الوجه الحضاري في الإجابة على التساؤلات في منهج الإمام علي

أحمد عبد الرحيم الحي *

إن المتأمل في سيرة أهل البيت  يجد أن حياتهم الشريفة مليئة بأسرار التقدم والرقي حتى في أدق تفاصيلها، فحري بأي فرد أو مجتمع أو حضارة تروم الارتقاء أن تستخرج العبر والدروس من كل ما يصلها من هذه السيرة المباركة وحتى من النقاط العابرة فيها.

ومن الجوانب المضيئة في سيرتهم  اهتمامهم البالغ بتشجيع ثقافة السؤال والتعلم، وكان أحد أساليبهم في ذلك هو انتهاجهم الطرق الحضارية في الإجابة على التساؤلات المطروحة.

سبب اختياري لهذا الموضوع هو أنني لم أجد من تعرض له بشكل مباشر -حسب إطلاعي- رغم حاجتنا الكبيرة لهذه الثقافة خصوصاً في هذه الفترة من الزمن، فإشاعة ثقافة السؤال وتشجيعها عبر أسلوب الإجابة هو مفتاح تقدم أي أمة، فالسؤال مفتاح العلم.

ولكن للأسف فإن هذه الثقافة غائبة عن واقع المسلمين اليوم بل ومغيبة في كثير من المجتمعات بسبب اللامبالاة بالتساؤلات المطروحة، وعدم محاولة الإجابة عليها بجدية، وكذلك قمع السائل والاستخفاف به ورميه بمختلف التهم كالسخافة والفضول أو العداء. ولكن كيف كان أئمتنا  يتعاملون مع السؤال؟ وكيف كانوا يتعاملون مع السائل؟ هذا ما نحاول تسليط الضوء عليه لنتمكن من الاهتداء بنور نهجهم ولا نضيع في غمرة الأحداث المظلمة والمناهج السقيمة.

ولكي نكون أكثر تحديدًا، سننظر لهذا الجانب في حياة إمام واحد من هذه الشجرة المقدسة وهو أمير المؤمنين الإمام علي ابن أبي طالب ، والمقال لا يمكنه أن يعطي هذا الموضوع حقه لأننا لو أردنا التحدث بإسهاب عن منهج أهل البيت  في الإجابة على التساؤلات أو تقصينا إجابات الإمام علي  بالتفصيل لألف ذلك كتاباً من عدة مجلدات وبقينا مع ذلك مقصرين.

والآن فلنأخذ لمحات عابرة على بعض إجابات الإمام  لنستخلص منها بعض الملامح الحضارية العامة في هذه المسألة:

  •  المحيط المتشنج وسعة الصدر:

لا يستسيغ الكثيرمن الناس الأسئلة عندما يكون الوضع متوتراً، وخصوصاً إذا كان يشم من هذه الأسئلة رائحة تبني الموقف المضاد للشخص الموجهة إليه، فنجد الكثير من الناس يمتنعون عن الإجابة بحجة أن الظرف غير مناسب لطرح مثل هذا السؤال وغيرها من الحجج، أو يجيبون بأسلوب غليظ وغير مقنع لأنه مبني على الغضب -كما يحصل عند السؤال عن سبب الخصومة بين شخصين أو مجموعتين-، وصنف آخر يترك السؤال ويقع في السائل متهماً إياه بشتى التهم، وحتى لو كانت هذه التهم صحيحة فإن هذا التعامل يجعل كثيرًا من السامعين الذين لا يمتلكون المعلومة الصحيحة يتحيزون لهذا السائل وربما تبنوا موقفه وإن كان مخالفاً للأدلة لأنه ظهر بصورة المظلوم المحق وظهر المسؤول بصورة الظالم ضعيف الحجة.

ومن أمثلة ذلك ما ظهر من التساؤلات المشبوهة على لسان بعض المثقفين حول العديد من القضايا الدينية والاجتماعية، ورغم أن الكثير من أصحاب الفكر والدليل تصدوا للإجابة عليها بأسلوب علمي رصين، إلا أن البعض – وبنية طيبة وغيرة على الدين والمجتمع- تعامل معها ببعض الأساليب السلبية التي ذكرناها مما أدى إلى انجرار بعض قليلي الثقافة خلف هذه الإشكالات مع مخالفة كثير منها للعديد من الأدلة. ولكن كيف كان يتعامل أمير المؤمنين  مع السؤال في مثل هكذا ظروف؟

ورد أن حبرًا من أحبار اليهود من أهل الشام دخل مسجد رسول الله وقال: «يا اُمّة محمد ما تركتم لنبيّ درجة ولا لمرسل فضيلة إلاّ وقد نحلتموها لنبيّكم، فهل عندكم جواب إن أنا سألتكم؟» ورغم ما قد يشم من رائحة عدائية في سؤاله وتشكيك في منزلة نبي الإسلام، فلم يوبخه الإمام أو يغلظ عليه بل قد أجابه وبكل رحابة صدر قائلاً: «سل يا أخا اليهود ما أحببت فإنّي اُجيبك عن كلّ ما تسأل بعون الله ومشيئته»[1]  فأجابه عن كل أسئلته في خبر طويل.

