السيد الموسوي: الرسول الأعظم (ص) هو أول مَنْ أوجد النظام الإداري عند العرب
بعد صلاة الظهرين من يوم الخميس 20/3/1429هـ، ألقى سماحة العلامة الحجة السيد عبدالله الموسوي كلمة خصصها للحديث عن حركة النبي الأعظم في إصلاح أوضاع العرب الجاهلية، وذلك بمناسبة ذكرى ميلاده ، مسلطاً الضوء على صور من تغييره لحياة العرب المليئة بالخشونة والعادات السيئة من جرّاء الجاهلية التي كانوا يعيشونها، مستعرضاً شيئاً من أساليب النبي في تغيير تلك العادات الجاهلية، مبيناً أن النبي أوجد منظومة قانونية وإدارية وأخلاقية في بلاد لم تكن تعرف شيئاً أساسيات الإدارة الاجتماعية أصلاً، مؤكداً على أن الرسول كان له قصب السبق في تبني التعليم المجاني والصرف عليه أيضاً، وفي التالي نص تلك الخطبة:
تمهيد في توضيح:
بسم الله الرحمن الرحيم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
عن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه في خطبته السادسة والعشرين من نهج البلاغة قال : " إن الله بعث محمداً نذيراً للعالمين وأميناً على التنزيل وأنتم معشر العرب على شرّ دين وفي شرّ دار ، منيخون ....". إلى آخر خطبته صلوات الله وسلامه عليه.
والشاهد هنا أن أمير المؤمنين لخّص حياة العرب في كلمته تلك، حيث أنه أعطى للعرب صفتين:
الصفة الأولى: أنه حينما أُرسل الرسول كانوا في شر دين.
الصفة الثانية : أن العرب كانوا في شر أرض.
- فما المقصود بشر دين؟ وما المقصود بشر أرض؟
هل هناك أسوأ من العادات السيئة؟! حيث الدين هو ما تدين به ، بمعنى ما اتخذته شِرعة لك، والعرب ماذا كانت شرعتهم ، هل كان هناك أسوأ من الشرك بالله عز وجل والعياذ بالله؟! طبعاً لا يوجد أسوأ من ذلك وهم كانوا مشركين بالله عز وجلّ، نعم هل يوجد هناك أسوأ من سفك الدماء؟! لا يوجد هناك أسوأ من ذلك بعد الشرك بالله؟! وكان العرب يلغ دمهم في دم بعض، فتجد الواحد منهم يغار على قبيلته وهم من أبناء عمه، حيث يأسر ويسبي النساء ويذبح الرجال، ويستولي على المال، هذا المقصود من كلامه عليه السلام ( شرّ دين ).
- فما قصده من ( شرّ أرض )؟
من المعروف أن مكة أفضل بقعة لأن فيها بيت الله الحرام ، فما المقصود إذن بشر أرض؟
المقصود بذلك الأرض التي لا تمتلك أدنى مقوّمات الحياة، فمكة مجموعة من الصخور والجبال، ولم تكن أرضاً زراعية ولا أرضاً فيها حضارة أرض ذات حياة اجتماعية، لذلك عبّر عنها الله في كتابه العزيز على لسان نبي الله إبراهيم عليه السلام حينما وضع فيها زوجته وابنه، بأنها وادٍ غير ذي زرع، في قوله تعالى: ﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ﴾ [يوسف/47]،فهي أرض ليست ذي زرع، أي ليس فيها شيء من الحياة فحينئذٍ بالنسبة للإنسان الذي يسكن فيها هي شرّ أرض ، بخلاف تلك الأراضي التي تنساب فيها المياه والشلالات والتي أينما يضع الإنسان يده فإنه يجد فيها رزقه؛ لأن المناطق الزراعية والتي تحتوي على مياه كيف تكون؟ اجل تكون أرضَ خير، أرض بركة، إذ يوجد فيها الحيوانات والنباتات وهذا يعني وجود اللحوم والخضروات والفواكه وغيرها، فأنت ماذا تتصور من أرض هي بهذه الكيفية وشعب بهذه الكيفية الآنفة الذكر؟
