة وشرائح واسعة من الذين يتصدون للإصلاح الاجتماعي وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ في الدوائر القريبة في الدوائر البعيدة، في المخالفين في المؤالفين، أغلبها يشوبها الخطأ!! لذلك نجد أنها تتحول إلى أحزاب تتناحر.
المفروض في من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون دافعه إلى هذا التقرب إلى الله إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر. لكن الطرف الآخر الذي أمرته أو نهيته لم يمتثل لك لماذا تتحول المسألة إلى عداء شخصي بينك وبينه؟! لماذا تجافيه وتسلبه حق الإيمان فتتجاوز على حقوقه ؟! بهذا الفعل أنت تكشف أن دافعك لم يكن التقرب إلى الله.
- الإيمان والإحسان
الله عز وجل يقول ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة/83]، يأمرنا أن نحسن إلى الناس، بل سنقرأ إن شاء الله في ما يأتي أنه حتى مع الكفار المطلوب أن تكون أخلاقنا حسنة، ليس مع المسلمين، ليس مع المؤمنين فقط. لكن الذي نجده للأسف الشديد هو أن كثيراً من الناس يظن أن دافعه في هذا الفعل التقرب إلى الله!! التقرب إلى الله لا يسمح لك بأن يتجهم وجهك في أخيك المؤمن، ولا أن تقطع علاقاتك بأخيك المؤمن، ولا أن تؤذي وتزعج أخاك المؤمن بدعوى أن هذا ما يتطلبه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لا تشرعن لنفسك، ولا تبتكر، ولا تبتدع !! الدين معالمه محددة، ومعالمه معروفة، حتى في الاختلاط [تشابه الموارد] في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- الاختلاف المشروع
الفقهاء ماذا يقولون ؟! من شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنا أتكلم عن هذه المسألة لأنها مورد ابتلاء في الصحف، في الكتابات، في الانترنت، في العلاقات الشخصية، تقول لماذا تفعل هذا الشيء؟! قال: هذا تكليفي الشرعي!! ما هو تكليفك الشرعي؟! أنت اعتقدت بأن فلاناً من الناس أعلم ويتعين تقليده في نظرك، الطرف الآخر سأل فوجد أن الأعلمَ فلانٌ من الناس. تكليفك الشرعي أن تحارب الطرف الآخر ؟! لماذا تفرض قناعتك ما توصلت إليه عبر الإثباتات الشرعية عندك هو قناعتك، ليس هو دين الله الذي أوحي إليك. هذه قناعتك أن فلاناً من الناس أعلم، وقناعته أن فلاناً من الناس أعلم. لا يجوز لك أن تفرض عليه أن يعدل بتقليده من فلان إلى مَن ترجع إليه، إن لم نقل أنه يجب عليك أن تقول له: بارك الله فيك، أنت عملت بتكليفك الشرعي، وأنت معذور في ما اخترته.
- فرض التدين يزيله
قد تعتقد بأنه مخطئ لكن لا يحق لك أن تمارس عليه حصاراً، ولا أن تمارس عليه تضييقاً، ولا أنت تمارس عليه تشهيراً، لأن كل من مارس التديين بين الناس ونشر التدين بين الناس بهذه الطريقة آل أمره إلى الزوال. محاكم التفتيش في أسبانيا وفي القرون الوسطى زالت وزال أهلها، بل زال الدين لأن الدين المفروض على الناس بالقوة لا قيمة له؛ يكرهه الناس، يبغضه الناس.
رسول الله إنما جذب الناس بحسن أخلاقه ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم/4]. أما أن تلوي ذراع فلان وفلان؛ إما أن يؤمن بما تؤمن به وإلا فإنه مرق عن الدين فهذه مأساة! ما لذي نسجله نحن اتباع أهل البيت على الآخرين هو وضع له إطاراً معيناً سماه الدين، سماه أن هذا هو ما جاء من عند الله ومن عند رسوله، كل من خالفني في هذا المعنى هو مشرك، كل من خالفني في هذا المعنى هو مبتدع، كل مَن خالفني في هذا فهو فاسق. وبالتالي يسلب حقه المدني والأخلاقي والاجتماعي فما بال المؤمنين يقعون في مثل هذه المسألة؟! بأي حق يفرض أحد قناعته على زيد وعبيد من الناس؟! الله عز وجل آتاه عقلاً مثل ما آتاك عقلاً، ولا داعي للتكبر ولا للغرور ولا أن تعتقد أنك مصيب وهو المخطئ، لأنه يعتقد أنه المصيب وأنت المخطئ، لا أنت جبرائيل تعرف ما الذي أنزله الله حتى تمارس وصاية وقوامة ولا هو جبرائيل يمارس عليك وصاية وقوامة، هو معذور في ما اختار وأنت معذور في ما اخترت.
