الحسين تجليات الرحمة الإلهية

أ . بدر الشبيب *
اقرأ للكاتب أيضاً

يتساءل المرجع الديني الشيخ الوحيد الخراساني ( دام ظله ) في إحدى محاضراته العاشورائية قائلا:

لماذا تلقى الحسين دم قلبه بيده ورمى به إلى السماء ؟ ! وكم مرة فعل ذلك ؟ وفي إحداها مسح به وجهه وبدنه ! وأي دم صعد إلى السماء ، وأي دم مسح به رأسه ووجهه ؟ وهل وقع من دمه على الأرض ؟ ولماذا لم يتركه الإمام الحسين يجري على الأرض ؟ ! ولو جرى على الأرض هل تبقى أرض وأهل الأرض ؟ !
ثم يعلق الشيخ الوحيد على ذلك بقوله: إن هذا هو معنى: السلام عليك يا رحمة الله الواسعة ويا باب نجاة الأمة .

لا يمكن حصر مفردات التجليات الرحمانية والرحيمية في نهضة الإمام الحسين ، فهي رحمة من ألفها إلى يائها، رحمة في مقاصدها وغاياتها، ورحمة في وسائلها، ورحمة في حركاتها وسكناتها، رحمة عامة في جانبها الرحماني تشمل حتى العدو، وخاصة في جانبها الرحيمي مختصة بالمؤمنين بها.
كلنا يعلم كيف وقف الحسين من الحر الرياحي وقومه المكلفين من قبل ابن زياد بمنعه من العودة إلى المدينة،
يقول التاريخ: فلما رأى ما بالقوم من العطش أمر أصحابه أن يسقوهم ويرشفوا الخيل، فسقوهم وخيولهم عن آخرهم.
ولنذكر ثلاثة نماذج أخرى أعجب من هذا النموذج:

1- الحسين مع عبيد الله بن الحر الجعفي

قال صاحب خزانة الأدب الكبرى : لما ورد الحسين قصر بني مقاتل رأى فسطاطا مضروبا ، فقال : لمن هذا ؟ فقيل : لعبيد الله بن الحر الجعفي . فأرسل إليه الحجاج بن مسروق الجعفي ، ويزيد بن مغفل الجعفي فأتياه وقالا : إن أبا عبد الله يدعوك . فقال لهما : أبلغا الحسين أنه إنما دعاني من الخروج إلى الكوفة حين بلغني أنك تريدها فرار من دمك ودماء أهل بيتك ، ولئلا أعين عليك ، وقلت إن قاتلته كان علي كبيرا وعند الله عظيما ، وإن قاتلت معه ولم أقتل بين يديه كنت قد ضيعته ، وإن قتلت فأنا رجل أحمى أنفا من أن أمكن عدوي فيقتلني ضيعة ، والحسين ليس له ناصر بالكوفة ولا شيعة يقاتل بهم . فأبلغ الحجاج وصاحبه قول عبيد الله إلى الحسين فعظم عليه ، ودعا بنعليه ثم أقبل يمشي حتى دخل على عبيد الله بن الحر فسطاطه فأوسع له عن صدر مجلسه واستقبله إجلالا وجاء به حتى أجلسه . قال يزيد بن مرة : فحدثني عبيد الله بن الحر قال : دخل علي الحسين ولحيته كأنها جناح غراب ! فما رأيت أحدا قط أحسن ولا أملأ للعين منه ، ولا رققت على أحد قط رقتي عليه حين رأيته يمشي وصبيانه حوله ، فقال الحسين : ما يمنعك يا بن الحر أن تخرج معي ! ؟ فقال ابن الحر : لو كنت كائنا مع أحد الفريقين لكنت معك ، ثم كنت من أشد أصحابك على عدوك ، فأنا أحب أن تعفيني من الخروج معك ، ولكن هذه خيل لي معدة وأدلاء من أصحابي ، وهذه فرسي المحلقة فوالله ما طلبت عليها شيئا قط إلا أدركته ولا طلبني أحد إلا فته ، فاركبها حتى تلحق بمأمنك وأنا لك ضمين بالعيالات حتى أديهم إليك أو أموت وأصحابي عن آخرهم دونهم وأنا كما تعلم إذا دخلت في أمر لم يضمني فيه أحد . قال الحسين : " أفهذه نصيحة لنا منك يا بن الحر " ؟ قال : نعم ، والله الذي لا شئ فوقه ! فقال له الحسين : " إني سأنصح لك كما نصحت لي إن استطعت أن لا تسمع صراخنا ، ولا تشهد واعيتنا فافعل ، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلا أكبه الله في نار جهنم "  .