والعرب أو الأمة العربية آنذاك ما هي أهم مقوماتهم؟
- وكيف يعيشون؟
نعم يلخّصها الإمام علي في الجهل المطبق، والسيدة الزهراء تقول : " تقتاتون القدّ ، وتشربون الطَّرَق"، يعني أن عندهم حالة من حالات الجهل وأنهم كانوا يأكلون أي شيء ويشربون أي شيء أيضاً، لا يراعون أدنى قواعد الصحة أساساً، أضف إلى ذلك أن الجهل المطبق ناتج عن عدم معرفتهم للقراءة والكتابة، انظر إلى كتب التاريخ ، تجد أن المدينة المنورة ومكة المكرمة حينما بعث رسول الله لم يتجاوز عدد من يقرأ ويكتب فيهما الثمانية والعشرين نفراً، فهما وبالرغم من أنه يوجد فيهما آلاف الأشخاص إلا أن عدد المتعلمين فيها قليل بالنسبة لعدد سكانها آنذاك ، فهما مدينتان عامرتان بل أكثر كثافة سكانية في الجزيرة العربية والحجاز وفي شرق الجزيرة العربية نعم يوجد أكبر كثافة سكانية، وإذا أكثر كثافة سكانية يوجد بها أقل من ثمانية وعشرين إنساناً يستطيعون القراءة والكتابة، هذا يدل على إنه يوجد هناك جهل ، نعم فالعرب إذن يتمتعون بجهل.
- خشونة.. دم بارد .. كذب.. وعبرة
كما يتمتع العرب بخشونة ، والخشونة في أوضح صورها تعامل الأخ مع أخية ، أي العربي مع العربي الآخر، تجد الغارات بينهم، صحيح أن العربي كريم، ولكن من أين يأتي كرمه؟ يغار على ابن عمه ليطعم ضيفه، يعني حينما يتم الحديث عمن قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً فإن هذا هو المقصود، وترى هذا العربي الذي هو على استعداد لأمر تافه أن يسفك الدماء فليس لديه مانع ، أيضاً بالنسبة للخشونة حتى في التهمة الباطلة أو الأكاذيب فأنتم تعرفون - ولهذا ينبغي أن نأخذه عبرة في حياتنا المعاصرة - هناك عوامل تدفع الإنسان للكذب، ولا يمكن لهذا الكذب أن يجد طريقاً إلا بأمور معينة أو أدوات معينة، فكان العرب يستغلون هذه الأدوات مثل قضية الأجهزة الإعلامية كما نعبر عنها اليوم، إما يؤرخ لهذه الكذبة ببيت من الشعر أو بخطبة وهكذا، أو بحدث تاريخي على هذه الكذبة فتصير معركة بسبب تلك الكذبة المفتعلة فتكتب في التاريخ وتخلّد.
فكان العرب لا يألون جهداً لمثل هذه المسألة وتعرفون في زمن رسول الله عندما بعث - وهذه غريبة جداً - عندما بعث جاء مجموعة من العرب إلى أبي طالب وما الذي كانوا يقولون لأبي طالب؟! نعم انظر لما يقولونه هؤلاء يقولون: ( إنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا وعيّب آلهتنا حتى تكفيه عنا ) ، هذا الكلام موجه لأبي طالب عن رسول الله ، متى شتم رسول الله (ص ) الآباء، والرسول معروف كما قال تعالى في حقه: ﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ﴾ [القلم/4]، (إني أكره لكم أن تكونوا سبابين) كما يقول هو ، قطعاً أخلاق رسول الله تأبى الشتيمة ومع ذلك لا يتناهون عن فعل ذلك، لذلك قال رسول الله عندما أغروه بأن يعطوه ما يعطوه ، ( والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر لما تركته)، الشاهد أنهم توسلوا إليه أنه شتم الآباء إلا أن يُعَدّ إذا قيل لهم لماذا تعبدون الأصنام؟ قالوا : شتم آباءنا، سفه أحلامنا ، هذا شيء آخر.
