الإمام الرضا والحوار الهادف
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ* يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ* هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ سورة آل عمران.
جمع أصحاب المقالات، وزعماء الديانات، اليهودية والنصرانية والزرادشتية، وطلب منهم أن يناظروا عالم آل محمد، كان يظن أنه بذلك يقلل من شأنه إن تمكنوا من رد برهانه وإدحاض حجته، ولذا أدخل معهم رؤوس أهل البدع والزندقة، وهؤلاء " خِلافُ الْعُلَمَاءِ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَالِمَ لا يُنْكِرُ غَيْرَ الْمُنْكَرِ وَأَصْحَابُ الْمَقَالاتِ وَالْمُتَكَلِّمُونَ وَأَهْلُ الشِّرْكِ أَصْحَابُ إِنْكَارٍ وَمُبَاهَتَةٍ إِنِ احْتَجَجْتَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ قَالُوا صَحِّحْ وَحْدَانِيَّتَهُ وَإِنْ قُلْتَ إِنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ قَالُوا أَثْبِتْ رِسَالَتَهُ ثُمَّ يُبَاهِتُونَ الرَّجُلَ وَهُوَ يُبْطِلُ عَلَيْهِمْ بِحُجَّتِهِ وَيُغَالِطُونَهُ حَتَّى يَتْرُكَ قَوْلَهُ".(1)
لم يكن هذا الأمر هو الفعل الوحيد الذي أقدم عليه المأمون فمع التصدع الذي حل بالعباسيين بعد الرشيد وما تلاه من صراع مرير داخل العائلة الحاكمة على السلطة والذي أدى إلى مقتل الأمين على يد رجالات وأنصار أخيه المأمون!!.
ومع أن الأمر حسم عسكريا لصالح المأمون إلا أن الاضطرابات في نواح عدة أخذت في الاتساع فالجناح المهزوم في البيت العباسي حاول إعادة الأمور لصالحه فنزع المأمون في بغداد وبايع عمه إبراهيم، ورفعوا راية العروبة باعتبار الأمين ابن العربية في مقابل المأمون ابن الفارسية، وهذا هو الذي دفع المأمون لاتخاذ خراسان عاصمة للدولة الإسلامية.
وفي مقابل جناحي السلطة تنامى وعي الأمة وتصاعدت قدرة المؤمنين في الفعل والفاعلية على مستوى الأمة، ومجابهة ردات الفعل المتوقعة من قبل السلطة، وتعالت مكانة رموزهم بين أبناء الأمة.
وبين هذا وذاك الطامعين والطامحين في الاستيلاء على السلطة أو بعضا منها.
أمام كل ذلك اتخذ المأمون لتثبيت أركان سلطته المهزوزة عدة خطوات من أهمها:
- أولا: الترجمة
الانفتاح على العلوم والاستفادة من التجربة البشرية أمر جيد ومحمود بل قد يكون واجبا ومطلوبا، ولكن هذا الأمر كغيره من الأمور المستحدثة يجب أن نخضعها إلى ضوابط الشرع والمصلحة العامة فما كان منها في دائرة الإباحة والجواز ولم تتعارض مع قيم الدين وأحكامه، وميزان المصلحة فعلينا إنفاذ أمرها وتشجيعها. أما إذا لم تكن كذلك فالمضي فيها وتسهيل أمرها وصرف الأموال من بيت المال من أجلها أمر مشين ينبأ عن خيانة الحاكم لما ائتمن عليه.
والمأمون " أمر بترجمة الكتب الأجنبية القديمة، وبذلك أصبحت سياسة سن القوانين، وطريقة إدارة الدولة، تعتمد أساسا على القواعد غير الإسلامية، فأنشأ في خراسان ونيسابور وغيرها من المناطق دورا للترجمة، وأخذ يصرف عليها الأموال الطائلة".(2)
ويروي ابن النديم أن المأمون كانت بينه وبين ملك الروم مراسلات، وقد استظهر عليه المأمون فكتب إليه يسأله الإذن في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة المدخرة ببلاد الروم فأجابه إلى ذلك بعد امتناع، فأوفد المأمون لذلك جماعة منهم الحجاج بن مطر وابن البطريق، وسلم صاحب ( بيت الحكمة ) وغيرهم فأخذوا مما وجدوا فلما حملوها إليه أمر بنقلها فنقلت إلى ( دار الحكمة ). (3)
ويمكن معرفة الأسباب والدوافع من توجه المأمون نحو الترجمة من خلال بعض الكتب الفارسية وغيرها التي تمت ترجمتها مثل كتاب ( صلاح مملكت خويش .. خسروان دانند ) أي ( الحكم لا يعرف أصوله إلا الكبار) والمقصود بالكبار هم من على رأس السلطة!، وكتاب ( الله في السماء والشاهنشاه في الأرض ) وغيرهما من الكتب التي تبث ثقافة الخضوع والاستسلام والطاعة للحاكم باعتباره حاكما وبغض النظر عن القواعد المعتمدة في الشرع الإسلامي الحنيف.
