من سيربح الدقيقة؟

أحمد عبد الرحيم الحي *

لقد ربى الرسول الأعظم أمته على طلب الرقي، وأرشدها إلى طرق العظمة، وأورثها مفاتيح النهضة. فقد جاء بالإسلام النهضوي التوعوي المتقدم، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضياع إلى الهدى. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فلماذا نرى حال المسلمين اليوم يعج بالمشاكل والتخلف والظلمات المختلفة؟

الجواب واضح لكل متأمل، وهو أن الأمة خالفت هذا النهج القويم وابتعدت عنه كثيراً حتى صارت لا تكاد تبصر الكثير من معالمه وتعاليمه لبعد المسافة بينها وبينه، فأضحت الكثير من التعاليم الإسلامية عموما والمحمدية خصوصاً ليست مغيبة عن واقع المسلمين فحسب بل ومجهولة أصلا عند أغلب المسلمين ولم يسمعوا بها يوما رغم كثرة وسائلهم الإعلامية. ومن هذه التعاليم المحمدية المغيبة عن الحياة العملية للمسلمين والمجهولة ربما لدى الكثير منهم هي أهمية الوقت.

لقد ساهم غياب هذه القضية عن قائمة أولوليات المسلمين وعاداتهم اليومية في تخلف هذه الأمة وتراجعها للوراء سواء على مستوى الأشخاص أو المجتمعات أو الدول. كما أن اهتمام الأفراد والدول في العالم الغربي باستغلال كل دقيقة، ساهم في تقدم حضارتهم وتفوقها وازدهارها أكثر فأكثر. ولا حل للمسلمين اليوم سواء كانوا أفرادا أو حكومات إلا الرجوع للنهج المحمدي الأصيل، واستخراج درره الثمينة، وتعاليمه الراقية الخالية من نواقص وآفات المناهج البشرية لمعالجة هذا التخلف المزمن.

• جرب بنفسك واحرص على وقتك لهذا الحد:

قال رسول اللهفي وصيته التاريخية للصحابي الجليل أبي ذر الغفاري(رضوان الله تعالى عليه): "كن على عمرك أشح منك على درهمك ودينارك" . والشح هو: البخل مع حرص .
هذه الوصية قد لا يدرك البعض معناها الحقيقي إلا إذا حاول تطبيقها عمليًا. ولنعمل الآن تجربة عملية صغيرة لتشعر -عزيزي القاريء- بمستوى حفظ الوقت الذي يوصيك به رسول الله، ولنطلق عليها "المال مقابل الوقت".

خذ على نفسك عهدًا أن تدفع مقابل كل دقيقة تخسرها مقدارًا معينا من المال بأن تدفعه كتبرع أو لأحد الأشخاص مثلاً. فإذا تكلمت في الهاتف لمدة ربع ساعة وكان ذلك الكلام لا فائدة حقيقية منه فإنك تدفع المبلغ الذي حددته مقابل كل دقيقة من هذه الدقائق الخمسة عشر. وإذا كنت ترى أن هذا الشخص عزيز عليك،وأنه يستحق أكثر من هذه الدقائق، فهل ستسمح لك نفسك أن تدفع ما يساويها عدديا من المال إليه في كل مرة يطلب منك المال عندما تمضيان الوقت من غير فائدة؟

 اصنع هذا الصنيع مع كل دقيقة تضيع من وقتك دون فائدة لمدة يوم واحد، وفي نهاية اليوم احسب مقدار المال الذي يتوجب عليك خسارته. هل تستطيع أن تتحمل هذه الخسائر المادية يوميا؟ ولكم من الزمن تستطيع مواصلة الخسارة؟ إذا كنا لا نطيق أن نخسر أموالاً زائلة مقابل وقتنا الضائع، فكيف نطيق خسارة أعمارنا؟

الرسول المصطفى يدعونا لأن نحرص على أوقاتنا أكثر من حرصنا على أموالنا، لأن المال يعوض والعمر لا يعوض ولا يقدر بثمن. فهل عرفت بعد هذه التجربة، وبعد التأمل في الحديث الشريف، قيمة كل دقيقة من عمرك؟

وأريد هنا أن أشير إلى نقطة لطيفة، وهي أن من مظاهر اهتمام الحضارة الغربية بالوقت في هذا العصر هو إدخال التعديلات على سلوكياتها وعاداتها لاستغلال كل لحظة من لحظاته، ومن ذلك المثل الشهير الذي يتبادله الغربيون اليوم لتبيين أهمية الوقت وهو “Time is money”  أو "الوقت مال"، وهذا المثل يقابله هذا الحديث النبوي العظيم، بل إن رسول الله كان أدق –إن افترضنا جواز المقارنة- حيث لم يقرن الوقت بالمال، بل قدم الوقت على المال. ولكن مرة أخرى، يسبقنا غيرنا لتطبيق تعاليم الإسلام ورؤاه الحضارية للأسف الشديد.

