للتكفير وجه آخر
إن الانجازات الحضارية التي حققتها الانسانية مؤخراً على صعيد النقل والاتصال بتفوق ملحوظ ، اقتحمت بها الحدود الجغرافية ، وقلصت الحواجز الزّمنية حتى عُبر عن العالم بالقرية الصغيرة ، تتواصل فيها البشرية وتتعاطى بمختلف أطيافها وألوانها وثقافاتها وعاداتها ، مما ساهم في النموِّ الحضاري والاقتصادي .
وبطبيعة الحال تقتضي هذه العولمة في حركتها التسارعية نحو التعايش الشمولي - بمختلف الأنماط الفكرية والثقافية - اصطداماً حاداً بين المفاهيم ، إلا أن الاحتكاك بين المبادئ والقيم ليس وليداً للعولمة الثقافية ، بل ظاهرة طبيعية من ظواهر الحياة الانسانية العملية ، لكنها تجلت واتسعت باتساع العلاقات العالمية بين الشعوب وهذا ماتقتضيه العولمة ، ويشهد على ذلك قوله تعالى : ﴿ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾ - سورة النحل آية 64 - ، فالاختلاف واقع تقتضيه طبيعة الحياة المعيشية .
ومن هنا لزم على العالم الخضوع لمفهوم السلم والسلام وقبول التعايش وتقبل الطرف الآخر المخالف ، وإلا تحولت هذه القرية إلى غابة صغيرة يسودها نظام الغاب ، وحينها لا يكون البقاء إلا للأقوى ... وهذا ما يرفضه وينبذه العقل الجمعي الذي تميّزت به البشرية بالاشتراك عن باقي المخلوقات في قدرة التعايش والتأقلم بالظروف المحيطه ، إلا أن هذا رهن إعمال القدرة العاقلة لدى المجتمعات .
- مفهوم التعايش :
إن التعايش فرع وجود المجتمع ، ونعني به العلاقة القائمة بين أفراد ووحدات مختلفة الأنماط في ضمن حدود جغرافية واحدة ، كما أن هذا المعنى من التعايش المسمى بالمجتمع الواحد متحقق ، هو كذلك في الإطار العام حيث يكون على مستوى صعيد المجتمعات بكاملها ، إذ ترتفع فيما بينها الحواجز الجغرافية فتشمل جميع البقاع .
إلا ان هذا التعايش على أنحاء مختلفة ، فمنه ما يكون على نحو التعايش السلمي ومنه العدائي ومنه الحيادي ، وأدنى ما يرتضيه العقل الجمعي بين المجتمعات ، هي الحياة الحيادية التي تحفظ خصوصيات الجماعات المتفرقة مع خطِّ حدٍّ يفصل بينها ، إلا أن الرغبة الكابحة في الانسان تطمح للوصول إلى التعايش السلمي النهضوي والعقل يدعو لهذا النمط من المعيشة ، وينبذ مايكون بالصورة العدائية ، حيث السّمو إلى بناء علاقات تكافلية متبادلة ، وعلاقات تعاونية حيوية ناشطة . والانتماء لأحد المعاني الثلاث ينحدر بحسب الرؤية الكونية لدى الانسان والمعتقد الذي ينتمي إليه .