ولا ننسى أيضًا أن رحابة الصدر لا ينبغي أن تطغى على الصراحة، فالإمام كان رغم سعة صدره صريحاً مظهرًا للدليل الصحيح. عندما تولى الإمام  الحكم الظاهري، ساوى بين الناس في الفيء، فغضب كثير من المسلمين، وحرضوا على معارضة الإمام وهتفوا ضده، وتساءلوا عن سبب قراره. ورغم التوتر الشديد في الأوضاع السياسية، فقد أجابهم الإمام بكل ود وصراحة: «... جعلنا الله وإياكم من المتقين وأوليائه وأحبائه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. فأما هذا الفئ فليس لأحد فيه على أحد أثرة قد فرغ الله عزوجل من قسمه فهو مال الله وأنتم عباد الله المسلمون وهذا كتاب الله به أقررنا وعليه شهدنا وله أسلمنا وعهد نبينا بين أظهرنا فسلموا - رحمكم الله - فمن لم يرض بهذا فليتول كيف شاء.»[2] 

  •  هدفية الإجابة:

كان الإمام يستغل كل سؤال محاولاً تحقيق أهداف سامية تعود على السائل وعلى البشرية بالخير، ولم يكن تشجيعه على السؤال بكلمته المشهورة: «سلوني قبل أن تفقدوني» وكذلك إجاباته عن كل سؤال بشكل تام من باب التحدي لتحقيق مصالح شخصية أو من باب الترف الفكري الذي لا يعود بالنفع على الناس. فنراه في كثير من المرات التي سئل فيها يذكر السائل بضرورة الاستفادة، وأن لا يدع الفرصة تذهب هباءً، فمن ضمن توجيهاته للسائلين: «سل تفقهاً، ولا تسأل تعنتاً»[3] ، «ويسأل ليفهم»[4] ، «ولك.. وَحَقُّ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدِ اسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ»[5]  ولا يخفى ما في هذه الأخيرة من الإشارة إلى احترام حق السائل في السؤال وحقه في الإجابة على أسئلته.

  •  الإجابة الوافية:

لم يكن الإمام  يقتصر على الإجابة عن كل ما وجه إليه من الأسئلة في مختلف الميادين فقط، وإنما كان يحرص دائماً أن تكون إجابته –وإن كانت مختصرة أحيانًا- متكاملة ومقنعة بالنسبة للسائل. ولم يكن يتضجر –كما نفعل كثيرًا- عندما يطلب منه السائل المزيد من التوضيح والأدلة. وكمثال على ذلك قصته مع الرجل العابد همام عندما سأله عن صفات المتقين، فارتأى الإمام أن يختصر في الجواب خشية على صاحبه فقال له: «يا همّامُ، اتقِ اللهَ وأحْسِنْ فَـ ﴿ إنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ  فلم يقنع همّامٌ بِذَلِكَ القول حتّى عزم عليه.»[6]  فأجابه الإمام بجواب مفصل عظيم، ولم يتنهي من كلامه إلا وقد خرجت روح همام من شدة تأثره بهذا الحديث.

نعم، هكذا ينبغي أن تكون إجاباتنا في شموليتها، ولا نكتفي بالأجوبة الناقصة والهزيلة ونعتبر ذلك كافيًا وإن لم نتعرض لكل الجوانب المتعلقة بالسؤال بالإجابات الشافية التي تقنع السائل.