• بين الهدي النبوي وواقعنا اليوم:

عندما تمسك القلم وتراجع تفاصيل حياتك اليومية، وتجري العمليات الحسابية لمعرفة أين تصرف أوقاتك، فإني أضمن لك أنك ستصاب بالذهول الشديد. فإذا قدرنا أنك ستعيش حتى تبلغ الستين عاماً –وهو ما لا يبلغه الكثير من الناس اليوم-، فاحسب عدد الساعات التي تمضيها أمام التلفاز، وعدد الساعات التي تقضيها في النوم، والأوقات التي تمر على الهاتف وبين الأصدقاء، وغيرها من النشاطات الاعتيادية، واجمع الساعات في كل فئة على حدة، وعندها ستعرف أنك تمضي سنينا كثيرة وليس مجرد ساعات أو أيام أكثر مما تقتضيه الحاجة في مثل هذه الأمور وغيرها.

ولتوضيح الصورة نضرب مثالا بسيطاً حول مدة النوم. فإذا فرضنا أننا ننام في اليوم لمدة 8 ساعات فقط، وأننا سنعيش حتى نبلغ سن الستين، فكم نكون قد أمضينا من عمرنا في النوم؟

 
سنعرض الإجابة على هذا السؤال بالطريقة الرياضية المفصلة -رغم وجود الطريقة المختصرة وذلك لإعطاء المسألة حجمها الذي تستحقه- :

 8 ساعات يوميا * 354 يوما في العام= 2832 ساعة في العام، وهو ما يعادل 118 يومًا!!

2832 ساعة في العام * 60 عامًا= 169920 ساعة في العمر، وهو ما يعادل 7080 يوماً أو 20 عامًا تماماً!!!

وبكلمة أوضح، نحن نمضي ثلث عمرنا في النوم!! لا أحد يقول بأن النوم غير ضروري، ولكن هل يصح أن نفقد ثلث عمرنا عملياً في النوم؟! إذا كنا نضيع هذا المقدار في النوم، فماذا عن أوقاتنا الضائعة الأخرى؟؟

وفي نهاية عمرنا، كم سنكون استغلينا من عمرنا بشكل صحيح يفيدنا في دنيانا وأخرانا؟ أعتقد أن الكثير منا لا يستفيدون من أعمارهم إلا أعوامًا قليلة جدًا. 
واسأل نفسك سؤالاً آخر، ماذا لو مت هذا العام؟ كم سأكون قد استغليت من عمري؟

• هلا استيقظنا؟

الكثير من الشباب يقولون: لماذا أحرص على وقتي وأنظمه ولا أتصرف فيه بأي طريقة تعجبني؟ ما زلت في مقتبل العمر، والأيام أمامي، فلماذا لا أسرح وأمرح بدون إعطاء أية أهمية للوقت؟

فهل أعطى الله هؤلاء الأخوة الأعزاء ضمانة بأن لا يموتوا حتى ينتهوا من لهوهم ويتفرغوا للأعمال الجادة؟

ولو فرضنا أنه لديهم الضمان بذلك، فهل سيعود الوقت الذي ضاع في العبث؟ ففي كل الأحوال هناك خسارة للوقت، لأن من صفات الزمن أنه إذا مضى لا يعود أبدا.

الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم يوبخ من يبلغ سن الثامنة عشر بقوله: "ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل، أو لم "نعمركم" ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير" كما جاء عن الإمام الصادق ، ونحن نريد أن ننام أكثر من عشرين عامًا ونقول مازلنا صغارًا!!

لا بد لنا من أن نستيقظ من هذا السبات، ونتذكر أننا في أشد الحاجة لكل لحظة من هذا العمر لتعمير دنيانا وآخرتنا.

