السيد العوامي : دور الثقافة الرسالية في نهضة الأمة
الخطبة الأولى 14 ربيع الثاني 1430 هـ
عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى والاشتغال بالآخرة وعدم التكالب على حطام الدنيا، فيا عباد الله! اتقوا الله واحرصوا على العمل للآخرة، ولا تتعلقوا بسراب الدنيا. إن العمل للآخرة يعكس تجلي العلم والحكمة والبصيرة في حياة الإنسان؛ أما اللهث وراء الدنيا والاغترار بها فلا يمثل إلا جانب الجهل والسفه وانعدام البصيرة عند الإنسان.
- خيرية الأمة
يقول تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[1]
يؤكد القرآن الكريم على أن هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس، وخيرية هذه الأمة نابعة من تمسكها بثلاثة شروط أساسية ؛ وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله -سبحانه وتعالى-، وهذه الخصائص التي امتلكتها الأمة مكنتها من بلوغ هذه المرتبة، ولكن هذه الخيرية معلقة ما دامت الأمة متصفة بهذه الصفات.
والملاحظ بأن كل هذه الصفات المذكورة لخير الأمم هي صفات ثقافية؛ بمعنى أن الأمة وصلت إلى ما وصلت إليه عبر ثقافتها الخيِّرة، والتي هي ثقافة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وثقافة الإيمان بالله، فهي لم تصل إلى ما وصلت إليه بسبب تميز عرقي أو أفضلية لغوية أو خيرية قومية أو انتماء أرضي، فالقرآن الكريم يقرر بأن الأفضلية الحقة هي الأفضلية الثقافية والخيرية الحقة هي الخيرية الثقافية والتميز الحق هو التميز الثقافي والانتماء الحق هو الانتماء الثقافي. ولذلك فهو يؤكد بعد ذلك بأن لو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم، فالخيرية راجعة إلى الإيمان، أما مجرد ادعاء اليهود -مثلاً- أنهم من عرق معين فبالتالي فإن لهم الخيرية والأفضلية فهذا ليس بشيء في ميزان القرآن الكريم.
فهوية هذه الأمة هي هوية ثقافية بامتياز، وأي محاولة لتمييع هذه الهوية هي جريمة كبرى.
- أهمية الثقافة
من هنا تظهر أهمية الثقافة في مسيرة الأمم نحو الإصلاح والنهضة، ويظهر بوضوح العامل الثقافي كعامل حاسم في تحديد مصير الأمم. إن الثقافة هي التي ترسم للأجيال مسيرتها، وهي التي تحدد طريقة تعامل الأمة مع الأحداث والمنعطفات المصيرية التي تعصف بها، وبالتالي فهي التي ترسم لها المستقبل المشرق أو المظلم.
الثقافة هي جملة الرؤى والأفكار التي تحدد سلوك الإنسان وتبين طبيعة مواقفه، وبالتالي ترسم هويته المتميزة. إذن سلوك الإنسان رهين ثقافته، كما أن مواقفه التي يتبناها هي بدورها
رهينة ثقافته. من هنا فإن التفكيك بين ثقافة الفرد وسلوكه ومواقفه التي يتخذها أمر غير مقبول، بل غير ممكن! فثقافة الإنسان ليست إلا تلك المواقف التي يتخذها والسلوك الذي يمارسه اللذان هما تعبير عن الأفكار والمعتقدات التي يتبناها.
وكما أننا لا نستطيع أن نفكك بين ثقافة الإنسان وسلوكه، كذلك لا نستطيع أن نفكك بين ثقافة الأمة وطبيعة المواقف التي تتبناها. حقاً إن الثقافة هي المؤشر الدقيق على تقدم الأمم أو تخلفها؛ فالأمم المتقدمة لا ريب أنها تحمل ثقافة تدفعها نحو التقدم، أما الأمم المتخلفة فلا ريب أن ثقافتها هي العامل الأساس وراء تخلفها، فالواقع الفاسد لا يوجد إلا وراءه ثقافة فاسدة مريضة ونتنة. فالذي يميز أمةً عن أمة هو الثقافة، وهوية كل أمة تتحدد وفق ثقافتها، وعندما يبحث الإنسان عن أساس المشاكل الحضارية التي تعاني منها الأمة الإسلامية اليوم، فإنه لا بد أن يقع على المشكلة الثقافية كأحد أبرز المشاكل.
