فلنركب سفينة النجاة أو ....
إذا أرادت أمة أن تتقدم فإنها تبحث في تراثها عن تلك الشخصيات التاريخية المبدئية الاستثنائية التي يمكنها أن تلهم بكلماتها ومواقفها العظيمة جماهير الأمة وتزرع فيها الأمل بغد مشرق وتشحذ هممها لإحداث نقلة نوعية حضارية تتجاوز الحاضر لمستقبل واعد جميل.
هكذا تفعل الأمم التي تعيش حاضرها وتفكر في مستقبلها، أما الأمم المتخلفة فإنها تقرأ التاريخ بعقلية مغلقة تنطلق من مسلمات لم يتم إخضاعها لاختبار، وإنما هي مجموعة موروثات تنتقل من جيل لجيل على أنها حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن ثم يتم نبش قبور الموتى للدفاع عنهم أو لقتلهم دون أي إعادة قراءة لسيرتهم الحقيقية والحكم عليها من منطلق قيمي، ومن منطلق ما قدموا وآثارهم، وهنا تقع الكارثة، إذ لا تستفيد الأمة من تاريخها، بل يكون التاريخ عقبة في سبيل تقدمها وتحررها، فهي تمجد ذلك الطاغوت وتستبسل في الدفاع عنه وتنتج المسلسلات والأفلام التي تضيف للتاريخ شهادات مزورة، وتغلق عيونها وتصم آذانها عن بطل حقيقي قدم في سبيل رفعتها كل غال ونفيس.
أسوق هذه المقدمة لأننا كأمة لا نزال مع الأسف الشديد نجتر ذات الأخطاء ونكرر نفس المسلسل، ندافع عن الطاغية ونعتبره شهيدا، ونقيم المظاهرات وسرادقات العزاء والمناحات لشخص مثل صدام حسين الذي قام بقتل الشرفاء والأحرار والمفكرين والعلماء من أبناء العراق وغير العراق سنة وشيعة.
وأسوق هذه المقدمة لأن موسم عاشوراء يمر علينا فيصبح وللأسف موسما مختصا بطائفة معينة، وكأن الأمة لا يعنيها أن تقرأ هذه السيرة العطرة لسيد الشهداء أبي عد الله الحسين بعقلية منفتحة فتستلهم منها ما ينفعها لدنياها وأخراها، بل وتقدمها للعالم أجمع على أنها الشخصية الإسلامية الحقيقية التي تأبى الذل والضيم وتتمسك بالقيم الإنسانية النبيلة أيما تمسك. ألا يستحق الحسين من هذه الأمة مسلسلا أو فيلما يبرز مواقفه وكلماته الناصعة؟ إن موقفا واحدا من الإمام كان يمكن أن يشكل مادة خصبة لأدباء الأمة، من شعراء وكتاب وروائيين وسينمائيين وغيرهم ليعيدوا إنتاجه بكافة الأشكال الأدبية ويقدموه كنموذج فذ فريد لكل من ينشد أو يتغنى بالحرية في هذا العالم.
هل هناك تقديس للحرية أعظم من تقديس الإمام الحسين ؟ إنه التجسيد الحقيقي لمقولة الرسول الأعظم : حسين مني وأنا من حسين. فها هو في ليلة العاشر من المحرم، وقد اجتمعت عليه الألوف، وليس حوله من الأنصار إلا نفر قليل. إننا نتوقع في مثل هذا الموقف أن يقوم القائد بالإصرار على أصحابه بضرورة الالتفاف حوله وأن يهدد من يخرج من صفوف أنصاره بالويل والثبور وعظائم الأمور، وأن يوزع عليهم المناصب في الحكومة القادمة ليغريهم بالبقاء إلى جنبه. فماذا فعل الحسين ؟
يذكر الطبري وابن الأثير وابن كثير، كل في مصنفه التاريخي، أن الحسين جمع أصحابه في تلك الليلة وخاطبهم قائلا: أما بعد فإني لا أعلم أصحابا أولى ولا خيرا من أصحابي ، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عني جميعا خيرا ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا ، ألا وإني قد رأيت لكم ، فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام . هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله فإن القوم إنما يطلبوني ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري.