- ضرورة التعايش في نهج آل محمد :
مما جرى من السفح التاريخي الدامي وجُرعات السيوف المتتالية على رقاب الشعوب .. تعالت صرخات آلامهم وتكرر النداء الموحد بالدعوة إلى التعايش والتكاتف فيما بينها ، وقيام حركة تهدف لسدِّ فجوة الفقر التكافلي وبيان ضرورته والكشف عن أهمية الوحدة بين الشعوب ، إلّا أن هذالم يكن إلا مقترحاً يُتدارك به ما آلت إليه البشرية من صراعات دامية واصطدام مع الواقع المحسوم ، في حين أن النهج الدّيني والرؤية الكونية بحسب ماتفضي إليه المدرسة الشيعية بالدعوى إلى التعايش السلمي فإنها سبّاقة في ذلك ، إذ لم تكن هذه النظرية مقترحاً وفكرة وليدة للظروف الراهنة وكأنه اختيار جبري لهذا النمط من التعايش ، بل هو مبدأ إسلامي أصيل وموروث ديني لا يتجزأ من عقيدة الفرد الشيعي ، فإن المتأمل لإشراقات المواقف الرسالية والتاريخية في مختلف أدوار أهل البيت مع مختلف المناهج والتيارات الفكرية والسلوكية ، ترفع غشاوة المتبصر في حياتهم وتكشف مدى تجليات القيم الانسانية والمبادئ الفطرية ، ومما يُظهر هذا الشموخ العالي عندهم ماتناقلته الأجيال من موروث ديني منقول عنهم في إرشاداتهم الداخلية لأتباعهم ، وخطاباتهم العامة ومختلف مواقفهم التأريخية .
- فعلى مستوى الإرشاد الداخلي لأتباع أهل البيت :
روي عن الإمام العسكري في قوله عزّ وجل (وقولوا للنّاس حسنا) ، قال : ( قال الصادق : وقولوا للناس كلّهم ، مؤمنهم ومخالفهم ) . - التفسير المنسوب للإمام العسكري 353 -
وعنه عن آبائه عن الباقر أنه قال : ( من أطاب الكلام مع موافقيه ليؤنسهم ، وبسط وجهه لمخالفيه ليأمنهم على نفسه وإخوانه ، فقد حوى من الخير والدرجات العالية عند الله ما لا يقدر قدره غيره ) . - تفسير الإمام العسكري 355 -
وعن معاوية بن وهب قال : قلت لأبي عبد الله الصادق : كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا ، وفيما بيننا وبين خلطائنا من الناس ؟ قال : فقال : ( تؤدون الأمانة إليهم ، وتقيمون الشهادة لهم وعليهم ، وتعودون مرضاهم ، وتشهدون جنائزهم ) . - وسائل الشيعة 12 5 الحديث 1 -
وعنه قال : ( اتقوا الله ولاتحملوا الناس على أكتافكم ، إن الله يقول في كتابه : ( وقولوا للناس حُسنا ) قال : وعودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، وصلّوا معهم في مساجدهم حتى ينقطع النفس ، وحتى يكون المباينة ) . - تفسير العياشي 1 48 الحديث 65 -
وعنه يقول ( عليكم بالورع والاجتهاد واشهدوا الجنائز وعودوا المرضى واحضروا مع قومكم مساجدهم ، وأحبوا للناس ماتحبون لأنفسكم ، أما يستحي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه ولا يعرف حق جاره ؟ ) . - الوسائل 12 6 الحديث 4 -
وعن أمير المؤمنين (عليه السّلام) في مكاتبته المعروفة لمالك الأشتر : ( وأشعر قلبك الرحمة بالرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولاتكونن سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل ويعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه ) . - نهج البلاغة -
والمواقف التي تحتضنها ذاكرة التاريخ عديدة ومشرقة شهد لها العدو والصديق ، ولا يسنح لنا المقام بذكرها خشية الإطالة .
- للتكفير وجه آخر :
عَهد الإعلام أن التكفير حالة تخالف الوجدان البشري ، وتخترق كل القيم الانسانية والمبادئ الفطرية .. فالتكفير المتناول في يد الإعلاميين والمتداول في قنواتهم وصفحاتهم ما كان يحمل في طياته معنى إقصاء الآخر وثقافة القمع وإباحة الدماء وهتك النساء وسلب الأموال ، ونسف المقدسات ... لكل ما يقابل فكره ويخالف هواه ، وحقَ للإعلام أن يكشف بشاعة هذا المسلك وقبح ما يدلو به .