فليست ثقافة الأمة هي مجموعة الأفكار المخزنة في عقلية أبنائها ولكنها منعزلة عن واقعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمعرفي، فنحن لا نستطيع أن نصف ثقافة أمة من الأمم بأنها ثقافة عزة وكرامة، ما لم يكن واقعها يصدق ذلك، كذلك نحن لا نستطيع أن نصف أمة بأنها تمتلك ثقافة التضحية ما لم تكن كذلك بالفعل، فهناك فرق واضح بين الأماني وبين الواقع. ألا ترى بأننا نصف من يذهب إلى أماكن الخير والطهر والصلاح بأنه ذو ثقافة إيمانية بينما نقول للذي يرتاد على أماكن الشر والفسق والفجور بأنه صاحب ثقافة فاسدة!
- الحل في توعية الأمة
عندما انحرفت ثقافة الأمة الإسلامية عن مسارها الصحيح، أصبحت تجتر الويلات تلو الويلات والنكبات تلو النكبات، والطريق الصحيح للتخلص من كل تلك الأزمات يكمن في الإصلاح الثقافي وتصحيح الثقافة؛ لأن التغيير الثقافي هو أرضية كل تغيير اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي، فكل تغيير يحتاج إلى تغير في الرؤية. فمخطئ من يعتقد أن الإصلاح في أي مجال من المجالات يمكن أن يكون دون أن تكون له أرضية وأساس على مستوى التغيير الثقافي.
من هذا المنطلق صار الواجب على المؤمنين كأفراد وعلى مستوى التجمعات الإيمانية أن يحملوا على عاتقهم مسؤولية بث الوعي ونشر الثقافة الإسلامية الصحيحة بين أفراد الأمة. وفي هذا المجال ينبغي ألا يكتفي المشتغلون بالنشاط الثقافي بالمقدار الأدنى من نشر الوعي، بل لا بد أن يكون طموحهم عالياً؛ بأن يُحاولوا أن يُسمعوا صوتهم كل فرد على هذه المعمورة بشتى الوسائل الإعلامية الممكنة، وأن لا يستهينوا بهذه القضية ويعتبروها من الهامشيات بل هي من الأساسيات.
ومن نفس المنطلق أيضاً، صار لزاماً على كل المسلمين أن يتعلموا الدين كل الدين، وليس جزءً دون جزء، فالأحكام والثقافة والعقائد والأخلاق كل ذلك من الدين، فينبغي على الإنسان المسلم أن يتعلم الثقافة الإسلامية كما يتعلم الفقه الإسلامي والعقائد الإسلامية. من هنا ترى النصوص الإسلامية تترى في وجوب طلب العلم، ففي الحديث عن رسول الله أنه قال: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة))[2] وعن الإمام الصادق أنه قال: (لوددت أن أصحابي ضُربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا)[3] والتفقه يعني التفهم وأحد جزئياته فهم الحياة، وهكذا جاء في الحديث (مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء)؛ لأن القلم واللسان هما اللذان يحركان الناس نحو الجهاد والقتال وهما اللذان يحافظان على مكتسبات الجهاد والقتال، ولا ريب أن الكلمة التي تصدر من العالم تختلف في الحجم والتأثير عن الكلمة التي تصدر من غيره، وكذلك الحركة التي يقوم بها العالم تختلف في الحجم والتأثير لو قام بها غيره.
- الثقافة الإسلامية من الله
والله -سبحانه وتعالى- عندما خلق الإنسان وزوده بنور العقل لم يتركه من دون دليل يتخبط في دهاليز المناهج الفكرية المتناقضة، والثقافات المتصارعة، بل بين له الهدى، ولم يكتفِ بذلك، بل فصل له الهدى تفصيلاً في القرآن الكريم على شكل بصائر . فإذا كان عقل الإنسان بمثابة العين التي ترى فهو أداة الرؤيا، فإن البصائر بمثابة النور الذي لولاه لما تمكنت العين من الرؤيا.
