شرر يتطاير من العراق
هذا العنوان هو المشهد الواضح لعالمنا الإسلامي والعربي منه على وجه الخصوص، والخصوصية هنا نابعة من الجوار أو اللغة المشتركة، والطبيعة الانفعالية في العالم العربي بدل الإرادة الفاعلة.
العديد من الأقطار العربية بشعوبها وجماعاتها ومثقفيها وكتابها قبلت واستساغت أن تؤجج الصراعات وتكثف الاحتقانات، وتزيد الهوة عمقا بين مكونات مجتمعاتها على وقع ما يحصل في العراق من إرهاب يومي يملأ شوارعها وفراتها دماً مسلماً عربياً عراقيا بريئا.
لا زال العراق قويا في تحريك الاصطفافات في عالمنا العربي والإسلامي، فيوم غزوه وحربه على إيران احدث تموجات وانقسامات في الواقع العربي والإسلامي، واوجد تخندقات ومتاريس حيرت الشعوب في تخيير مواقعها واصطفافاتها، ويوم بدأ هجومه الغاشم على الكويت وهجر شعبها، واعتدى على بلادنا بدخول بعض أطرافها واستهدافها بالصواريخ، هز بعض الشعوب ودغدغ مشاعرها فخرجت في تظاهراتها المعتادة تصفق للعراق البطل وحامي العروبة، وحين تحدى العالم بأسره في الحرب التي أسقطته ودمرت نظامه المستبد لم يتوقف مبضع العراق عن تفجير الصراعات في العالم العربي والإسلامي.
ونصل اليوم حيث يقتل العراقي عراقياً مثله، يشاركه الدين والمواطنة وأحيانا اللغة، فتكثر الجثث المجهولة، ويُعتاد القتل على الهوية، ويتحول استهداف الفقراء والأسواق والحافلات التي تقل الأبرياء من نساء وأطفال وشيوخ إلى شجاعات وملاحم وانتصارات على صعيد الداخل، وفي ذات الوقت تتحول إلى مواد إخبارية مزعجة تحقن العالم العربي حول العراق.
فلماذا يتطاير اللهب العراقي ويجد أراضي جاهزة لاستقباله والانفعال به؟
- أود هنا أن أذكر بعض الأمور القابلة للتفكير في شأن شرر الفتنة المتطاير من العراق إلى ما يصله من المناطق وهو في حالة اشتعال قادرة على التأثير:
أولا: احتمل أن الأمر يعود إلى مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي لا زالت تسمع فقط وفقط الآهات والآلام التي تصلها من امتداداتها الطبيعية مع الشعب العراقي، فكل طيف وكل لون في عالمنا العربي، يسمع الصرخات والمصائب التي تحل بشبيهه في العراق، ولذلك ينفعل ويحتقن على الآخرين الذين تسببوا في هذا الألم الذي يحل بمن يراهم صورة قريبة أو حاكية عنه، ويتحمس لموقفهم ، ويدافع عن ما آلت إليه أمورهم.
وهذا عينه يحصل في الأطياف الأخرى التي تسمع من امتداداتها وأشباهها في الداخل العراقي فتنفعل وتتوتر ضد الآخرين، ولن يزول هذا التوتر في مختلف الأقطار والدول العربية والإسلامية إلا حين يتألم إنسان هذه الأقطار على ما يحل بالإنسان العراقي العربي أو غير العربي، المسلم أو غير المسلم من مصائب وفتن دون تمييز أو تفريق.
وثانيا: لن يقف هذا الشرر عن إشعال الحرائق والفتن حتى يكون المعتدلون والعقلاء في مختلف الأقطار أصحاب حزم وعزم في التصدي الصريح والواضح لكل مظاهر الفتن والتمزق، صحيح أنهم تحت ضغط الجهلاء والحمقى من مختلف الأطياف الذين يرجفون في كل الأقطار ويرقصون ويحملون راية الشيطان في نشر الفتن بين أبناء المجتمع، محاولين أن يلصقوا بهم (العقلاء) تهمة التخاذل عن نصرة إخوانهم أو السكوت على تقتيلهم، ولكنه الدور الذي لابد منه وان دفع العقلاء والحكماء ومحبو الخير ثمنه غاليا بسبب مواقفهم المعتدلة ورؤيتهم الصائبة للأمور وتقلباتها.
على العكس من كل ما يراد حملهم عليه، وإكراههم على فعله بتناولهم وتجريحهم واتهامهم فإن الحاجة ملحة لهم في بقائهم موجهين ومرشدين إلى الخير والتسامح ووأد الفتن، لأنهم صمام الأمان.
ثالثا: مقابل الهجوم المتواصل الذي يتعرض له المعتدلون من أولئك الذين يدفعون ويؤلبون من أجل إشعال الفتن بين الناس وإشغالهم ببعضهم عن أهدافهم ومصالحهم التنموية والاقتصادية والحضارية، آن الأوان لتلاقي المعتدلين وتعاونهم مع بعضهم، واستقوائهم على الضغوط بتوحيد الجهد والتشاور في تحريك الأمور، ورسم المسارات المناسبة لحماية المجتمع من كل شرر متطاير أو إرادة ضالة.
إن ما يحصل في العراق ليس فعلا عراقيا صرفا، وإن جرى ونفذ بأيد عراقية، وليس فعلا دينيا وان أوقعته وتبنته عناوين دينية، كما انه ليس فعلا مذهبيا مهما حاول أي طرف أن يلصقه بالطرف الآخر.
ما يحصل في العراق هو الفتنة بكل معانيها، الفتنة التي وزعت الاتهامات يمنة ويسرة، والفتنة التي تفرح كلما جرت انهار الدماء العراقية مدفوعة بإحراز نصر موهوم على شركاء الوطن، وتعاون المعتدلين والعقلاء هو الأمل الباقي بعد الله سبحانه وتعالى ليكون الحصن المنيع لمجتمعاتنا الآمنة والمطمئنة.