هل "عقلانيّة" المؤمن مُطلقة؟
الهدف من المقال: الوصول إلى فهم أعمق لفلسفة الإيمان (بالنسبة للأديان الابراهيمية الثلاثة) و ما يستلزمه.
بعد قراءات متعددة لعدة مقالات متضاربة لمن يسمون أنفسهم بـ"اللبراليين" وآخرين بـ"الاسلاميين" يمكننا الوصول إلى بعض النتائج في ما يتعلّق بفلسفة الأحكام الشرعية بالنسبة للأديان الإبراهيمية وما يقابل تلك الأحكام من قوانين وضعية بشرية يتم تطبيقها في البلدان العلمانية (كأوروبا وأمريكا مثلا). سأذكر النتيجة أولا ثم أشرحها.
- النتيجة:
الفرق الرئيس بين المنهجية التي يتبعها المؤمنون بالأديان الإبراهيمية الثلاثة (الإسلام واليهودية والمسيحية) في تفكيرهم وبين المنهجية التي يتبعها الناس في وضع القوانين والسياسات في أغلب الدول الأوروبية وأمريكا ، يكمن في أن هذه الأديان السماوية الثلاثة (الإسلام والنصرانية واليهودية) تضع حدوداً على تفكير الانسان في ما يتعلق بأمرين أساسيين :
1- هذه الأديان تضع حداً على التفكير في ماهية الله عز وجل وإن كانت الأديان الثلاثة تؤمن بأنه يوجد إله واحد له القدرة المطلقة ولا يصدر منه إلا الخير مع بعض الاختلافات في التفاصيل التي لا مجال لذكرها الآن لأنها تحتاج لبحث مستقل.
2- هذه الأديان تضع حداً على التفكير في تقديم و تفضيل "الرأي الشخصي" على النص الكتابي المقدس (سواءً كان قرآنياً أو إنجيلياً أو من التوراة) إذا كان النص صريحاً. بمعنى آخر: قد يقوم المؤمن بأحد هذه الأديان السماوية بأداء جميع التطبيقات العملية والتشريعات الحياتية (الأحكام الشرعية) بدون معرفة الحكمة أو المنطق وراء هذه الأحكام.
- ملاحظة هامة قبل البدء بشرح النقطتين:
يتم أستخدام كلمة "تضع حداً على التفكير" فقط لإيضاح بأن هذا التفكير قد لا يصل إلى وجود حكمة أو "منطق" واضح وراء اتباع "الأحكام الشرعية" المستمدة من الكتاب السماوي ولكن هذا بالتأكيد لا يعني عدم وجود الحكمة ولكنني فقط وفقط أعني بأن الحكمة وراء "الحُكُم الشرعي" قد لا تكون واضحة في ظل المعطيات المتوفرة حالياً لدى المُكلّف ، الحكمة موجودة لأن الله عز وجل حكيم ولا يصدر منه إلا ما هو حكيم. ربما تتضح الحكمة في ما بعد عند حصول المُكلّف على معلومات أكثر (كتقدم البشرية مثلا في أحد مجالات العلم) أو الاستزادة من مصدر مرتبط بالوحي كحديث النبي أو الإمام المعصوم في معرفة الحكمة.
- شرح النقطتين السابقتين:
أولاً: عند النظر للمسألة الأولى فيما يخص ماهية الخالق ، نجد بأن الأديان السماوية الثلاثة تحذر من المبالغة في التحقيق في ماهية الخالق وألاّ نصفه جل وعلا إلا بما وصف به نفسه (ليس كمثله شيء وهو السميع العليم). وإذا رجعنا إلى نهج البلاغة نرى ان هنالك نصوصاً واضحة تحذّر من المبالغة في التحقيق في ماهية الله عز وجل ، فعلى سبيل المثال جاء شخص لأمير المؤمنين عليه السلام وقال له أن يصف له الله فرد الإمام بخطبة طويلة تسمى بخطبة الأشباح وقد تضمنت هذا النص:(فانظر أيها السائل! فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتم به، واستضيء بنور هدايته، وما كلفك الشيطان علمه ، مما ليس في الكتاب عليك فرضه، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله، وأئمة الهدى أثره فكل علمه إلى الله سبحانه، فإن ذلك منتهى حق الله عليك، واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم الله عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرارُ بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمَدح الله اعترافهم بالعجْز عن تَنَاول ما لم يحيطو به علماً ، وسمى تركهم التعمُقَ فيما لم يُكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً فاقتصر على ذلك ولا تقدر عظمة الله سبحانه على قدر عَقْلك فتكون من الهالكين). (نهج البلاغة ، شرح محمد عبده، ص150)
بعد التأمل للحظات في كلام أمير المؤمنين عليه السلام نستنتج أن التأمل في ذات الله أمرٌ مكره جداً ولكن التأمل في خلق الله وفي الآيات الدالة على وجوده هو أمرٌ محبذ بل ومطلوب والدليل أن القرآن الكريم دائماً يذكر المؤمنين بعظم خلق السماوات والأرض والجبال وغيرها ولهذا فإن تأمل الإنسان في أي آية من آيات الله (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) ( ال عمران 19) هو أمر طيب بشرط أن لا تجاوز ذلك ليتجرأ على ذات الله بالتأمل فيها و توقع الصفات فيها كما يفعل بعض الفلاسفة وعندئذ لا يصلون إلى نتيجة بل يقودهم غرورهم إلى إنكار الله والعياذ بالله. و أتصور أن اعتقادنا في الله بأنه قادر على كل شيء وأنه لا يصدر عنه إلا الخير هو مشابه إلى حد كبير لاعتقاد المسيحيين و إن كان البعض منهم قد يقول بأنه عز وجل خلق الناس على هيئته والعياذ بالله.