وهذه في الأجهزة الإعلامية توجد بشكل عام لذلك ينبغي أن نكون في حالة وعي، لا نتأثر لا بالتفاز ولا بالإذاعة ولا بالبوسترات الإعلامية، وإنما يجب أن نتحقق، فقد يُدعى بأن هذه الفئة أو تلك الفئة أو هذا الشخص أو ذلك الشخص قام بكذا أو بكذا لا، يجب أن نعمل بمبدأ ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ﴾ [الحجرات/6] ، ولا يوجد هناك أوضح وأجلى من حالة الفسق هذه التي نعيشها.
- فراغ في نواحٍِ عدة
والعرب أيضاً عندهم فراغ عقائدي ،ودليل الفراغ العقائدي ما هو؟ عبادتهم للأصنام، الشرك بالله عز وجل دليل على هذا الفراغ العقائدي ، ولديهم أيضاً انحراف أخلاقي بعدم وجود منظومة قيمية، والأخلاق عندهم بشكل عجيب غريب في جانب بطولة والبطولة من الأخلاق والشجاعة من الأخلاق، أن يغار الإنسان على ابن عمه شجاعة عندهم فيسبي نساءه ويستولي على أمواله، وهكذا لذا قال الرسول : ( إنما بعثُ لأتمم مكارم الأخلاق)، لاحظ لأتمم مكارم الأخلاق أي أن هذا ليس من الشجاعة بل هو من الغيلة، هذا من الخيانة.
- وثمة فراغ آخر...
وعندهم أيضاً فراغ قانوني، والفراغ القانوني يكمن في أنهم أصلاً لم ينتظموا في دولة، فكل شيخ قبيلة هو حاكم بلاده، فهم ليس عندهم تنظيم إداري أساساً، فلم يكن لديهم شرطة ولا درك ولا مطافئ، ولا بلدية، هذه القضايا النظامية والإدارية مفقودة عند العرب، لا يوجد هناك حساب ولا كتاب لزعيم، بل كل مجرم أحاط به مجموعة مجرمين يكون حاكماً في ذلك الحي، لذا بالنسبة للرسول الأعظم حينما يخلق من هذه المجاميع المتصفة بهذه الصفات السلبية حينما يخلق منهم أمة بهذه العظمة واقعاً يقال له أنجز، بينما حينما تأتي لمجتمع هو أساساً منظم إدارياً اعتورته بعض المشاكل وأتيت ونقيتها وأصلحت الوضع فهذا ليس بجهد يذكر في مقابل جهد رسول الله ، فالرسول انتشل الناس من الجهل المطلق، واستخدم في ذلك وسائل وأدوات.
- من ضمن هذه الوسائل:
1- أوجد صياغة قانونية:
وهذا مهم جداً بمعنى إذا تلاحظ الآن كليات للحقوق في الأكاديميات موجودة ، يتحدثون عن الجريمة والجزاء في آن واحد، ومع ذلك هناك خلاف كبير في تفسير نقطة قانونية أو أن هذا القانون غير مناسب للرد أو غير مناسب، وبعد تجربة طويلة وعريضة نجدهم يغيرونه لأنه غير مناسب أو يحتملون بأن غيره أكثر جدوى منه، وهنا نتساءل:
- الرسول الأعظم أين درس؟
ـ في أي أكاديمية درس؟
ـ وفي أي حوزة درس؟
ولاحظ هنا، حتى تعرف المعجزة الحقيقية في حياة الرسول الأعظم أوجد صياغة قانونية دقيقة جداً، لذا في الروايات حتى إرش الخدش لم يغادره رسول الله ، إذا جرحتَ فالجرح يختلف، فهناك جرح وصل إلى الصماغ أو إلى العظم ، وكل جرح له ديته الخاصة، العين لها دية ، الأنف له دية، اليد لها دية ، الجرح له دية، الضربة لها دية، لاحظ ! من أين تعلم رسول الله النظام الحقوقي والنظام الجزائي المسألة دقيقة ولاحظ الرسول يعلم بأنه لا يمكن بأي دولة أن تعيش حالة الوعي والثقافة والاستقامة إلا مع وجود نصوص قانونية ، نصوص دستورية ليعرف المواطن ما له وما عليه، لذا فالرسول أوجد هذه الصياغات خصوصاً في زمنه وزمن الأئمة لا يوجد هناك احتمال للاختلاف أو للاجتهاد في تفسير النص القرآني ، لأن القرآن الكريم نزل على قلبه فهو حينئذٍ مَن يمتلك حق التفسير للقرآن الكريم ، فلا يوجد هناك اختلاف أساساً ، بخلاف ما هو حاصل في عصرنا الحاضر، فهناك اجتهادات وقراءات عدة، لذلك ينبغي التعامل في هذا الزمان غير التعامل مع زمان رسول الله في مسألة الصياغات القانونية.
