الشيرازي المثال الغائب 1/2


مثلت مرجعية الإمام الشيرازي نقطة انقلاب وتحول في الحالة الدينية والفكرية والاجتماعية في واقع المذهب الشيعي بخروجها عن المتعارف الحوزوي والعلمائي، حيث كان رجال الحوزات الدينية أشبه ما يعيشون حالة من الرهبنة والانعزال عن عامة الناس حتى من توجيههم وإرشادهم، واكتفاء المكلف في ارتباطه بمرجع تقليده من خلال رسالة الأحكام ودفتر الحقوق السنوي لا أكثر، فكانت الحالة الثقافية في المنطقة في وضع متردي حيث "حالة الجمود الثقافي والفكري عدا حالات نادرة، وكذا انعدام الأنشطة الدينية والاجتماعية إلا في إطارات ضيقة... حيث غياب الحالة الجماهيرية من المحافل الثقافية والفكرية" (1).

وهنا أتى الإمام الشيرازي (2) "قدس سره" ليقود ثورة التغيير بنفسه ويحفز من حوله لتوسيع التموج التغييري والخروج به من محيط كربلاء إلى الخليج وكل دول العالم الغنية منها والفقيرة، فلا تجد بلاداً قريبة أو بعيدة – ولست مبالغاً-  إلا وله مركز أو مؤسسة أو جامع أو نشاط تبليغي. ومما ساعد على نجاح هذه الثورة الفكرية الإشراف المباشر من المرجع/الناهض على العديد من المشاريع الخيرية، يقول – قدس سره - :" وكانت في كربلاء المقدسة حركة ثقافية.. هي حركة نشر الكتب المجانية، وقد كنت بنفسي أدير دفة هذه المؤسسة مما يصلني من التبرعات والحقوق، وهذه المؤسسة تمكنت في ظرف عشر سنوات تقريبا أن تنشر قرابة خمسة ملايين كتاب في شتى العلوم ومختلف المجالات، ومختلف البلاد: العراق، وإيران، ولبنان، وبلاد الخليج، والهند، والباكستان، والأفغان، والسعودية، وتركيا، وأفريقيا، وأوروبا، وأمريكا.. كما أنها كانت بمختلف اللغات" (3) وهذا مما ساعد كثيراً في نقل تلك العلوم والمعارف في الجوانب الاقتصادية والوطنية والدينية والتعريف بمنهج أهل البيت إلى شرائح متعطشة من المجتمع لم تعتاد هذا النوع من المعارف في الحالات المرجعية المتقدمة، فلم تسعى تلك المؤلفات للبحث عن الذات والهيمنة الشخصية، بل كانت متنوعة يجد القارئ فيها نوعاً من الضخ المعرفي كوسيلة للمضي قدما نحو التغيير والبناء على مستوى المؤسسات والكفاءات البشرية ما يساهم في إحداث حراك ثقافي وديني في المنطقة التي تعمل وفق المنهج.

 وإلى جانب الكتاب، قدم الحسيني الشيرازي نموذجاً رفيعاً في اطلاع المرجع على هموم الناس ليؤسس بذلك منهجاً حياً إلى يومنا هذا، فكان –رحمه الله- يلتقي بزواره ويلقي فيهم الكلمات التشجيعية والنصائح الأبوية من خلال المحاضرات المباشرة أو من خلال اتصاله بكافة الناس حتى من غير مريديه عن طريق الكاسيت المسجل الذي تخطى جميع الحدود المصطنعة بين الدول الخاضعة للقوانين الوضعية التي لم يرتئيها المرجع الراحل، كل ذلك وغيره أسهم بشكل فاعل في تغيير الوضع القائم في المنطقة إلى حالة من التنافس والعمل الاجتماعي، فلا تلتقي بالشيرازي أو تقرأ كتاباً له أو تستمع لواحدة من محاضراته إلا وتخرج وأنت في تفكير دائم لتطبيق ما استوعبه العقل عملياً فيما طرح من فكرة أو دعوة تخدم المجتمع لتتفجر على أرض الواقع إلى مشروع خيري أو اجتماعي أو ندوة فكرية تساهم في خلق نمط جديد من التفكير والمعالجة للقضايا القائمة.

لم يقف الإمام الشيرازي "قدس سره" عند مشروعه الحضاري والعمل لأجله فحسب، بل كان يستشرف الأحوال الإسلامية المختلفة ويتحسس واقع الأمة، فكان يتحسس آلام الناس ويدعو الآخرين لمشاركتهم لإنجاح طموحاتهم وآمالهم، ولعل واحداً من تلك المشاركات ما قام به من تحشيد سكان مدينة كربلاء لاستقبال الإمام الخميني "قدس سره" ودعمه إعلامياً في حربه مع الشاه، فقام بالتحرك سياسياً وإعلامياً لدعم الإمام وثورته المباركة "ودفع السيد الشيرازي آلاف الجماهير لاستقباله والحفاوة به حتى قدمه إماما للجماعة مكانه في صحن الإمام الحسين عليه السلام واقتدى به أيضا وكتبت الجرائد البيروتية في وقتها: الخميني فجر الثورة في قم والشيرازي أوصل صوته إلى العالم من كربلاء" (4) والكلام  لوزير خارجية الشاه أردشير زاهدي.

والسؤال: هل غيرت المكانة الرفيعة التي حظي بها المرجع الشيرازي شيئاً من مبادئه وأفكاره ؟


(1) العليوات، محمد – كتاب: مرجعية الإمام الشيرازي عمق التحولات وآثار النهضة.
(2)هو آية الله العظمى السيد محمد بن السيد مهدي الشيرازي (1347- 2 شوال 1422هـ)
(3) الشيرازي، السيد محمد بن مهدي- كتاب: عشت في كربلاء.
(4) البحراني، الشيخ عبد العظيم المهتدي- كتاب قصص وخواطر العلماء.