ثانياً: بما أن النّظم السياسية التي لا تؤمن بأحد الأديان السماوية الثلاثة (تضع قوانين علمانية بحتة) تؤمن بأن وجود "منطق" و "حكمة" وراء القوانين التي يسنها العقل البشري المُجرّد هو المعيار الأساسي في تحديد صحة ذلك القانون من عدمه ، لذلك فإن تلك النّظُم لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتبع قوانيناً مسْتَقاة من الوحي السماوي لأن "بعض" القوانين التشريعية المستَمدّة من الوحي قد تستعصي على فهم العقل البشري المُجرّد من الوحي و الغير كامل معرفياً.
فعلى سبيل المثال: الشّعوب الديمقراطية (أوروبية وأمريكية و غيرها) ، تقوم بسن قوانين من عندها فلا يوجد أي علاقة بين ال Bible (الانجيل) والأحكام التطبيقية لأنها تعتمد على مبدأ العلمانية في حكمها السياسي مع العلم بأن غالبية الشعب الأمريكي مثلا يسمون أنفسهم "مسيحيين" ، مثال على ذلك هو أن أحد البنود الرئيسية في الدستور الأمريكي هو The Establishment Clause والذي ينص على فصل الدين عن الدولة في سن القوانين. يعتقد المؤسسون للدستور الأمريكي بأن "السبب" أو "الحكمة" وراء كل قانون أو بند هو المعيار الأساس في اعتماده بالإضافة إلى توفيره إلى سعادة أكبر شريحة من المجتمع. ولهذا السبب فإنك تجد أن كلمة معقول " ”Reasonable أو سبب "”Reason تتكرّر كثيراً في الدستور وتُبتدأ بحرف الـ R الكبير للدلالة على أهميتها.
وبقليل من التأمل يمكننا إرجاع هذه النزعة القوية لدى الأمريكيين والأوروبيين لفصل الدين عن سياسة الدولة لأمرين أساسيين:
أ- استفادتهم من تجربة حكم الكنيسة الفاشل الذي كان سائداً في أوروبا في القرون الوسطى قبل الثورة الفرنسية والذي كان يضع حدوداً قوية على المفكرين والفلاسفة حتى أنهم قتلو كثيراً منهم مثل كوبرنيكوس الذي قال بأن الأرض كروية و نفى مِحْورية الأرض بالنسبة للنظام الشمسي، فحاولوا تفادي ذلك بتأسيس دستور هو من بدايته منفصل تمام الإنفصال عن الأحكام الإنجيلية ، بالإضافة إلى الثورة العلمية والازدهار الصناعي الذي نتج بعد مغادرة الكنيسة للحكم ، وازدهار اسلوب المنطق العلمي في تحليل الأمور بدلاً من استخدام الفلسفة واللاهوت والأديان.