2- الحسين مع عمرو بن قيس المشرقي وابن عمه

قال ابن بابويه : حدثني الحسين بن أحمد ، قال ، حدثني أبي ، عن محمد بن أحمد ، عن محمد بن إسماعيل ، عن علي بن الحكم ، عن أبيه ، عن أبي الجارود ، عن عمرو بن قيس المشرقي ، قال : دخلت على الحسين أنا وابن عم لي وهو في قصر بني مقاتل فسلمنا عليه ، فقال له ابن عمي : يا أبا عبد الله هذا الذي أرى خضاب أو شعرك ؟ فقال : ( خضاب والشيب إلينا بني هاشم يعجل ) ثم أقبل علينا فقال : ( جئتما لنصرتي ؟ فقلت : إني رجل كبير السن كثير الدين ، كثير العيال ، وفي يدي بضائع للناس ولا أدري ما يكون وأكره أن أضيع أمانتي . وقال له ابن عمي مثل ذلك .
قال لنا : ( فانطلقا فلا تسمعا لي واعية ، ولا تريا لي سوادا ، فإنه من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يجبنا ولم يغثنا كان حقا على الله عز وجل أن يكبه على منخريه في النار)

3- الحسين مع هرثمة بن أبي مسلم

جاء في مدينة المعاجز للبحراني ج2 ص 170
قال : حدثنا أحمد بن الحسن القطان ، قال : حدثنا الحسن بن علي السكري ، قال : حدثنا محمد بن زكريا ، قال : حدثنا قيس بن حفص الدارمي ، قال : حدثني الحسين الأشقر ، قال : حدثنا منصور بن الأسود ، عن أبي حسان التيمي ، عن نشيط بن عبيد ، عن رجل منهم ، عن جرداء بنت سمين ، عن زوجها هرثمة بن أبي مسلم ، قال : غزونا مع علي بن أبي طالب صفين ، فلما انصرفنا نزل كربلاء فصلى بها الغداة ، ثم رفع إليه من تربتها فشمها ، ثم قال : واها لك أيتها التربة ، ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب . فرجع هرثمة إلى زوجته وكانت شيعة لعلي ، فقال : ألا أحدثك عن وليك أبي الحسن ، نزل بكربلاء فصلى ( الغداة ) ، ثم رفع إليه من تربتها ، قال : واها لك أيتها التربة ، ليحشرن منك أقوام يدخلون الجنة بغير حساب . قالت : أيها الرجل فإن أمير المؤمنين لم يقل إلا حقا .
فلما قدم الحسين قال هرثمة : كنت في البعث الذين بعثهم عبيد الله بن زياد ، فلما رأيت المنزل والشجر ذكرت الحديث فجلست على بعيري ، ثم صرت إلى الحسين فسلمت عليه وأخبرته بما سمعته من أبيه في ذلك المنزل الذي نزل به الحسين . فقال : معنا أم أنت علينا ؟ فقلت : لا معك ولا عليك ، خلفت صبية أخاف عليهم عبيد الله بن زياد .
 قال : فامض حيث لا ترى لنا مقتلا ، ولا تسمع لنا صوتا ، فوالذي نفس الحسين بيده لا يسمع اليوم واعيتنا أحد فلا يعيننا إلا كبه الله لوجهه في [ نار ] جهنم .

ما هو الجامع بين هذه المواقف الثلاثة؟ إنها الرحمة التي وسعت كل شيء، فالحسين في كل موقف من هذه المواقف يلتقي فيها شخصيات لا تريد أن تكون له أوعليه، وتتشبث بأعذار واهية هربا من نصرته، ولكنه يشفق عليها ويقترح لها طريقا يجنبها النار، وذلك بأن لا تسمع له واعية.
ترى: هل نستغرب بعد ذلك من منظر الحسين وهو يبكي يوم كربلاء خوفا على أعدائه أن يدخلوا النار بقتله؟!
وهل كثير على الحسين أن نخاطبه: يا رحمة الله الواسعة؟!
 

أديب وكاتب وباحث في علوم اهل البيت عليهم السلام