- ثانيا: تقريب العلويين
العلويون هم الدائرة الأقرب إلى الرسالة نظرا لقربهم من رسول الله ولما نص عليه الكتاب والسنة من وجوب احترامهم وتقديرهم حتى عد ذلك أجرا للرسالة.
قال تعالى﴿ ... قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ... ﴾ سورة الشورى.
وروي عن رسول الله أنه قال: ( لَوْ أَنَّ عَبْداً عَبَدَ اللَّهَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَلْفَ عَامٍ ثُمَّ أَلْفَ عَامٍ ثُمَّ أَلْفَ عَامٍ حَتَّى يَصِيرَ كَالشَّنِّ الْبَالِي ثُمَّ لَمْ يُدْرِكْ مَحَبَّتَنَا أَكَبَّهُ اللَّهُ عَلَى مَنْخِرَيْهِ فِي النَّارِ ثُمَّ تَلا: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). (4)
وقال أمير المؤمنين : ( فِينَا فِي آلِ حم آيَةٌ لا يَحْفَظُ مَوَدَّتَنَا إِلا كُلُّ مُؤْمِنٍ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ). (5)
وإذا كانت المودة لجميع الآل مطلوبة فالتمسك والإقتداء بمن نُصَّ عليهم تكون في المقدمة، ولدفع اللبس والإشتباه عن هذا الأمر فقد تظافرت النصوص إلى حد التواتر بما يؤكد على وجوب التمسك بهم.
قال رسول الله : ( إِنِّي مُسْتَخْلِفٌ فِيكُمْ خَلِيفَتَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ ). (6)
وأهل البيت وإن تعرضوا للتنكيل والتشريد والتعذيب إلا أن دمائهم الزاكيات وآلامهم وصمودهم أمام كل ألوان العذاب هذه، ومقاومتهم لكل أنواع الظلم ولكل الظالمين رفع من مستوى وعي الأمة ودفعها للاصطفاف والتصدي لمقاومة الظلم والظالمين تحت راية الرساليين والانقياد لأبناء الرسول ، مما جعلهم رقما صعبا في واقع الأمة يصعب على الحكام تجاوزهم وخصوصا مع شيوع حالة الاضطراب بين أبناء الأمة.
من هنا يمكن لنا فهم التقرب الذي أبداه المأمون العباسي للإمام الرضا والذي تمظهر برغبة المأمون في التخلي عن الخلافة وتسليمها للإمام الرضا .
قال المأمون العباسي مخاطبا الإمام الرضا : إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَعْزِلَ نَفْسِي عَنِ الْخِلافَةِ وَأَجْعَلَهَا لَكَ وَأُبَايِعَكَ.
وللوقوف على حقيقة ما يخطط له المأمون أجابه الإمام : (إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْخِلافَةُ لَكَ وَجَعَلَهَا اللَّهُ لَكَ فَلا يَجُوزُ أَنْ تَخْلَعَ لِبَاساً أَلْبَسَكَهُ اللَّهُ وَتَجْعَلَهُ لِغَيْرِكَ وَإِنْ كَانَتِ الْخِلافَةُ لَيْسَتْ لَكَ فَلا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَجْعَلَ لِي مَا لَيْسَ لَكَ).