إذن لكي يرى الإنسان الخارج يحتاج إلى عنصرين: أداة الرؤية وهي العين، ونور ينعكس على عينه، وكذلك الإنسان لكي يبصر الواقع يحتاج إلى عنصرين: أداة الإبصار وهي العقل، ونور ينعكس على العقل وهي البصائر، أو بمعنى آخر الثقافة؛ لأن الكلمة التي ترادف الثقافة في القرآن الكريم هي البصائر، بينما التي ترادف الفلسفة هي الهدى.
إن ما يحتاجه الإنسان في هذه الحياة هو المنظار السليم الذي من خلاله يبصر الأشياء كما هي على حقيقتها بدون زيادة أو نقيصة أو تحريف أو تزييف، وهذا ما يتكفل به القرآن الكريم، وهو -في الحقيقة- دور الثقافة، يقول تعالى: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾ [4] .
فالذي يتبع هدى الله بحكم الوعد الإلهي لا يضل -والضلال بمعنى الانحراف- ولا يشقى -والشقاء بمعنى التعب-؛ لأن التعب والشقاء نتيجة طبيعية للضلال والانحراف، فالمتبع لهدى الله يبقى دائما سائراً على الطريق الصحيح والصراط المستقيم فلا يتطرق إليه الشقاء، نعم من يعرض عن ذكر الله وبالتالي لا يتبع منهج الله يعيش في ضيق، فهو لا يعرف بالضبط ما يصلحه وما يفسده، فترى الإنسان يسعى جاهدا من أجل الحصول على شيء فيه مضرته وهو يعتقد أن مصلحته فيه، وهكذا ترى الإنسان يبتعد عن أشياء يزعم أن فيها مضرته بينما كل المصلحة في التزامها والشواهد على ذلك كثيرة جداً.
- دور الثقافة المسؤولة
وكما حاضر الإنسان كذلك مستقبله رهين منهجية الإنسان في التفكير، وهذه المنهجية هي أهم ما ينبغي أن يغيره الإنسان في نفسه. فينبغي أن يغير الإنسان ثقافة التبرير، وثقافة الأماني والتمني، والثقافة الاتكالية، وكافة الثقافات غير المسؤولة إذا أراد أن يبني مستقبلاً مشرقاً.
إن من أهم الركائز التي يرتكز عليها الفكر الإسلامي هي ركيزة المسؤولية، ومن أهم الخصائص للثقافة الإسلامية أنها ثقافة مسؤولة تحمل الإنسان المسؤولية؛ لأن هذه الثقافة هي ثقافة إلهية من عند خالق البشر، الذي خلق الإنسان وجعلها مسؤولاً، فالإنسان كائن مسؤول، لذلك هو يحتاج إلى ثقافة تناسب طبيعة خلقه وتكوينه وهي الثقافة المسؤولة.
فهناك نوعان من الفكر؛ فكر مسؤول يحملك المسؤولية ويرفعك إلى مستوى العطاء والتصدي، وفكر يكرس فيك حالة الخمول والتردد والتراجع، ويضع على قلبك الأغلال والقيود.
(وللأسف فإننا نلقي عادة مجموعة من مسؤولياتنا على عاتق غيرنا ، فنقف مكتوفي الأيدي إزاء الأحداث التي تجري في مجتمعنا، ونوزع الاتهامات يمينا ويسارا ، في حين أن النبي يؤكد قائلا: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) [5] .
وهذه المنهجية المغلوطة هي منهجية التفكير الذي يبعث على الخمول واللامسؤولية ، وهذه المنهجية هي المسؤولة عن واقعنا المتردي، وإذا لم نبادر إلى تغييرها فان واقعنا لا يمكن أن يتغير، فالإنسان يحمل في داخله نورا إلهيا هو نور الإرادة، وبهذه الإرادة يستطيع أن يتحدى كل ما من شأنه أن يقيّده ويحدّ من حركته، وبهذه الإرادة كان إنسانا، وبها حمل الأمانة الكبرى، وعلى ضوئها يسأله اللـه -تعالى-، فيثيبه أو يعاقبه)[6] .
ونحن كثيرا ما نرى القرآن الكريم يتعرض لمشاكل الإنسان النفسية بالتشخيص والعلاج. لماذا؟ لأن مشاكل الإنسان النفسية هي السبب في مشاكله الثقافية، والتي بدورها السبب في بقية مشاكله، فمثلاً حينما يريد أن يعالج القرآن الكريم مشكلة هروب الإنسان من تحمل المسؤولية نراه يركز على الجانب النفسي للمشكلة، يقول تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾[7] فإرادة الفجور أحد الجذور النفسية التي تمنع الإنسان من تحمل المسؤولية، ويقول تعالى:﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [8] .