ب- عدم رؤية الأوروبيين والأمريكيين إلى نظام إسلامي مُتجسّد على أرض الواقع يمثل التنظير المتكامل للحكم الإسلامي السياسي في عصر الغيبة بكامل تفاصيله، فلو كان موجوداً لفكروا على الأقل في اقتباس بعض منه لأنه (على افتراض أنه صحيح وكامل) سيوفر السعادة لشعبه. نتيجة هذا كانت أن أغلب (وليس كل) الأمريكيين كأسلافهم الأوروبيين عمموا هذا الاستنتاج على الأديان: "الدين هو ضد العلم إلى درجة كبيرة" وإن كانت هذه النزعة أقل عند الأمريكيين من الأوروبيين، نعم لقد عمموها فظنوا أن الأديان جميعها لا يمكن أن توفر العدالة الإجتماعية وحرية التعبير عن الرأي واختيار الحكومة بالانتخابات النزيهة والتي تعتبر أساسيات النهضة في الدول الأوروبية.
يمكننا أن نستنتج من النقطة أ و ب ، أن نزعة التحليل المنطقي المادي إلى جميع الأمور والإبتعاد عن كل ما يمت لما وراء المادة مثل الاعتقاد بالآخرة والأرواح وغيرها كانت نتيجة ردة فعل عنيفة جداً ، بل للأسف أخذت هذه الردة اتجاهاً سلبياً في رفضها حتى مناقشة الأفكار الدينية واعتباره أمراً خاصاً جداً يصعب النقاش فيه.
هذه النزعة لما يسمى بـ (المنطِق العلمي) Scientific Reasoning أدت إلى التشكيك بكل ما قد يبدو للوهلة الأولى غير واضح أو لا يمكن اختباره بشكل تجريبي بوضعه تحت عدسة المجهر أو التحليل المخبري: مثل الأحكام الدينية بكل أشكالها وأنواعها.
و أتصور أن هذا هو الفرق الرئيسي بين تفكير المُؤمن وتفكير أغلب الغربيين أو حتى المؤمنين باللبرالية الشاملة ، أقول أغلب وليس كل.
والنقطة التي لم يستوعبها هؤلاء هو أنه مهما وصل علم الإنسان فإنه يبقى عاجزاً عن تفسير الكثير من الأمور ، فأبسط شيء وهو الذرة ، لم يستطع العلماء لحد الآن تحليل كل شيء عنها ،،؟؟؟ جميع الحيثيات وجميع التفاصيل لم تُكشف بعد ففي كل سنة يقال أنهم اكتشفوا تراكيب جديدة،، أذكر أن الذرة أول ما درستها كانت فقط بروتونات و نيوترونات داخل الذرة و إلكترونات تدور حولها ، ولكن بعد فترة اكتشف العلماء أن تراكيب جديدة مثل الكواركز وغيرها أيضا موجودة وفي كل سنة تظهر تحاليل جديدة ؟؟
فإذا كان هذا الكلام صحيح على أبسط شيء فإذاً لا يمكننا إنكار شيء ما أو التشكيك في صحته فقط لأننا لا نملك المعلومات الكافية لأن الموضوعية هي الحجر الأساس في البحث العلمي ومن هنا فعدم معرفتنا بفلسفة وحكمة بعض الأحكام لا يعني أنها اعتباطية حتى ولو لم تخضع للفحص العلمي، فهذا هو علم القانون واللغة والتاريخ وعلم النفس إلى حد ما لا يمكن وضعه تحت عدسة المجهر أو التّحليل المِخبري ولكننا يمكن أن نحلل الأحداث بالقدر الذي نستطيع لكي نصل على الأقل إلى أفضل حل مقبول للمشكلة. فإذا قلنا بأن بعض أو كل أحكام الدين اعتباطية فيجب (باستخدام نفس المنطق) القول بأن قوانين علم النفس والقانون واللغة اعتباطية! وهذا ما لا يقبله حتى المفكّرين الغربيين.
ولهذا فلا عجب أن نجد أن بعض أحكام الإسلام العملية كالطواف حول الكعبة ورمي الجمار و حُرمة الاستماع للأغاني وغيرها لها حكم غيبية حتى لو لم نستطع تفسيرها! إن أشياء كالوضوء واستحباب الأدعية عند كل شاردة وواردة و لبس العقيق مثلاً و ،،و ،، و ، لا يُمكن أن تدخل في عقل الإنسان الغربي بسلاسة والسبب في ذلك هو مغالطة الوقوع في فخ التحليل الزائد Overanalysis لجميع الأحكام الدينية و عدم فهم فلسفة الإيمان.
