المعصوم يفتدي شيعته
ألقى حجة الإسلام والمسلمين الشيخ عبد الله النمر كلمة في المجلس الاستنكاري للاعتداء على مرقد العسكريين الذي أقيم باسم المجاميع النسائية في المنطقة وذلك يوم الجمعة الموافق 29/ 5/ 1428هـ في مسجد العباس بالربيعية. وهذا نص الكلمة :
المعصوم يفتدي شيعته
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله محمد وآله الطاهرين المعصومين الميامين ، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين ، إنا لله وإنا إليه راجعون .
الحديث فيما جرى من ضرب منارة العسكريين (عليهما السلام) حديث ذو شجون ، له أبعاد كثيرة على مستوى الواقع وعلى مستوى الشريعة ، له أبعاد كثيرة على مستوى التاريخ وعلى مستوى الواقع أو على مستوى الجهات العقائدية ....
بودي أن أجمع هذه الجهات في مجموعة من على مستوى نقاط ...
النقطة الأولى :
الرسول وأهل بيته - أنفسنا لآلمهم الفداء - هكذا كنا نتأدب نحن الشيعية بين يدي أهل البيت عليهم السلام ، نخاطبهم أنفسنا لكم الفداء وأقل الفداء ، نحن نقولها بألسنتنا وهم يفعلونها بأبدانهم وكفاحهم .
مر عليكم مفهوم المخلص الذي يعيشه المسيحيون ، قد لا يكون هذا المفهوم واضحاً ، لا لدى المسيحيين ، ولا المسلمين ، رأيت رواية عن الإمام الكاظم يقول (أنا افتديت شيعتي بالسجن) لا أدري ماذا كان حال الإمام في السجن حتى أنه سلام الله عليه يفتدي الشيعة بنفسه - ونفسي لنفسه الفداء - .
وقد رأيت بعض العامة من أخذ رواية الإمام الكاظم هذه وأخذ يقارن بينها وبين بعض الأفكار المسيحية .
وهناك رواية بهذا المعنى (وددت والله أني افتديت خصلتين في شيعتنا ببعض لحم ساعدي : النزق وقلة الكتمان) يعني لو كان بإمكاني أن أفتدي هاتين الخصلتين وأقدم لأجل التخلص من هاتين الخصلتين بعض لحم ساعدي وهاتان الخصلتان هما النزق وقلة الكتمان . كأنما الإمام يريد أن يعادل بعض شيعته ببعض لحم ساعده الشريف ، وهذا ليس بدعة في كلام الإمام الكاظم أو الإمام السجاد (عليهما السلام) فقد طرق أسماعكم عن رسول حينما وجد ألم النزع قال لعزرائل (إذن شددوا علي وخففوا على أمتي) صلى الله عليك يا رسول الله وعلى أهل بيتك ، عليكم أفضل الصلاة وأتم التسليم ما يليق بمقامك . أقول نحن نقول لأئمتنا (عليهم السلام) : نحن لكم الفداء ، ولكن في الحقيقة هم الذين يفتدون بأنفسهم واقعنا وما نعيشه من قصور وتقصير ، الأئمة عليهم السلام هم الذين يتصدون لكل هموم الأمة ،من هنا ذكرت بعض التفاسير في تفسير فوله تعالى (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) أي ذنب أمتك . وهذا يفتح لنا بابا إلى النقطة الثانية .
النقطة الثانية :
قد تقولون ليس كل الأمة مذنبة ، أقول : من مجموع الأمة . بمعنى ما يجري على الأمة بما كسبت أيديها ينعكس بآثاره على الصالحين والطالحين ، ولعله طرق أسماعكم الرواية التي وردت أن الله عذب مئة ألف ، أربعين ألف من الطالحين وستين ألف من الصالحين ، وعندما سئل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أن الطالحين بما كسبوا فلماذا ينال العقاب الصالحين ، فقال : لأن الصالحين لم يكونوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
إن حركة الأمة حركة واحدة وهذا ما جمعه الشهيد الصدر بشكل مفصل في بعض كتبه عندما تحدث عن القوانين الطبيعية لحركة الأمم ولحياة الأمم .
النقطة الثالثة :
وهي معرفة الفقه والتأمل في الفقه , فقه الحياة ، فقه الحكومة ، فقه المسيرة ، فقه الدين .البعض يتصور أن الفقه علم يتعلق بشؤون الفرد وأحواله ، فقط وبهذه النقاط الجزئية ! الفقه شامل لكل جوانب الحياة لا أنه مجرد أحكام جزئية مفككة - كما هو سائد مع الأسف في أذهان كثير من الفقهاء- وإنما قد عالجه وعدله الشهيد الصدر في بعض كتبه إذ أنه يقول : " هناك كثير من الفقهاء ينظر للشريعة على أنها أحكام جزئية متناثرة لمعالجة الواقع العملي والعبادي للفرد المؤمن في أحكام الصلاة وأحكام الحج ، وأحكام الإرث وغيرها من العبادات والمعاملات " أما ما هي واجبات الأمة ...!!