إلا أن الإعلام المسرطن لا يخلو من واقع الإعلاميين في بث الفساد وإشعال فتيل الفتنة الطائفية بدعوى دحضها ، في حين يُفترض مِن مثلهم أمانة النقل ودقة التحليل ووسطية الطرح ... وعليه ينبغي رفع الملابسات وبيان حقيقة الفرق بين نحوين من التكفير :
الأول / وهو ماكان الكلام حوله .. وباختصار هو من يمنع أن يكون للآخر قرص رغيف يستمد منه العيش ، وفي اعتباره أن الحياة لا تُستحق إلا لشاكلته ، فهو من يقتات من سفرة التاريخ الدامي لأسلافه ، وهو التكفير الذي يستتبع أثراً معيشياً مع الآخرين .
الثاني / وهو ما يكون بمعنى عدم استحقاق الثواب بعمل ما يخالف معتقدٍ ما ، ولا يستتبع هذا آثاراً تنافي مفهوم التعايش ، وإنما يترتب عليه آثار أخروية نتيجة للفكر والمبدأ ، كاستحقاق الثواب والجزاء ، فليس بالضرورة أن يسري هذا الترتب إلى الآثار الاجتماعية المعيشية ، بحيث أن الاطراف المخالفة تُسلب منها حق الحياة على مستوى الدار الدنيوية تبعاً لما لا تستحقه في الحياة الأخروية ، وعليه تحترم الدماء وتحفظ الأعراض وتؤمن الأموال ، وتُجسّد الأخلاق والقيم الانسانية بحسن المجاورة والاختلاط والاندماج المعيشي ، وتبادل المنفعة ، وإعمال حركة نهضوية تساهم في تحسين وتطوير سبل الحياة وتسهيل المعيشة .
وإن كانت توجد أحكام دنيوية يُفضيها المعتقد بحسب لوازمه ، إلا أنها لا تتعارض مع مفهوم التعايش - كما هو الحال في التكفير بالمعنى الأول - ، وإنما هي أحكام تحفظ خصوصيات المذهب أو الدين بصورة عامة وتكون درعاً مصوناً له ، ولا تقتحم خصوصيات الآخرين وتمنعهم ممارسة حقوقهم الطبيعية في الحياة المعيشية .
وإن مصطلح التكفير في الديانات واردٌ ، وكلٌ يرى أن ما عليه هو الحق وما دونه كفر وباطل ، ولا إشكال في ذلك إذا كان بالمعنى الثاني ، فكما أن الديانات الأخرى التي في قبال الإسلام كافرة في نظر المسلمين ، فكذلك هو الإسلام – كفرٌ - بالنسبة لهم وبحسب ما تفضيه أدلتهم ومعتقداتهم ، والواقع أن هذا لا ضير فيه مادام الكل يدعي أنه على حق ، فاللّحد لن يضم إلا واحداً ، ولن يشارك أحد قبر الآخر ، فالمهم أن لا يستتبع المنع من حق العيش وممارسة الخصوصيات ، فبحسب ما تستنتجه الديانات من مداركها المعرفية ، من أن الحق معها وأن ما تعتقد به هو المنجي من الهلكة والمفضي للجزاء بالجنة ، فحكم الآخرين لن يغير من واقعهم شيئ مادام الدليل قائماً بأنهم على الحق ، وكذلك هو الحال في ضمن الديانة الواحدة فإن تكفير بعض الطوائف أو المذاهب بهذا المعنى لا إشكال ولامحذور يتنافى مع العقل الجمعي الذي يُسلم بأن للكل حق الحياة الدنيوية وممارسة العيش فيها ، إلا أن الثواب الأخروي واستحقاق الجنة لن يكون إلا لديانة وطائفة واحدة وهي من تكون على جادة الحق والصراط المستقيم ، ومن هنا نعي قول الرسول الأعظم : ( سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثل بمثل وأنهم تفرقوا على اثنين وسبعين ملة ومستفرق أمتي على ثلاث وسبعين ملة تزيد عليهم واحدة كلها في النار غير واحدة ، قال : يارسول الله وماتلك الواحدة ؟ قال هو مانحن عليه اليوم أنا وأهل بيتي ) - البحار ج28 ح4 ب1 - ، وفي حديث آخر مع اختلاف بسيط وقوله في ذيل الرواية ( مانحن عليه اليوم أنا وأصحابي ) - معاني الأخبار 323 - ، فهذا الترتب الأخروي منه لا تستتبعه آثار اجتماعية تنافي مفهوم التعايش بحسب منهجية الإمامية وتابعي مدرسة أهل البيت ، إذ في حين التسليم بقول الرسول الأعظم والإيمان بما أخبر ، فإنه لا يصطدم مع الواقع المعيشي الاجتماعي ، باحترام خصوصيات الجماعات المتفرقة ، ومعاضدة الآخرين ومساندتهم وإخائهم ، ويظهر هذا من أقوال قادة المذهب الشيعي وإرشاداتهم لرعيتهم كما سلف ذكره .