دور العلماء في تطبيق القيم
الخطبة الثانية 14 ربيع الثاني 1430هـ
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإن التقوى هي سبيل الإنسان لإتباع الهدى الإلهي. فإن الله سبحانه قد تكفل ببيان الهدى من خلال الأنبياء والأوصياء، ومن خلال القيادات الرسالية التي تبلغ تعاليم الوحي. والتقوى هي الزاد الذي يمكن الإنسان من الانتفاع بالهدي الإلهي ومن تطبيق قيم الرسالة. ولو نظرنا إلى الواقع الخارجي لوجدنا أن التقوى هي العامل الحاسم الذي من خلاله يتمايز البشر في إتباعهم للوحي. فالذي يمتلك التقوى هو الذي يتحمل مسؤولية تجسيد القيم الرسالية مهما كانت التكاليف.
إن الله سبحانه لم يرسل الرسل ولم يبعث الأنبياء لمجرد بيان الوحي وتبليغ رسالة الله، وإنما جعل الله سبحانه من مسؤولياتهم الأساسية إصلاح الواقع والسعي من أجل تطبيق قيم الرسالة على واقع الأرض. وهذه المسؤولية أصعب مسؤوليات الأنبياء والرسل، لما فيها من مواجهة ولما فيها من تصادم مع أصحاب المصالح. وهذه المسؤولية لم تلغَ بعد ختم النبوة، وإنما هي تنتقل إلى العلماء الربانيين الصادقين، الذين يتحملون مسؤوليتهم في الإصلاح وإحقاق الحق.
يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ*وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾.[9]
إن مسؤولية الأنبياء والرسل هو بيان الحق والهدى، وتجسيد القيم الرسالية في واقع الأرض من خلال الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم يبينون الإطار العام للشريعة ويبينون القيم والبصائر الإلهية، كما يبنون الحق والهدى في المتغيرات والوقائع الخارجية ويسعون في تطبيقه. وهذه مسؤولية العلماء- والتي هي امتداد لمسؤولية الأنبياء- وهي بيان الحق والهدى بشكل عام للناس، كما هو بيانه في الأحداث والوقائع الخارجية. فدور العلماء يتمثل في البيان والتبليغ واتخاذ الموقف العملي في الأحداث والمتغيرات وفقاً لقيم الرسالة. وهذا هو الإصلاح.
ودور الناس هو في الاستجابة إلى هذا الحق وهذا الهدى، والذي يستجيب إلى حركة العلماء الربانيين وما فيها من صلاح وما فيها من هدى فإنما يهتدي لنفسه، وهكذا المجتمع الذي يستجيب لحركة القيادات الرسالية هو الذي يهتدي إلى الصلاح والتغيير، وهو الذي يحظى بالخير والصلاح. فالمجتمعات التي تقبل الحق الذي تبينه القيادة الرسالية هي المستفيد الأول، لأن الخير كل الخير في إقامة الهدي الإلهي وتجسيد القيم الرسالية التي بها صلاح الواقع، والشر كل الشر في تغييب القيم الرسالية وخذلان القيادات الرسالية التي تعمل من أجل الإصلاح. فالمجتمعات التي تضيع قياداتها وتضل عن قيم الرسالة فهي التي تحمل وزر مواقفها اللامسؤولة، وهي من سيذوق مرارة الظلم والاستعباد، يقول تعالى: ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ﴾.
والقيادات الرسالية ليست وكيلة عن المجتمع، ولا هي تتحمل أوزار مواقفه، أو أن تتحمل مسؤولية حمله على طاعة الله أو الجهاد في سبيله، فمسؤوليتها الوحيدة هي بيان الهدي الإلهي وبيان الحق في كل موقف من المواقف.