تخيل أنك على متن طائرة، وأثناء التحليق على مستوى مرتفع، أصاب الطائرة عطل وبدأت بالسقوط بشكل عمودي، كيف ستشعر حينها حيال كل دقيقة بل كل ثانية يحاول فيها الطاقم إصلاح الخلل؟ 

تخيل أنك وسط غرفتك وقد أحاطت بك النيران من كل جانب ولا تستطيع الخروج وأنك تنتظر من يأتي لينقذك في أية لحظة، ألم تكن لتشعر بأن لكل لحظة إضافية تعيشها أهمية كبرى لنجاتك من الموت المحدق بك؟

 في مثل هذه المواقف، الدقيقة الواحدة تشكل فارقا كبيرا. فأشد موقف يقدر الإنسان فيه الوقت ويتحسر على كل لحظة ضاعت هدرًا، هي عندما يواجه الموت. فكيف بك عندما يفوت الأوان، وينتهي عمرك، حين لا ينفع ندم؟

دعنا نتأمل مليا هذا الموقف المحتوم لكل منا..فبينما أنت جالس بين الأهل والأصحاب تشاهد التلفاز أو تتبادل أطراف الحديث أو منفردا في تحقيق رغباتك، وإذا بعقارب الساعة تتوقف، ويتجمد الزمن، ويسود صمت غريب، ويتجلى لك ملك الموت، وتصبح من الذين أخذوا على حين غرة و"ازداد الموت فيهم ولوجاً، فحيل بين أحدهم وبين منطقه، وإنه لبين أهله ينظر ببصره ويسمع بإذنه، على صحة من عقله وبقاء من لبه، يفكر فيم أفنى عمره، وفيم أذهب دهره"  . ألن تتمنى أن يمد الله في عمرك ولو ساعة واحدة لتعمل بعض الأمور التي أهملتها؟

والآن فلنعتبر أننا وصلنا لتلك اللحظة وأن الله تعالى أعطانا سويعات إضافية، فهل نتصرف فيها كيفما اتفق ونهدر أكثرها في العبث والأمور غير المهمة، أم نعتصر كل جزء من أجزائها فيما ينفعنا ويقدمنا؟ فمن منا يعرف كم بقي من عمره، وهل يعيش لدقيقة إضافية أم لا؟ بل من منا يعلم هل ينزل نفسه الصاعد في هذه اللحظة أم لا؟ إن كل نفس من أنفاسنا هو فرصة ذهبية لا تعوض،ولا ينغي لنا إضاعتها بدون مردود مقبول.  يقول أمير المؤمنين: " لا يعرف قدر ما بقي من عمره إلا نبي أو صديق" .

فلنجعل لحياتنا قيمة، ولمماتنا معنى باستغلال كل لحظة نعيشها من الآن وصاعدًا. ولنعتبر أننا في مسابقة مع الزمن، وأن النتيجة مصيرية بالنسبة لنا فأما المكافأة اللامحدودة وأما العقوبة اللامحدودة، ولكن المشكلة أننا لا نعلم متى تنتهي هذه المسابقة وتفرز النتيجة. كل دقيقة من حياتنا تمثل نقطة في هذه المسابقة، ونحن في كل دقيقة أمام احتمالين: إما الربح أو الخسارة. فكلما ربحنا دقيقة زاد احتمال فوزنا في هذه المسابقة، والعكس بالعكس. فكيف سنعمل في هذا الموقف؟

ألن يكون التحدي الأكبر، والسؤال الذي نعتبره قضيتنا الأولى في الحياة، ولا يهدأ لنا بال قبل أن نعرف إجابته هو: من سيربح هذه الدقيقة؟

• من هدي الكتاب والسنة:

- قال تعالى: ﴿ والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر .

- قال رسول الله: "إن العمر محدود لن يتجاوز أحد ما قدر له، فبادروا قبل نفاد الأجل" .

- قال الإمام علي: "إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذ منهما" .

- روي عن رسول الله: "يفتح للعبد يوم القيامة على كل يوم من أيام عمره أربعة وعشرون خزانة عدد ساعات الليل والنهار، فخزانة يجدها مملوءة نورا وسرورا فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور ما لو وزع على أهل النار لأدهشهم عن الإحساس بألم النار، وهي الساعة التي أطاع فيها ربه.

 ثم يفتح له خزانة أخرى فيراها مظلمة منتنة مفزعة فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو قسم على أهل الجنة لنغص عليهم نعيمها، وهي الساعة التي عصى فيها ربه.
 ثم يفتح له خزانة أخرى فيراها فارغة ليس فيها ما يسره ولا ما  يسوؤه، وهي الساعة التي نام فيها أو اشتغل فيها بشيء من مباحات الدنيا، فيناله من الغبن والأسف على فواتها -حيث كان متمكناً من أن يملأها حسنات- ما لا يوصف، ومن هذا قوله تعالى: ) ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ)" .

- وعن أمير المؤمنين: "اعلم أن الدنيا دار بلية لم يفرغ صاحبها فيها قط ساعة إلا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة" .

- وعنه: "من اشتغل بغير المهم ضيع الأهم" .

- وعنه أيضا:"اشتغال النفس بما لا يصحبها بعد الموت من أكثر الوهن" .

 

صفوى