والإنصاف بأن لهذا الحكم الشرعي من التكفير - بهذا المعنى – أهميةً تتجلى فيها ما يخالف تجليات التكفير بالمعنى الأول ، لما فيه - المعنى الثاني - من دوافع البحث عن الحقيقة ، وإتاحة فرص الحوار وتبادل شتّى أوراق الفكر المختلفة في ميادين الحياة بصورة سلمية مبتنية على التسامح والعفو مع الآخرين آملين للوصول إلى الحقيقة ، بل إن إخفاء هذا الحكم يعتبر تضليل للآخرين من جهة عدم بيان بطلان ماهم عليه بحسب ما يُعتقد به من الحق وستر مايجب إظهاره من الحقائق ، فالتكفير بالمعنى الثاني يتضمن في واقعه النّصح والإرشاد ، فهو بمثابة إشارة التنبيه عن الخطر المحدق بمن ينحرف عن هذا المنهج - المعيّن - ، وهو خالٍ من الكراهية والبغضاء كما في التكفير بالمعنى الأول .
نعم .. ينبغي أن نرفع هذا المصطلح ونمتنع عن التعبير به فيما بين المسلمين ، لما فيه من اشمئزاز النفوس وإثارة حفيظة الآخرين واستثارة عواطفهم مما يزحزح الحق عن مواضعه ، بل حتى مع أصحاب الديانات الأخرى إذا استلزم ذلك ، ونؤكد على المفردات والعبارات التي تحمل معنى الأخوة والمحبة ، فينبغي أن تبقى مجالس الحوار متاحة للآخرين ومفتوحة عليهم تحيطها هالة من الهدوء والمحبة والسلام ، وتبقى الإشارة لهذا المعنى الثاني للتكفير من دون هذا المصطلح ، فمثلاً مما ينبغي بيانه للمسلمين – بكوننا شيعة - أن الإمامة نص إلهي وضرورة دينية ، لا يُقبل عمل أو يصعد إلا بالإقرار بها والعمل تحت ضوئها والسير على جادتها ، فيترتب عليها مسألة الثواب والعقاب .
- إن الدواعي الحثيثة التي ألزمتني لهذا البيان وتمييز هذين النحوين من التكفير هم عدّة عوامل أساسية :
1- بيان أن هناك من يقول بالتكفير – أو ما بمعناه - ولا يريد به استقصاء الآخر ونفيه ، وإنما عدم قبول العمل عند الله تعالى كما هو الحال بين الديانات .
2- كشف العبث الإعلامي في زجِّ المعنى الثاني للتّكفير بالمعنى الأول واستغلال الاشتراك اللفظي بين المعنيين ، بحيث يرتب الإعلام الفاسد لوازم المعنى الأول على الثاني ، من عدم تقبل التعايش ورفض الوحدة ، الذي نناشد والعالم معنا بنبذ هذا المسلك الدامي المنحرف .
3- تدارك تفريط بعض مدّعي الوحدة ومريدي التعايش ، بدعوى صحة التعبد بالمذاهب الأخرى ، مما يثير حفيظة أقرانهم في داخل المذهب ، ومما يولد ردة فعل قوية وحادة - وغير عقلائية في بعض الأحايين – مما يخلق حالة الإفراط والتفريط ، وهو خلاف لما ينبغي من الوحدة والتعايش ، والدعوة إلى الحق وترك الباطل من خلالها .
- والحمد لله ربِّ العالمين -