- شروط التفقه في الدين
للتفقه في الدين، أي استقاء معارف الدين الإسلامي، شروط نذكر بعضها:
الشرط الأول: أن يكون التفقه في الدين، أي الاستقاء، من المنابع
بمعنى أن لا تُعمل ذوقك بالقول أن هذا حرام وهذا حلال. هناك كتاب كريم وسنة مطهرة ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ [المائدة/50]. ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء/9].
ما الذي يجب علينا أن نفعله ؟ أن نعكف على القرآن الكريم فنتدبره، نتأمله، نفسره، إن كنا من أهل التفسير والتأويل والتدبر، إذا لم تتمكن كِل الأمر على أهله ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء/7]، مع ضرورة أن تبقي عينيك مفتوحتين لأن الذي يحدد مرجع التقليد والعالم الذي ترجع إليه هو أنت لا غير. مَن الذي يحدد أن المرجع عادل أو ليس عادل؟ أنت لا تتصل بقندهار ولا تتصل بأستراليا، هذه المهمة تتولاها أنت شخصياً:
أ - إما أن تذهب إلى الحوزة العلمية وتنظر في سيرة هؤلاء الفقهاء.
ب - أو تسأل العارفين بهؤلاء الفقهاء.
جـ - أو يشيع بين الناس بما تركن إليه نفسك وتطمئن إليه بالعدالة والاستقامة، وهكذا باجتهاده.
ولكن قد تتغير الأمور، قد تزل قدم هذا الفقيه أو ذاك ما دام ليس من المعصومين.
لذلك قد تتغير حالاتك التقليدية تطمئن أن فلاناً من الناس أعلم ثم تتبدل الأمور فتكتشف أن قناعتك السابقة
1 - لم تُبنَ على أسس سليمة.
2 - أو أنك تعجلت في الاختيار.
3 - أو أن الوضع تبدل وتغير.
صحيح أنه كان في المرحلة السابقة أعلم لكن الله عز وجل فتح على فقيه آخر؛ بآية ذكاء، فقاهة في علمه، هذا أمرٌ متوقَّع ممكن أن يحصل. هذا ليس بالأمر المستبعد فقد يتغير. وعلى ذلك لا سمح الله قد تزل قدم هذا الفقيه أو ذاك، حتى على مستوى العدالة ما دام ليس معصوم فيمكن أن تزل قدم هذا الفقيه لذلك يبقى شرط العدالة قائم، شرط الاجتهاد قائم، شرط الضبط المتعارف، وكل ما ذكره الفقهاء من الشروط.
والسبب هو أننا نريد قناعة نطمئن إلى أمانتها في إيصال أحكام الله عز وجل إلينا بالمقدار الميسور، هذا مهمٌّ عندي وعندك قناعتي وقناعتك. ليس هناك شيءٌ فوق ما قاله الله وما قاله الرسول.
- الابتداع في الدين
يقال(8) أن أحد السلاطين كان يلبس الذهب أو الحرير فقيل له كيف تلبس الحرير وقد نهى رسول الله عنه، وهو من الصحابة، قال : لكني لا أرى به بأساً!! فالذي تحته قال ويلي عذيري من فلان أقول له ينهى عنه رسول الله يقول لا أرى به بأساً. هذه مأساة.