وانتهى الأمر بافتضاح النوايا وقبل الإمام تحت التهديد والوعيد بولاية العهد بشروط قالها : (أَقْبَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنِّي لا أُوَلِّي أَحَداً وَلا أَعْزِلُ أَحَداً وَلا أَنْقُضُ رَسْماً وَلا سُنَّةً وَأَكُونُ فِي الأَمْرِ مِنْ بَعِيدٍ مُشِيراً). (7)
واستمر المأمون في نهجه مبتغيا الإقلال من شأن الإمام فجمع لمناظرته ذوي القدرة والكفاءة في العلم والجدل والفلسفة من مختلف الديانات، وبعث إلى الإمام يخبره بموعد المناظرة تاركا له قبول الدخول فيها أو رفضها، فقال له الحسن بن محمد النوفلي: احْذَرْهُمْ جُعِلْتُ فِدَاكَ. فَتَبَسَّمَ ثُمَّ قَالَ: ( يَا نَوْفَلِيُّ أَفَتَخَافُ أَنْ يَقْطَعُونِي عَلَيَّ حُجَّتِي، يَا نَوْفَلِيُّ أَتُحِبُّ أَنْ تَعْلَمَ مَتَى يَنْدَمُ الْمَأْمُونُ؟ إِذَا سَمِعَ احْتِجَاجِي عَلَى أَهْلِ التَّوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِمْ وَعَلَى أَهْلِ الْإِنْجِيلِ بِإِنْجِيلِهِمْ وَعَلَى أَهْلِ الزَّبُورِ بِزَبُورِهِمْ وَعَلَى الصَّابِئِينَ بِعِبْرَانِيَّتِهِمْ وَعَلَى الْهَرَابِذَةِ بِفَارِسِيَّتِهِمْ وَعَلَى أَهْلِ الرُّومِ بِرُومِيَّتِهِمْ وَعَلَى أَصْحَابِ الْمَقَالاتِ بِلُغَاتِهِمْ فَإِذَا قَطَعْتُ كُلَّ صِنْفٍ وَدَحَضَتْ حُجَّتُهُ وَتَرَكَ مَقَالَتَهُ وَرَجَعَ إِلَى قَوْلِي عَلِمَ الْمَأْمُونُ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي هُوَ بِسَبِيلِهِ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ لَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَكُونُ النَّدَامَةُ مِنْهُ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ). (8)
وبهذه الكلمات أراد الإمام أن يفوت الفرصة على المأمون من أن ينال من مقام الإمامة الشامخ، وأراد من خلال المناظرة أن يبين الأسس التي ينبغي أن يرتكز عليها الحوار الهادف، والتي يمكن تلخيصها في الآتي:
أولا: الإيمان بالحوار
ربما يُقدم على الحوار من لا يؤمن به ولا يرتضي نتائجه وإذا ما أقدم يوما فإنه يقدم من منطلق الضعف أو الإكراه أو الاضطرار، ومتى ما ارتفع أي منها فإنه يكون أول الكافرين به، ولعل المشكلة الحقيقية ليست هنا وإنما هي في مكان آخر فإذا ما عولجت انعكس ذلك الحل إيجابا على القبول بالآخر والاعتراف به وبالتالي الحوار معه، وإذا ما تركت وأهملت فإنها وإن غابت لظروف معينة إلا أنها ستعود مرة أخرى متى ما ارتفعت تلك الظروف، وهذه المشكلة تكمن في الكبر والعجب بالنفس، ومن ابتلي بمثل ذلك لا يمكن أبدا أن يقر بالآخر أو يعترف به فضلا عن التشاور والتعاون والتكامل معه.
قال تعالى﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ* قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ سورة الأعراف.
وفي المقابل فإن رسالات السماء وحامليها من الأنبياء والأوصياء والعلماء هم الداعون إلى الحوار العاملون بنتائجه والسبب واضح وهو أن من يمتلك الحجة البالغة والبرهان الجلي المنسجم مع الفطرة يكون مطمئنا بالنتائج وملتزما بها. وربما دخل أو أدخل في الحوار من ليس أهلا له فإن كان يحمل صفة التمثيل كما في قضية الأشعري والتحكيم فالقبول بالنتائج والالتزام بها معروف ومعمول به، ومن لم يكن كذلك فهو وحده من يتحمل ولا دخل لأمته أو طائفته أو مجتمعه.
ثانيا: الهدف من الحوار
يندفع الكثير نحو الحوار دون التأمل في أهدافه والوسائل الموصلة إليها، والنتيجة هي جلسات ومؤتمرات جدلية يبحث كل واحد عن فرض آرائه وأهدافه بالرشوة والقوة وما إليها من (اللوبي) وغيرها، وما عليك إلا أن تستذكر العشرات بل المئات من المؤتمرات والاجتماعات واللقاءات التي تعقد على مستوى الأمة والوطن والمجتمع ولكن دون فائدة تذكر أو قل قليلة الجدوى فإذا ما قورنت نتائجها بالجهد المبذول من أجلها تراها في غاية التواضع.