إن القيادة الرسالية لا تتحرك من خلال الأهواء والشهوات، ولا من خلال المصالح والمكاسب، وإنما تتحرك من خلال الوحي. فالقيادة الرسالية لا تأمر الناس بشيء لا تأتمر به، وإنما هي أول من يبادر لتطبيق قيم الرسالة، وهي أول من يتبع تعاليم السماء ويطبقها في الواقع الخارجي. فبصائر الوحي وقيم الرسالة ليست مجرد شعارات نترنم بها، وإنما لا بد أن تتحول إلى واقع وسلوك.
وهذا هو الفارق بين العلماء الربانيين الذين يقودون الواقع، وبين غيرهم. القيادات لا تطرح مجرد شعارات وإنما هي تتبع الوحي وتطبقه على واقعها، ثم بعد ذلك تأمر الناس بإتباعها. ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾.
فالوحي يوكل إلى القيادة الرسالية مسؤولية تحقيق الإصلاح الجذري والتغيير الشامل من خلال الدعوة إلى الإصلاح والأمر بالعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن نتيجة الحركة التي تبديها القيادة الرسالية رهينة مجموعة من المعادلات السياسية والاجتماعية في الواقع الخارجي، فالمجتمع قد لا يتفاعل مع القيادة الرسالية بالشكل المطلوب، أو قد لا يؤدي الدور الموكل إليه، هنا وظيفة القيادة الرسالية ووظيفة كل من يؤمن بمنهج القيادة (منهج القيم) أن يلزم إتباع منهج الوحي مهما كانت الظروف (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) وأن يتحلوا بالصبر على هذا المنهج، لأن الثبات على قيم الرسالة أمرٌ صعب ويحتاج إلى صبر، فوظيفة القيادة ومن يؤمن بمنهج القيادة أن يصبروا على منهجهم الحق، حتى لو لم يحققوا كل ما يتطلعون إليه، لكن الدعوة للحق والأمر بالعدل بحد ذاته عملٌ صالح وتكريس هذا المنهج في الواقع الخارجي هو مكسبٌ للمؤمنين، وعلى الجميع أن يصبر حتى يأتي الحكم الإلهي.
- فئات تحرض الناس لترك القيادة الرسالية!
يقول تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ﴾ [10] . ولا شك أن هناك فئات لا يعجبها إتباع القيادات الرسالية، لأن منهج القيادة الرسالية قد يتعارض مع مصالحها وقد يسبب صراع ومواجهات مع الظالمين والمفسدين، ولهذا هم يدفعون الناس لترك القيادات الرسالية وحيدة، فإذا اتبعتم أمر القيادة الرسالية فسوف تخسرون، ومنهج هذه القيادة يضيع عليكم مصالحكم و....و...
- وما أريكم إلا ما أرى
هناك بعض الجهات دائماً وأبدا تحاول الاستفراد بالرؤية، فتريد أن تحرك العباد من خلال رؤيتها. فرعون كان دائماً ما يفرض على شعبه رؤية واحدة اتجاه الواقع، رؤية واحدة اتجاه الأشخاص. يقول تعالى:﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ*إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ [11] . ففرعون كان يفرض رؤيته على الملأ وعلى كل من يدينون بسلطانه ويخضعون له، وفرعون يتحرك من خلال المصالح لا من خلال الحق. ولهذا فإن الملأ الذين يسبحون ويحمدون بسلطان فرعون ويتملقون إليه، سوف يسيرون وفق آرائه، لأن مخالفتهم رأي فرعون سوف تدفعهم ثمناً لا يتمكنون من دفعه. ولهذا فإن كل من يأتي بآراء تخالف مصالح فرعون، فإن فرعون سوف يستخدم أسلوب القوة.
قال تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ فحينما يدعو نبي الله موسى إلى الحق، يأتي فرعون ويستخدم لغة التهديد، و تزوير الحقائق، فحينما نترك موسى لوحده في الساحة سوف يبدل دينكم ويغير ثقافتكم ويستبدلها بثقافة تسبب الفساد، ثقافة تهدد فرعون. فحينما أحس فرعون بخطورة نبي الله عليه السلام، وبتأثير حركته الرسالية حاول أن يفصل بين موسى وبين الجماهير، من خلال التصفية الجسدية ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ* وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَاد﴾[12]
للإستماع للخطبة يمكنكم تحميلها عبر الرابط التالي
الخطبة الأولىhttp://www.mediafire.com/?ho3tmv2yznu
خطبة الثانية
http://www.mediafire.com/?nfnycjmdgme