الحمد لله في دائرتنا، نحن أتباع أهل البيت ، لا يوجد لدينا هذا المعنى، لكن الشيطان قد يتسلل بطريقة خفية غير منتَبَهٍ إليها وغير ملتَفَت إليها، فيقع الإنسان في ما وقع فيه الآخرون، فيضيف شيئاً إلى شرع الله أو ينقص شيئاً من شرع الله عز وجل. وأضرب لكم مثالاً من باب أن الشارع المقدس له طرقه الخاصة في ما يرتبط بالحيض مثلاً الذي تبتلي به النساء، الأطباء يقولون أن الحيض لا يجتمع مع الحمل، هذه كلمتهم، لكن الفقهاء يقولون؛ تبعاً للأدلة الشرعية، يجتمع الحيض مع الحمل. ما الذي نفعل ؟ هل يأتي أحدٌ ويقول: لا، هذه حقيقة علمية، الأطباء يقولون أن الحيض لا يجتمع مع الحمل! فماذا نفعل بالروايات التي ورد عن أهل البيت ؟ نشطب عليها !! ممكن أنك تشطب على هذه الروايات، وتقول أنها لم تصدر عن أهل البيت !! يمكنك ذلك لكن متى؟ إذا انتهيت إلى نهايات ونهايات علم الطب. مَن يدعي هذه الدعوى اليوم؟! هل يستطيع أحدٌ أن يقول لك اكتشف الطب جميع حقائق العالم، وليس هناك مجال أن تتغير قناعات الأطباء!! ما يقبلونه اليوم، أو ما كانوا يقبلونه بالأمس أصبح اليوم لا قيمة له؟
- هل نحتاج أن نسوق أمثلة؟
مثلاً: التحاليل الطبية ، البعض يقولون هذا تحليل طبي، صحيح تحليل طبي، تحليل الدم واللعاب وخلايا الإنسان الذي له خصوصيات معينة وهناك أودع الله عز وجل فيها حقائق، لكن هذه النتيجة التي يريد أن يعطيك إياها علم الطب مَن الذي سيحللها ؟ الطب أم الطبيب؟ الطبيب، فالطبيب هو الذي سينظر إلى الصورة ويقول: حسب تشخيصي. نقول بارك الله فيك، يعني ممكن الخطأ؟ يمكن أن تسلم نفسك للطبيب فيشرح بطنك، لكن مع ذلك يمكن أن يكون هناك خطأ طبي، خطأ تشخيصي، خطأ علاجي، يمكن هذه المعادلة التي وضعها الأطباء ليست معادلة صحيحة.
حتى أنه يلقون الطرائف، وليست هي طرفة، لا، هي حقيقة، يؤتى لك بعينتين، هذه عينة وهذه عينة، وهذه حصلت ونقلها لي بعض الإخوة، قالوا صاحب هذه العينة هذه حامل! كيف حامل؟ العينة لي أنا الرجل فكيف حامل؟ صار هناك خطأ في الملصَق على العينة. وهذا خطأ بسيط. هل نغير شرع الله على أخطاء ممكن أن تحتمل؟ ممكن الهواء الذي في أثناء ما أخذت العينة قام بعملية أكسدة، تغيير جزئي للدم، للعاب، للبول،للغائط ولكل المواد التي تؤخذ في التحاليل فتغيرت النتائج وهكذا.
- الشرع حاكم لا محكوم
فإذا ليس هناك شيء في مقابل الشرع الله نأخذه. علم الطب وأمثاله من العلوم التطبيقية يجب أن لا تقاس بالرياضيات، القضية ليست مثل الرياضيات، الرياضيات قوانين وبراهين، لكن علم الطب علم متجدد علم يتغير، علم يتحرك، لذلك لا داعي لأن نفيض الحديث في هذا الجانب لأن الأطباء وعلماء الطب وعلماء هذه التخصصات، بكل تواضع هم الذين يقولون: ليس هناك إجماع على هذه المسألة أو تلك المسألة، و بالتالي لا نـزاحم شرع الله عز وجل بأشياء اجتهادية.
- مثلاً:
1 - الهلال يثبت بالرؤية العادية، وقد يقول بعض الفقهاء يمكن الاستعانة بالأجهزة، الشرع يقول أن هناك موقفاً عندي من مسألة التحول، ليست هي أن ينتقل الهلال من منطقة المحاق أو أن يخرج من هذه المنطقة ويدخل في المحاق ليومين أو ثلاثة أيام ثم ينتقل، هذا بالحسابات يستطيعون تحديد الخروج، لكن هل هي ظاهرة كونية بحتة؟ أم أنها مثل الحيض؟ هناك موقفٌ شرعيٌّ يقول أنا كشارع مقدس لا أقبل الانتقال أو لا أسميه انتقالاً إلا أن يُرَى بالعين المجردة، ضمن سلسلة من الشروط.
2 - وهكذا الشهادات، حينما يأتي الشارع المقدس ويقول أنا أقبل الشهادة، يقول ائتني باثنين عادلين، المرأتان العادلتان؟ اللتان لا نشك في صدقهما ولا في وثاقتهما ولا في عدالتهما ولا في ضبطهما، أي في وقت الشهادة وفي حين تحمل الشهادة دوَّنا شهادتهما مكتوبة، مع ذلك يقول الشارع المقدس نحن لا نعتد بشهادة المرأة! هل هذا موقف تمييز؟ لا ، الشارع المقدس له حساباته، له اعتباراته التي يجب أن تلاحظ، هذا شرط.
الشرط الثاني: أخذ الحكم الشرعي والموقف الشرعي من العارفين به
الذي أشرنا إليه هو أن مرجع التقليد في مقامه، العلماء والمفكرين كلٌ في مقامه، مع توفرهم على سمتين أساسيتين:
السمة الأولى: الكفاءة العلمية
والسمة الثانية: النزاهة الأخلاقية.