- اسألوني أين هو من كتاب الله
إذن صياغة قانونية وهذه الصياغة القانونية عجيبة حقيقة يعني كما كانت عند رسول الله كان عند الإمام الصادق لذا قال كلمته عليه السلام : ( ما أفتيتكم في شيء إلا واسألوني أين هو من كتاب الله ). يعني إذا أحدكم سألني وأعطيته الجواب فليقل لي أين هو من كتاب الله وما الدليل عليه ، ومع الآسف نحن الآن عندما يأتي طالب علوم دينية صغير ويتكلم فيعترض عليه أحد أو يسأله فإنك تراه يغضب وكأنّ كلامه كلام الله، لا ينبغي أن يناقش أبداً وهذا طبعاً غير صحيح، وهذا غير سلوكيات أهل البيت ، لا بل اطلب الدليل كي تقتنع ، لذلك ( فاسألوني أين هو من كتاب الله)،وقد ضرب له مثالاً وهو إن إحداهن نذرت نذراً، أنه إذا حصل لها أمر تتصدق بمال كثير ، حار العلماء في كيفية المال الكثير ، فالمال الكثير قد يكون مئات الآلاف مالاً كثيراً، والآلاف كثير ، والعشرات كثير، فيختلف الإنسان بحسب ماله أو بحسب العدد ، فالإنسان الملياردير بالنسبة له المليون غير كثير والإنسان الفقير فإن الدرهم الدينار يكون له كثير، فما المراد بالكثرة؟ فهل هي راجعة للإنسان وممتلكاته أو للعدد نفسه؟ هناك اختلاف حينئذٍ ، احتار هؤلاء فرُفِع الأمر للإمام الصادق فقال وبكل سهولة: ( ثمانين! أن تعطي ثمانين يكفيها بأنه كثير )، سئل ما الدليل على ذلك؟ ولا يريدون دليلاً مثل قوله أنا أروي عن أبي عن جدي، أو كذا لأن أكثر هؤلاء معاندين في العادة ، فذكر لهم قوله تعالى: ﴿ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ...﴾ [التوبة/25] ، فالقرآن يقول نصر الله الرسول في مواطن كثيرة، فإذا نصره في مواطن كثيرة فهذه المواطن في حدود الثمانين، فوصف الثمانين بأنها كثيرة وهذا هو الدليل هنا، إذن الصياغة القانونية هذا الأمر الأول.
2ـ تعليم النظم القانونية:
فالنظم القيمية ينبغي أن تكون واضحة للأمة لذا قال الله سبحانه وتعالى في حق رسول الله : ( ﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ﴾ [القلم/4] والرسول قال : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )، يعني أنه إذا وجدت هناك مكرمة أو قيمة خلقية عندكم فإنني أنا أصلحها.