أريد أن أقف معكم هنا . لا يظن أحد أنه قد فرغ من التكليف إن أدى واجباته الفردية في حال أن الأمة بمجموعها تسير باتجاه خاطئ ، ربما قد نشبه المؤمنين بجماعة في مركب واحد ، لو فرض أن هؤلاء تقاسموا المركب ، فلا يحق لأحد أن يقول أنا هذا مكاني أستطيع أن أعمل به ما أشاء حتى لو أغرقه .. فهذا الكلام لا معنى له في وقت وجودنا في مركب واحد ، فلو تركناه يفعل ما يريد في مكانه غرق وأغرقنا معه ، ولو أخذنا على يده سلم وسلمنا ، التكاليف أيضاً بهذا اللون يعني بمقدار ما يتحرك كل منا على جمع الاتجاه العام وتوجيهه نحو الصلاح فإن المجموع يصلح.
كنت أتحدث على أن الشريعة مسيرة متكاملة ، البعض يتلقى الشريعة أنها مجموعة تكاليف لضبط تصرفات الفرد يجوز له أكل كذا ، ويستحب له صيام هذا اليوم و.... لكن من الواضح أن الشريعة تهدف أول ما تهدف إلى تسيير حركة الإنسان نحو كماله ... نحن لا نكتفي أن نشكل هيئة اجتماعية متكاملة من أفراد ناقصين ، كذلك لا نكتفي أن نصلح الفرد من غير أن نبني مجتمعاً فاضلاً ، هذا الفقه المتداول بأيدنا ، هذه الشريعة السائدة في مجتمعنا مفهومة بشكل مغلوط ، لماذا يظن الإنسان أنه بمجرد أن يؤدي التكاليف الجزئية أنه خرج من دائرة التكليف وسار مطمئناً بفراغ ذمته ؟ والحال ليس كذلك ، بل علينا تكاليف تجاه الأمة لتحريك الأمة ، نحن أعضاء في هذه الأمة . لأوضح لكم مرادي أضرب لكم مثالاً في ساحتين متفاوتتين ، الساحة العراقية والساحة اللبنانية . الساحة العراقية لها ملاباساتها والتي أشرت أليها قبل قليل في ذكر هذه الحادثة ولها أبعاد عدة قد لا يسع المجال لذكرها ، وإن لم يكن مرادي أن أتحدث عن الواقع العراقي واللبناني ، ولكن أشير ... من الواضح جداً ومن المؤسف جداً الاختلاف في لبنان بين الفرقاء والتيارات والاتجاهات . لاحظوا عندما ثارت الحركة الإيمانية وفَعَّلت الإيمان ، لم تنتج نتاجاً أثر عليها فقط ، بل انعكس هذا الواقع على مجموع الساحة وليطال حتى الحركات الأخرى ومسؤوليها بل وسفراء الساحة اللبنانية . منطق الكلام ومستوى التعاطي في الساحة اللبنانية أصبح أكثر إنسانية . أصول المعاني أربع ، بتعبير آخر نقول أن الحركة الإيمانية رفعتها بـ سقف المعاني و سقف السير وسقف الأدب و سقف الإنسان ، أصبح هو المقدم على السلاح ، أصبح منطق التهديد غير ناجح في هذه الساحة ، عموم الناس في لبنان أصبحوا يقيمون الأمور تقيماً أخلاقياً . لأن الصالحين في لبنان كوَّنوا واقعا صالحا .