1 - ضرورة أن يكون كفؤاً من الناحية العلمية لأن المسائل قد تختلط، ويشتبه فيها الحال، لا ينبغي التعجل، لذلك لماذا نقول نحن يجب بالفطرة بالعقل يجب تقليد الأعلم، لأن الأعلم أقدر على محاكمة هذه المسألة من الناحية العلمية من غير الأعلم. هذه ناحية، والحديث فيها طويل.
2 - النزاهة الأخلاقية نحن لا نطمئن إلى أن هذا الإنسان ما دام ليس من المعصومين أن تكون عوامل نفسية معينة دفعته إلى أن يختار هذه الحكم دون ذاك الحكم، مع أن الدليل مع هذا الحكم الذي لم يختره والدليل على خلاف ما اختاره، السبب هو أنه إذا اختلت نـزاهته لا نستطيع قبوله.
القاضي يستحب له إذا أراد أن يقضي أن يقضي الحاجة، والسبب هو أن الإنسان في حالات الاحتقان احتباس البول يمكن أن تغير من مشاعر هذا الإنسان، ولذلك يقول بعض التجار أنه إذا أراد أن يفاوض أحداً تجارياً يضعه في ظروف تفرض عليه أن لا يخرج من الجلسة إلا وقد انتهى، مثلاً يضعه في مكان بعيد عن دورة المياه وهناك صعوبة في الرواح والمجيء، فهو بمجرد أن يدخل الاجتماع يتورط ويبادر إلى القول لننته ولنوقِّع. هذا في مسألة تجارية وهي أمرٌ هينٌ، لكن في القضاء كيف ؟ ما الذي نفعل في القضاء ؟ فإذا كان القاضي بعيداً عن الحمام، أجلَّكم الله، عسر عليه الحكم. وهذا لا يعني بالطبع أن يتعمد المجيء في الساعة 9 أو 10، ويطلع 11:30 للصلاة وما يرجع ويعطل المواطنين .. لا ..
نتكلم هو عليه أن يحسن تهيئة نفسه ليصبح مستقر البال مستقر النفس لا أن يجيء إلى القضاء وهو متعَب، لا يستطيع حين ذاك أن يكون نـزيهاً، وإذا كان هناك شبهة في أن هذا القاضي أو ذاك سيكون على خلاف العدالة نقول لا .. لنذهب إلى قاض آخر ليس عليه حسابات يمكن أن تؤثر عليه يميناً أو شمالاً.
الشرط الثالث: ضرورة التثبت
وهذه مسألة فيها حيص بيص كثير، ولكن أضرب لكم مثالاً: حينما يقال (فلان علوي) هل تقدر أن تفسرها؟ عدة احتمالات في كلمة علوي ؟
1 - يمكن علوي نسباً
2 - يمكن علوي مذهباً
3 - ممكن علوي الهوى
لذلك هذا الكلام يصير مجملاً لا تستطيع التفسير.
قلت هذا علوي وأنت في اللاذقية له توجيه.. قلت علوي وأنت في المدينة له توجيه. قلت علوي وأنت تتكلم في التاريخ هناك قرائن. هذه القرائن هي التي توجه استعمالك. ولذلك أنا حينما أقول لك بعتك هذا البيت بالريال, مثلاً بمليون ريال .. أنت أين قلت ريال ؟ في قطر أو في السعودية. هذه قرائن حالية أنت حينما تبيع البيت في سيهات بمليون ريال ما الذي ينصرف الذهن له ؟ الريال السعودي طبعاً وليس الريال القطري ولا الريال اليمني. ولذلك إذا كان عملة دولية يقال بالدولار الكندي بالدولار الأمريكي بالدولار الأسترالي، يجب أن توضح هذه المقاصد.
المتعجل رأساً يأخذ أول الكلام ويقول: قيل الكلمة الفلانية .. ثم يُدخِل تفسيره الخاص. لا تدخل تفسيرك الخاص لأنك في مقام الحكم، في مقام القضاء.
التفقه في الدين إذن له شروط يجب أن تُراعَى، إذا أردت أن تأخذ حكم الله بما يجعلك بريء الذمة بين يدي الله، لكي لا يكون التعامل انتقائياً.
نسأل الله عز وجل لنا ولكم التوفيق والسداد والهدى. اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم انصر الإسلام والمسلمين واخذل الكفار والمنافقين، اللهم شاف مرضانا وارحم موتانا وأغن فقراءنا وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وعجل اللهم لوليك الفرج والنصر والعافية. وصلِّ اللهم على محمد وآله الطيبين الطاهرين.