إذن التربية الأخلاقية مهمة، وقد أتعب الرسول نفسه في إيجادها، لانتشال هذه الأمة، والانتشال ينبغي أن يكون حقيقياً ، فأنت لمجرد أن تضع لك لحية وتصلي، هل تعتبر فعلت شيئاً للأمة، وما إلى آخره هل تعتبر متديناً مؤمناً ، لا وإنما في الرواية ( يمتحن المؤمن بالصدق وأداء الأمانة )، أي السلوكيات ، بينه وبين الله شيء، لأنه وكما قال قائلهم :
صلى المصلي لأمر كان يطلبه ... لما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما
هنا مسألة الأخلاق ومجموعة القيم ، وينبغي أن يتعامل الناس بشكل عام مع القيم حقيقة ، لذلك فالرسول في حديثه مع سفانة بنت حاتم الطائي ما الذي قال لها حينما ذكرت مآثر والدها من كرم ومن شجاعة؟! وكان يحمي الجار يعني عنده أخلاق غير أخلاق هؤلاء العرب فقال: ( لو كان أبوكِ مسلماً لترحمنا عليه ) ، تلك هي الصفات الجميلة ، وقد أطلق سراحها لتلك الخصال الحميدة التي كان يمتلكها أبوها.
- وللمنظومة الروحية دور أيضاً:
إذن مسألة القيم مسألة مهمة وراجحة، فالرسول يراعي هذا الجانب، بحيث يحترم إنساناً مشركاً بأخلاقه ويطلق سراح ابنته من أجل أخلاقه، ألا يعد هذا نوعاً من أنواع حماية القيم؟! ومن ضمن حمايته للقيم، أن أحدهم جاء ، والمقصود بالقيم تقييم الإنسان لنفسه، لذا فإن الرسول ما الذي قاله؟ قال : ( لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى )، (أنتم عندي سواسية كأسنان المشط)، وكل هذا يدل على أنه لايوجد إنسان أفضل من إنسان آخر ، لا لونه يفضله ولا نسبه أيضاً ، نعم حسبه يرفعه صفاته الأخلاقية هي التي ترفعه.
- نعم المربِّي، ونعم المربّى!
يقال في يوم من الأيام كان رسول الله في المسجد فجاءوا مجموعة بعضهم مُيسرون والبعض الآخر منهم مُعسرون والشاهد أن أحد كبار التجار الميسرين كانوا مع رسول الله فجاء فقير ثيابه متهدلة وجلس عند هذا التاجر فقام هذا التاجر وجرّ رداءه، ثم سأل رسول الله هذا التاجر، ولاحظ الأسئلة التي سألها الرسول لهذا التاجر، أولاً اعترف الرسول بأنه لا يريد أن يبني مجتمعاً متفاوتاً والعامل الطبقي هو الذي يلعب دوره، قال له: أَخِفْتَ أن يمسّكَ فقره؟
فأنت سحبتَ رداءك خوفاً من التصاق فقر هذا الرجل بك؟ قال له: لا أعتقد أن الفقر يمسني لمجرد جلوسه عندي، فقال له: هل خفتَ أن يمسه شيء من غناك؟ أي أنت لا تحب الخير لغيرك بحيث خفت أن يلتصق به شيء من الغنى الذي تتمع به أنت؟ قال له: لا ، قال فخفت أن يوسّخ ثيابك؟ وهذه الأسئلة الثلاثة مقبولة، فحينما يريد أحد أن يُفقرني فقطعاً سأجرّ ثيابي، وإذا كانت أموالي ستذهب له أيضاً لا أرضى بذلك، ولكن عندما قال له أخفت أن تتسخ ثيابك أيضاً قال لا، فقال له الرسول هذه هي الحقوق المشروعة التي حتى تجر ثيابك، فلماذا إذن فعلت ذلك؟ فقال له: إِنْ هو إلا قرين يعتريني، يعني هي حالة نفسية مريضة يا رسول الله، فقد رأيته جالساً عندي فسحبتُ ثيابي ، فقال التاجر : لأعطينّه نصف مالي، أي حتى أرضيه وأرضيك يا رسول الله فأنا مستعد لأن أتنازل عن نصف أموالي، قطعاً البعض قد يقبل بذلك، حتى ولو بربع أمواله أو أقل من ذلك، لكن هذا الرجل الفقير مختلف؛ لأن الرسول استطاع أن يُربّيهم والمال لا قيمة له عندهم، بل الإنسان هو الذي له قيمته، نعم الإنسان بكرامته حتى الذي يأكل التمر ويقتات على الحشائش هو حتماً أفضل من ذلك الإنسان التابع الذليل الذي يُعطى الأثمان ويُعطى الذهب فيكون ذيلاً لجهة منحرفة ، حينها قال الرسول لذلك الفقير: أتقبل نصف ماله؟ فالرجل هنا يريد أن يرضيك لأنه شبه أهانك وأنت مؤمن ولا يجوز إهانة المؤمن وهو يريد أن يشتري رضاك بنصف ماله، فقال هذا الرجل الفقير العظيم: لا يا رسول الله فأنا عفيتُ عنه، ولا أريد منه أموالاً، فقال له الرسول : لماذا؟ قال: لئلا يُداخلني ما داخله، أي أنه يريد أن يقول بأنني أنا مرتاح هكذا، لاحظ المنظومة الروحية هنا في تربية الرسول الأعظم .