- قصة إبراهيم : التّحدّي الأكبر للعقلانية المطلقة:
عندما أمر الله عز وجل نبيه إبراهيم عليه السلام بأن يذبح ولده إسماعيل وذلك عن طريق حلم حلِم به النبي إبراهيم عليه السلام، وكلنا يعلم بأن أحلام الأنبياء هي حقائق، قام نبي الله إبراهيم بسؤال ولده اسماعيل بقوله (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)الصافات 102، وقد كان إبراهيم قد رُزِق بابنه اسماعيل بعد الأربعين من عمره من زوجته هاجر وكان اسماعيل عليه السلام شابا يافعا بارّا بوالديه و في مقتبل العُمر ولكن ذلك الشاب "المؤمن" والمسَلّم لأمر الله بدون أي تردد أجاب أباه فقال ( ... يا أبتِ افعل ما تُؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين). فأمر إبراهيم ابنه أن يدير ظهره كي لا تسقط عيناه على عيني ابنه ففعل الابن البار ثم جاء بالسكّين لكي يذبح ابنه!!! ثم نزلت رحمة الله على إبراهيم وقال: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).
- الدّرس المستفاد من قصة إبراهيم:
باستخدام العقل المجرّد والأساليب المنطقية الحديثة لا يمكن إيجاد تفسير لما كان إبراهيم على وشك أن يقوم به (ذبح ابنه الشاب البار اليافع الذي كان في مقتبل عمره بدون أية زلّه أو خطأ ارتكبه!!!) هل يُعقل بأن إبراهيم كان لا يُفكّر قبل أن يقوم بأي عمل والعياذ بالله؟ هل يُمكننا القول بأن ابراهيم كان إمِّعةً يسمع الأوامر من غيره ويُنفّذها بدون أي تأمّل؟ هل كان ينقصه الذكاء؟ حاشاه ذلك ولكنّه الإيمان الذي تجذّر في قلبه ، إنها تِلك البصيرة التي آمنت بالله بعقل وتفكر وآمنت بأنه أحكم الحُكماء ثم بناء على هذا الأساس "سلّمت وانقادت" إلى التفاصيل والأوامر التي يمليها عليها هذا الحكيم وهي على يقين بأن كل "العقل" وكل الإيمان يكمن في طاعة أوامره حتى لو لم تتضح حكمتها (فهي موجودة). قام عليه السّلام بـ"تقييد" عقله ولكنه بالمقياس الإيماني أطلق العنان له لأنه عرف عظمة الله.
- خلاصة الحديث:
أ-إن أي إنسانٍ مؤمن لا يمكن أن ينقاد تماماً إلى أحكام الدين إذا كان يريد أن يربط العقلانية( كما يراها العقل المجرد من الاعتقاد والمؤمن فقط بالمادة) والتطبيق العملي للأحكام الدينية ذلك أن بعض الأحكام الدينية لا تحتوي على سلسلية خطوات منطقية واضحة تدل على حكمتها ، ولكننا كمسلمين نعتمد على المقدمة Premise الدالة على أن الله حكيم لكي نصل إلى استنتاج Conclusion أن جميع الأحكام الشرعية تتضمن حكمة علمناها أم لم نعلمها، كما أشار أمير المؤمنين في الحديث السابق. وكما يقول الله عز وجل: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) سورة النساء، آية 65.
ب- غرور الانسان ببهارج العلوم الحديثة و ما تحويه من إيديولوجيا ، قد يوهمه بأن عقله يستطيع تحليل كل شيء فلذلك يستند إلى العقل كــ مرجع مطلق ، بدلاً من الرجوع للنصوص الدينية من الكتب السماوية التي نزل بها الأنبياء، وكنتيجة يقوم بتأليف وسن القوانين المختلفة في جميع الأمور فتكون النتيجة وجود بعض القوانين الحكيمة والعادلة وأخرى خطيرة ومُدمّرة للمجتمع والأخلاق.
ج- الإيمان الذي دعا إليه الأنبياء والأئمة بـــطبِيعته يستلْزم عدم اقحام التحليل المنطقي في الأمور التفصيلية ولكنه يستلزم أيضاً الإيمان بأصول الدين (وجود الله وآياته وأنبيائه و غيرها) عن طريق التفكّر والاقتناع الذاتي. السبب هو أن مرجعيّة العقل هي "مرجعية محددة" في ما يتعلّق بالأحكام الفقهية أو الشرعية التفصيلية فنحن نستند في الأمور الواضحة والتي نص عليها القرآن بشكلٍ صريح على النص القرآني أو الحديث الشريف عن أهل بيت العصمة، وأما المستجدات والتفاصيل فيمكننا الاقتحام فيها إلى حد ما لم تُعارض النص القرآني الصريح أو تحاول معرفة الذات الإلهية.