ما هذا الموقف المتفرد! الإمام الحسين في تلك اللحظات الحرجة يمنح أنصاره جميعا الرخصة في مفارقته، وأنهم في حل ليس عليهم ذمام. هل هناك أنبل من هذا الموقف! هل هناك تعظيم للحرية الشخصية كهذا التعظيم!
كان بإمكان أي واحد منهم أن يفارق الإمام الحسين دون أن تدركه أية تبعة بعد أن أعطاه الإمام الرخصة، ولكنهم كانوا كما قال خير الأصحاب، فهكذا عبرت مواقفهم كما يرويها التاريخ:
فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر : لم نفعل لنبقى بعدك لا أرانا الله ذلك أبدا ، بدأهم بهذا القول العباس بن علي ، ثم إنهم تكلموا بهذا ونحوه ، فقال الحسين ( ع ) يا بني عقيل ! حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا قد أذنت لكم ، قالوا : فما يقول الناس ؟ يقولون : إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا ! لا والله لا نفعل ! ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا ، وأهلونا ، ونقاتل معك حتى نرد موردك ، فقبح الله العيش بعدك .
وقام إليه مسلم بن عوسجة الاسدي ، فقال : أنحن نخلي عنك ولما نعذر إلى الله في أداء حقك ؟ ! أما والله ! حتى أكسر في صدورهم رمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولا أفارقك ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك ، حتى أموت معك .
وقال سعد بن عبد الله الحنفي : والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله ( ص ) فيك ، والله لو علمت أني أقتل ، ثم أحيا ، ثم أحرق حيا ، ثم أذر ، يفعل ذلك بي سبعين مرة ، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك ؟ وإنما هي قتلة واحدة ، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا .
وقال زهير ابن القين : والله لوددت إني قتلت ثم نشرت ، ثم قتلت ، حتى أقتل كذا ألف قتلة ، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك ،
وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا في وجه واحد ، فقالوا : والله لا نفارقك ، ولكن أنفسنا لك الفداء ، نقيك بنحورنا ، وجباهنا وأيدينا فإذا نحن قتلنا كنا وفينا وقضينا ما علينا .
هذه ليست صورا مختلقة، أو رواية اخترعها خيال أديب لامع، بل هي صور حقيقية أبطالها أبطال حقيقيون لهم آمالهم وآلامهم، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق. فأين نحن من تلك الصور؟ ألا تشكل بمجموعها مادة متجددة لا تنضب يمكن أن تساهم في تغيير واقعنا وتغيير صورتنا الذهنية لدى الآخرين؟ لماذا نحن غافلون عن هذه الصور الرائعة ؟
إن الحسين لا يخص طائفة بعينها، ولا أمة بذاتها، إنه الشخصية الإنسانية بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فلماذا هذا الإصرار على أن يكون موسم عاشوراء موسما خاصا؟! ولماذا يعاب علينا أن نبكي الحسين وأن نقيم مراسيم العزاء ونجدد الحزن عليه كل عام؟! إننا إذ نقوم بذلك لا نضيف للحسين شيئا، بل هي إضافة نوعية لنا، تشذب أخلاقنا وتلهمنا الإصرار على التمسك بالقيم الحقة وبذل الروح دونها. ﴿ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ (12) سورة لقمان
إن روح الحسين سرت في أبنائه وأتباعه فحررت جنوب لبنان من الصهاينة، وصمدت أمام أعتى الأسلحة فهزمتها في حب غير مسبوقة استغرقت ثلاثة وثلاثين يوما من الصمود الأسطوري بفضل الثقافة الحسينية العاشورائية. وهكذا يمكن أن تستفيد الأمة من الحسين إن أرادت أن تسمو وتتقدم، أما إذا اختارت طريقا آخر فستبقى في الذل والمهانة، وتنتهي إل تمجيد صدام وأمثاله.