- درهمان يغيران رجل مؤمن
رواية أخرى لطيفة تدل على اهتمام الرسول بالمنظومة القيمية، أنه مهما بلغ الإنسان من مال فبعضهم حقيقة على الرغم من لبسه الحرير، إلا أنه أقل قيمة عند الله عز وجل من جناح بعوضة، وأن الإنسان الفقير مع إيمانه وامتلاكه لتلك القيم، هذا الفقير الذي رفض نصف أموال ذلك الغني ، فهو عند الله عز وجل الله أفضل منه ومن أمواله ومن خدمه ومن حشمه.
رواية أخرى أن هناك رجلاً يقال له سعد من أصحاب الصفوة، أصحاب رسول الله ، هذا إنسان فقير، وأصحاب الصفوة هم مجموعة في مسجد الرسول فقراء ليس لهم قبائل ولا عشائر بل أسلموا ويلحقون برسول الله في صلواته في غزواته ، وما عندهم شغلة، والناس تكفيهم أمورهم، الرسول بالنسبة لسعد هذا الذي هو شاب لطيف ملتزم بصلواته أراد له الخير، فكان يتمنى لو أنه يرزق شيئاً من المال ويعطيه ليكتسب تألم لأنه بعد عدة أيام لم تأته نقود لعلم الله عز وجل بالألم النفسي لرسول الله بعث جبرائيل بدرهمين، أعطاهما رسول الله حيث نزل جبرائيل فقال يا رسول الله : هذان الدرهمان لفلان، فلان هذا أخذ الدرهمين بدأ يبيع ويشتري، ما يشتريه بدرهم يبيعه بدرهمين، وما يشتريه بدرهمين يبيعه بأربعة، فكثر ماله ، وبدأ بعض الأيام يصلي جماعة وبعض الأيام لا يصلي، قد يصلي في المحل مثلاً، بعد ذلك أخذ لا يصلي مطلقاً حيث يراه الرسول واقفاً أثناء دخوله للمسجد، فيسأله: لم لا تدخل يا سعد للمسجد لأداء الصلاة ، فيرد عليه سعد قائلاً: يا رسول الله الإنسان لا يفرط في ماله وهذا الشخص عنده لي شيء من المال وأراه يصلي خلفك فأنا أقف عند الباب لأوفي ديني منه، وقد أقف لأعطي شخصاً ما مالاً كان ابتاعني، الرسول تأذى ، نزل عليه جبرائيل كما في الراوية يقول له: لِمَ تألّمك؟ فقال: افتقدنا فلاناً الذي كنا وبسبب الدرهمين أفقدناه لذة الدخول إلى المسجد فقال له جبرائيل: اطلب منه الدرهمين فقط، قل له: أعد الدرهمين اللذين أعطيتهما لك- لذلك بعضهم لا يصلحه إلا الفقر فإذا أنا فقير أو متوسط الحال فلا أنزعج لأن الله لا يرزقني لأنه واقعاً قد يكون أحياناً أفضل لي، أحسن لي أبقى على هذه الكيفية ـ الرسول الأعظم قال له كما في الرواية قال له: ألا تُنْقِدُنا القرض الذي أعطيناك إياه؟! فأعطاه الدرهمين، وبدأت الخسائر تترى إلى أن رجع يحافظ على صلاته أحسن من السابق.