  •  تعدد طرق الإجابة والاستدلال:

إن طبيعة الناس هي طبيعة تعددية وبالتالي فهم لا يقتنعون بأسلوب واحد للإجابة ولا بنوع واحد من الأدلة، ولذلك فإن من رجحان العقل تنويع طرق الإجابة وتنويع الأدلة لتناسب عقول وشخصيات الناس المختلفة. وقد كان الإمام يفعل ذلك فنرى إجاباته تارة تكون بليغة ومختصرة، وتارة تكون مفرعة ومفصلة كما في جوابه عن سؤال الحبر اليهودي الذي ذكرناه سابقاً، وغير ذلك من الطرق. وكذلك تعددت طرق استدلاله فقد استخدم الدليل الشرعي، والسياسي، والمنطقي وجوابه لعمر عندما شاوره في الخروج لقتال الروم[7]  يجمع هذه الاستدلالات الثلاثة، والاجتماعي، والعلمي كعلم الفيزياء كما في قصة وزن الفيل عبر كمية الماء، وعلم النفس عندما تظاهر بأنه يريد نشر الطفل المتنازع عليه أو تزويج امرأة بابنها الذي أنكرته، وغير ذلك من العلوم. ونحن كذلك ينبغي أن نتبع هذا المنهج إذا أردنا إقناع الناس والاستفادة من إمامنا في ذلك.

  •  الموقف من تكرار السؤال:

يعتبر بعض الناس إعادة السؤال أكثر من مرة أو طرح أسئلة كثيرة تصرفًا أحمقًا غير مقبول أو أنه من باب «التفلسف» والمعاندة وتضييع الوقت والجهد. ولكن ما كان موقف الإمام(ع9 حيال هذه المسألة؟

لقد كان البعض يكرر طرح الأسئلة على الإمام أو يسأل أسئلة كثيرة في المجلس الواحد، فكان بأسلوبه الراقي وإجاباته العميقة يشجعهم على مواصلة ذلك –وإن كان بعضهم يسأل من باب التحدي والعناد أو لنشر الشبهات فقط - ولم يتذمر إطلاقًا من هذه الحالة، فالخيار الأمثل للإنسان عندما يخطر بباله تساؤل معين هو معرفة الإجابة الحقيقية عليه. ويظهر ذلك جليًا في إجاباته لمسائل شامي مع ثلاثة أشخاص آخرين والتي بلغت أكثر من ستين سؤالاً في مجلس واحد[8] .

  •  خاتمة:

لا ينتهي الكلام في هذا الموضوع خصوصًا وأننا نتحدث عن أمير الكلام ومن كان شعاره «سلوني قبل أن تفقدوني» ولكن لا بد لنا من خاتمة، وعسى أن يكون هذا المقال المتواضع مثالاً بسيطًا على ما ذكرناه من أهمية التأمل حتى في أصغر تفاصيل سيرة أهل البيت ، والإبداع في تحليلها من جوانب جديدة لم يتعرض لها من قبل، لنحاول بذلك سبر بعض أغوارعلومهم واكتشاف بعض أسرار النجاح والتقدم من هديهم، ولنجعل من المناسبات المتعلقة بكل واحد منهم  فرصة لهذه التأملات ومن ثم الاقتداء الفعلي والواعي بهم ولتحسين ما ساء من أحوالنا.

وأخيرًا، لا ننسى أن أمير المؤمنين  الذي وجهت له أمواج المسائل طوال عمره الشريف حتى وهو على سرير الشهادة ولم يعجز عن الجواب أو يخطئ قط، لا يزال اليوم كما كان في الأمس يستقبل الأسئلة ويجيب عنها وهو حي عند ربه، فلا نتردد بسؤاله عن ما يحيرنا. وكذلك فلنسأل علماء الدين والدنيا –إن لم نوفق لجوابه - وبالمقام الأول فلنتوجه إلى وارثه والبقية من أهل بيته إمامنا المهدي المنتظر فهو ولي الورى وعلم الهدى وهو حي يرزق ومطلع على جميع أحوالنا وقاضي حوائجنا بإذن الله –ومنها إجابة تساؤلاتنا- وإن ارتاب المرتابون، ولنا على ذلك أدلة وبراهين نتركها لمقام آخر.

 

[1] إرشاد القلوب، الحسن الديلمي، ص 304 والخبر موجود بالتفصيل لمن أراد الرجوع.
[2] تحف العقول، الحسن بن علي الحراني، ص129.
[3] عيون أخبار الرضا، الصدوق ، ج1 ص241.
[4] تحف العقول، الحسن بن علي الحراني، ص113.
[5] نهج البلاغة، الشريف الرضي، ص353.
[6] نهج البلاغة، الشريف الرضي،ص 477 والخطبة موجودة بكاملها.
[7] نهج البلاغة، الشريف الرضي، ص298.
[8] الرواية مذكورة بالتفصيل في كتاب عيون أخبار الرضا ، الصدوق ، ج1 ص241-248.
صفوى