لعل السبب يكمن في التعامل مع الحوار باعتباره هدفا بحد ذاته، أو بضعف التخطيط الجيد للوصول إلى الأهداف المرجوة منه، والصحيح أن الحوار وسيلة حضارية مهمة بها ومن خلالها تتحقق الأهداف، ولكي تكون كذلك يجب أن يكون قوة المنطق هو المتكأ والمعتمد في الحوار بدلا من منطق القوة بالمال والجاه والحديد والنار، والبحث عن المشتركات أو كما يقال (تحرير محل النزاع) فيتعرف كل طرف على نقاط الاتفاق فيتعاونوا فيها ونقاط الاختلاف فيعذر كل واحد الآخر فيها.
ومن هنا فإنني أرى أن ما يجري على الشبكة العنكبوتية من تكاثر المنتديات الحوارية ذات الطابع العقائدي لن توصلنا إلى نتيجة بحجم الجهد المبذول، والأولى تصحيح مسارها بتحديد الأسس والمرتكزات المتفق عليها بدلا من سرد الطعون والبحث عن المثالب والانجرار نحو الترهات والأوهام.
إن البحث والحوار في أي موضوع هو أمر مشروع وربما كان مطلوبا ولكن الأهم منه هو معرفة ما يحمل الآخر والبحث عن المشتركات كخطوة أولى في طريق التعاون لخدمة الإسلام والمسلمين.
كما وأن الدعوات التي تنبثق بين الفينة والأخرى من المخلصين من أبناء المجتمع والتي تدعوا للتعاون والتآلف هي الأخرى تفتقر في الغالب إلى الهدف المراد تحقيقه من الحوار، ولذ تجد أن العشرات من الدعوات تبدأ وتستمر وربما تنتهي كجلسة تعارف ليس إلا! ومع أننا نثمن هذه الدعوات المخلصة والكريمة إلا أن طاقاتنا وأعمارنا ينبغي أن تصرف في مجال أفضل ولمشاريع تتجاوز المجاملات والمحسوبيات، لذا عليها أن تكتل الطاقات وتجمع ذوي الرأي والخبرة للسير نحو ما يخدم المجتمع والوطن والأمة إنشاء الله.
ثالثا: التسليم بنتائج الحوار
الإيمان بالحوار والتوصل إلى نتائج مرجوة منه لن تكون ذات جدوى ما لم تجد لها طريقا إلى أرض الواقع، وبداية الطريق هو التسليم المفضي إلى إخراجها من قاعات ومجالس الحوار وقراطيسه إلى أرض الواقع.
ولهذا شدد الإمام الرضا في مؤتمر حوار الأديان المنعقد بحضور الحاكم العباسي وفي مجلسه على ضرورة الإقرار بالنتائج وهذا ما حصل فعلا.
المأمون العباسي خاطب الجاثليق(9) فقال له: يَا جَاثَلِيقُ هَذَا ابْنُ عَمِّي عَلِيُّ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ وَهُوَ مِنْ وُلْدِ فَاطِمَةَ بِنْتِ نَبِيِّنَا وَابْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فَأُحِبُّ أَنْ تُكَلِّمَهُ وَتُحَاجَّهُ وَتُنْصِفَهُ فَقَالَ الْجَاثَلِيقُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ أُحَاجُّ رَجُلا يَحْتَجُّ عَلَيَّ بِكِتَابٍ أَنَا مُنْكِرُهُ وَنَبِيٍّ لا أُؤْمِنُ بِهِ.
وهنا تصدى الإمام الرضا لبيان أهمية إتباع المسلك العلمي في الحوار والتسليم والإقرار بنتائجه فقال : ( يَا نَصْرَانِيُّ فَإِنِ احْتَجَجْتُ عَلَيْكَ بِإِنْجِيلِكَ أَتُقِرُّ بِهِ؟ قَالَ الْجَاثَلِيقُ وَهَلْ أَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ مَا نَطَقَ بِهِ الإِنْجِيلُ نَعَمْ وَاللَّهِ أُقِرُّ بِهِ عَلَى رَغْمِ أَنْفِي). (10)
رابعا: العلم بمادة الحوار
يدخل البعض إلى ساحة الحوار دون أن يتسلح بالعلم والمعرفة التامة بمادة الحوار مما يقلل من نتائجها المرجوة، أو ربما أدخل نفسه وأمته في مزالق ومتاهات ما كان ينبغي له أن يرد فيها، وربما لجأ البعض إلى الضعاف في هذا الطرف أو ذاك وألبسوهم الصفة التمثيلية وقدموهم إلى الحوار والمناظرة للإقلال من شأن من يمثلوا وإظهارهم بالضعف والضعة.
وهذا وإن كان يحقق لفاعله الغلبة والظفر في قاعات الحوار ومؤتمراته إلا أنه لا يغير في المعادلة شيئا وسيبقى الأمر على ما هو عليه.