في الساحة العراقية ، أقول لبعض الإخوة أنه في الساحة العراقية لم يبق مقدس إلا استغل ، ترون أنه قد يتلبس بلباس المرأة ، يلس عباءة المرأة ليجعل منها أداة للتستر للقضاء على خصمه ، قد يعمل بطريقة أخرى مستفيداً من المسجد الذي له قدسية ، ويتوسل ثالث بالقرآن الذي له قدسية ليقضي على خصمه ، هذا التسافل والتسابق في التسافل .. لم يعد للقرآن قيمة لأنه قد يكون مفخخاً ، لم يعد للمسجد قيمة لأنه قد يكون مأوى للإرهابيين ، لم يعد للمرأة حصانة لأنه قد يكون خلف هذا اللباس مفجراً .... حتى الأعراف الإنسانية ، سيارة الإسعاف ، سيارة الإطفاء ، التي ينبغي أن يكون لها مقدار من الحصانة استخدمت في الخداع .... بهذا الوضع أصبح حتى المؤمنين يتعاطون مع العراق بأنه بلا قيم ، بلا مقدسات ، بلا اعتبارات ، هنا يأتي دور المعصوم في هذا الحالة بأن يكون هو الفداء هو يقدم نفسه حياً وميتاً . لم تكن الأمور يمكن أن تصل إلى هذا المستوى بالتفريط في هذه الثوابت . أؤكد أخواتي ، ليس قصدي أن أعطي للمشكلة هذا اللون , ولكن أريد أن أسلط الضوء على المشكلة وإلا الواقع السياسي أعقد من هذا ، هناك أصابع كافرة ، هناك أصابع لا تؤمن بقيم ، هناك أصابع تتقصد أن تجر الساحة إلى أدنى حد من التسافل ، لا أريد أن أتكلم عن الموضوع بكل جوانبه ، أنا أريد أجمع بعض التوافقات ..... أنا أقول: الذي يؤثر في الساحة العراقية بشكل أقوى... وكل قيادة وجهة تقع عليها اللوم ، أنا لست في مقام توجيه اللوم ، أقول لماذا تصل الأمور إلى هذا المستوى ؟ لماذا كل الأطياف العراقية يصلون إلى هذا اللون من عدم الانضباط ؟؟
وأقول في الساحة اللبنانية ، بهذه الثلة من المؤمنين استطاعوا أن يرفعوا سقف أدب الصراع وأدب النزاع ... نعم قد يحصل قتل وقتال ولكن لا يعني هذا أن تنتهك القيم والمبادئ ، سمعتم بالأحكام الإسلامية في القتال ، لا يجوز هتك الحرمات لا يجوز التجاوز على القيم والمبادئ ، نعم خصمي أقاتله وأقتله لكن لا أجيز لنفسي أن أقتل الذوق والإحساس والقيم والمشاعر ، في حين تجد كل الاتجاهات تسابقت على أن لا تبقي حرمة ولا تبقي كرامة ، ولا تبقي مقدسة ... والمشكلة أن هذه الألاعيب ليست في ميدان عملها فقط بل أنه أصبح يلوح هنا وهناك بخيرات هذه الساحة ، إثارة النعرات وإثارة هذه الأحاسيس الضيقة ، تجييش مشاعر العداء تحت أي عنوان عرب وأكراد ، سنة وشيعة ، بل حتى الشيعة الآن يتقاتلون فيما بينهم ، وحتى السنة يتقاتلون فيما بينهم ، ما شاء الله ، الآن الساحة مليئة بالمغررات ، عندما يضيق الأفق ، وتفقد القيم ، تصبح الساحة مهيئة لكل الجرائم ولكل الأخطاء ، وهنا يأتي دور الشهداء ، أنا عندما ابتدأت حديثي بالمخلص ، لا تستغربوا أخواتي عندما أقول لكم أن أئمتنا هم مخلصين ، الشهيد ماذا يعني؟ الشهيد يقدم روحه ودمه في سبيل أمته وعقيدته ومبادئه ووطنه ، حتى الإنسان الكافر إذا قدم دمه في سبيل أمته شهيد ، الله سبحانه وتعالى يرفع من قدر الإنسان بمقدار تضحياته وعطائه ، لا يبخس أحداً شيئاً ، أقول الشهيد عندما يقدم دمه وروحه لأجل عقيدته ومبادئه وأمته فهو مخلص لها من آلامها ، مخلص لها من المذلة ، مخلص لها من الهوان ، مخلص من الاستعمار ، مخلص لها من الانقياد . هذا الشهيد ، وأما أئمتنا فهم أعظم من ذلك ، ولذلك مازالوا (عليهم السلام) هم يقدمون الفداء لأممهم ، وهذا ما يظهر جلياً على لسان الإمام الكاظم (سلام الله عليه) والإمام السجاد(عليه سلام الله) وهذا ما يظهر في عبارات المصطفى - بأبي هو أمي- الذي يفتدى ما يخافه على أمته .
بالنظر أخواتي للساحة اللبنانية والساحة العراقية ، إلى أي مدى ينبغي أن نتحرك لدفع وتحريك واقعنا المعاصر إلى ما ينبغي أن يكون عليه؟ إذا لم نكن في الساحة اللبنانية ولا في الساحة العراقية فهذا لا يعني أننا لسنا مكلفين بالنظر إلى واقعنا وتصحيح الملابسات في هذا الواقع ، ماذا يعني هذا الواقع وفي أي اتجاه يسير؟ هل هو يسير باتجاه الصلاح ، باتجاه التقدم والفلاح أم أنه يسير باتجاه التراجع والهبوط على كل الأصعدة ، على الصعيد الثقافي ، على الصعيد الأخلاقي ، على الصعيد الفكري والصعيد الاجتماعي والصعيد الأسري ، كل الأصعدة مهددة بالخطر، نحن مكلفون اليوم أن نعيش مع هذا الواقع الذي يحيط بنا ، وأن نعمل ما بوسعنا لتصحيحه، وإن لم نعمل بتكليفنا نكون قد ساعدنا في توسيع دائرة الخطر نسأل الله سبحانه أن يلطف بنا وأن يهدينا إلى ما فيه صلاحنا في الدنيا والآخرة . والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد على محمد وآله الطاهرين.