- القيم أهمّ!
الرسول كانت القيم عنده أهم، والإنسان عنده أهم من المال، لذلك الرسول لم يجر لتكوين ثروة، الرسول ثروة خديجة ، وخديجة من ذوي أصحاب الملايين والمليارات، امرأة متمولة ، ولكنه صرف كل أموال خديجة على الدعوة، ولم يجمع بعدها ثروة، القضية عنده مسألة القيم هي المهمة.
إذن عنده المنظومة القيمية والانضباط الإداري، ولأول مرة تعرفها الأمة ويعرفها العرب، فالعرب عندهم كان كل شيخ قبيلة يحكم في قبيلته ، كل واحد عنده قوة أو سلطة سواء سلطة مالية أو حتى مجموعة من المجرمين مجموعة من الشياطين حوله يحكمون هذا البلدة أو تلك.
- أول من أوجد النظام الإداري
لذا فالرسول هو أول من أوجد الدولة العربية في هذه المنطقة، نعم كان القساسنة والتبابعة يمارسون شيئاً من ذلك، لكن في الحجاز وفي هذه المنطقة لم تكن موجودة مثل هذه الحالة ، لذا فالرسول الأعظم هو أول من أوجد النظام الإداري ، فكان يمارس حالة القضاء وإدارة الدولة في آن واحد، أكثر من ذلك نحن نعرف أن الرسول الأعظم لم يستخدم السيف لنشر الدعوة فلم ينشر الدعوة بالسيف وإنما استقطب هؤلاء في مكة المكرمة وهم من اقتنعوا ثم جاء جماعة إلى المدينة واقتنعوا أيضاً فأرسل إليهم مصعب بن عمير ليرتب شؤونهم ويعرّفهم أحكامهم هذا هو الجانب الإداري يمثله وكان رسول الله حينما يبعث بجيش فإن يؤمّر عليه أميراً، وإذا ترك المدينة أمّر عليهم أميراً، هذا النظام لم يكن العرب ليعرفونه في السابق فكان نظاماً جديداً بالنسبة لهم.
- ما الذي فعله الرسول بعض وضع هذه النظم؟
لأنه يريد أن يبني حضارة ويبني وجوداً فهذه الحضارة لا تبنى إلا على العلم، لذا بدأ بتشجيع العلم والعلماء، من الناحية الفكرية والثقافية شجع المسلمين في عدة مواضع، ومنها: ( اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد)، ( اطلبوا العلم ولو في الصين ) هذا من جانب، ومن جانب آخر حينما أسر جماعة في واقعة بدر الكبرى ، وهنا بإمكان الإنسان أن يقول : أنا محتاج للمال ، أنا للتو أبني دولة فكل واحد يفتدي بنفسه أو بمائة ناقة من الإبل، فيحصل على أموال كثيرة وجماعة هذا الأسير أو ذاك على استعداد لأن يدفعوا، فلماذا لا أستغل هذا الأمر وأبني ثروة؟! لكن الرسول لم يفعل ، لذلك أنا أقول بأن الرسول له قصب السبق في تبني التعليم المجاني والصرف عليه أيضاً، بذل المال من أجل التعليم المجاني يعتبره حقاً من الحقوق المواطن، أي لا يمنّ على من يعلمه هذا المراد أنه يدعمه، والرسول قال لهؤلاء الأسرى: ( من علّم عشرة من أصحابي القراءة والكتابة فهو حر ) لا أريد منه أموالاً وكان هذا الفداء سهلاً لديهم، لكنه عند الرسول كان ذا قيمة لأنه تُبْنى عليه دولة الإسلام وهو العلم والتعلم، وهذا ما فعله الرسول الأعظم ، أكتفي بهذا المقدار وأسأل أن يوفق الجميع ، وكان من المفترض أن يكون هناك حديث عن الإمام الصادق لكنه سيأتي في الأيام المقبلة هذا وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.