الإمام الشيرازي في ذكراه الخامسة: أفق متجدد وحاضر متألق


مع حلول الذكرى الخامسة لرحيل المجدد الثاني الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) ترتسم على دروب الواقع المعاصر آفاق المشروع الحضاري الإنساني لهذا الراحل العظيم ميدانيا ومعنويا. حيث يتجدد هذا الأفق رغم نهاية الجسد بعطاء مستمر وتألق حاضر عبر أفكاره ومشاريعه التي خطها طوال مسيرته الجهادية الكبيرة.

ليس الحديث عن الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قده) حديثاً عن فترة تاريخية قصيرة، انتهت يوم رحيله عنّا، بل هو حديث عن تاريخ سيال تترابط فيه عناصر الماضي والحاضر لتمتد إلى المستقبل.. فالعظماء هم الذين يصنعون التاريخ ويرسمون بأناملهم آفاق المستقبل مما يجعل تألقهم حاضرا دوما.

والإمام الشيرازي الراحل هو إرادة فذة اخترقت قيود التاريخ المفروض ليكتب لنفسه تاريخاً مميزاً ومختلفاً تكاملت فيه كل صفات الإنسان الحر والمؤمن والمجاهد في زمن كان كل شيء فيه يسير ضده ويتآمر عليه ويخطط للقضاء عليه ولازال التآمر عليه وعلى تياره موجودا رغم مرور خمس سنين على رحيله المؤلم.

 لقد كان تاريخه معركة حامية خاضها بقوة التحمل والصبر والاستقامة دون أن تستثيره نوازع الغضب والانتقام والضعف. فربح معركة التاريخ عندما رحل شامخاً لم يرض بالذل والعبودية ولم يستسلم لأهواء الصفقات والمساومة والانتهازية، وهكذا فإن الإرادة الفردية تسطر ملحمة خالدة عندما تنتصر بموتها على أعدائها كما انتصر الإمام الشهيد الحسين في كربلاء.

لا نغالي إذا قلنا أن الإمام الراحل أصبح تاريخاً مميزاً كتبه بنفسه، ذلك أنه (قده) صنع مشروعاً إنسانيا شاملاً تتكامل فيه كل العناصر اللازمة لخلق حقبة زمنية مختلفة ومنتزعة من التاريخ الروتيني العادي. فشمولية مشروعه ذاتياً واجتماعياً وسياسياً وحضارياً هي التي توجب علينا كحملة أقلام أن نصفه بصانع التاريخ. لذلك فإننا عندما نقرأ التاريخ الإنساني ونستلهم منه العبر فإننا نقرأ في فترات زمنية معينة كان فيها لأفراد وأمم أداؤهم الإنساني الواضح والمؤثر.

وقد كانت قوة إرادته (قده) تنبع من إيمانه العميق بالله سبحانه وتعالى وقوة توكله الكبير عليه حتى كان هذا التوكل يتحول إلى شجاعة غريبة تتجاوز حسابات الخوف والمصلحة، إذ مع إحساسه بالتكليف الشرعي لأي قضية معينة كان هذا التكليف يتحول إلى موقف صلد لا يتنازل عنه في مطلق الأحوال.

ومن خلال هذه الإرادة الكبيرة برزت عند الإمام الشيرازي الراحل (قده) صفتان تميز بهما على طول الطريق، الأولى هي الثقة الكبيرة بالنفس وهي ثقة استوحاها من ثقته بالله عزوجل، حتى أن تطلعاته الكبيرة وطموحاته الواسعة كانت تدهش البعض، مثل طموحه للأمة الإسلامية الواحدة، أو سعيه لتطبيق شورى الفقهاء، أو تطلعه لإنقاذ الغرب ونجاته، وهو في كل ذلك كان يرى أن الثقة بالذات هي مفتاح الوصول والنجاح، إذ كان يحسن الظن بالله كثيراً، لذلك تحقق الكثير من مشاريعه وطموحاته بفضل ثقته الكبيرة بالله تعالى.

الثانية: أنه لم يعرف شيئاً اسمه المستحيل، فقد كان يتحرك بكل طاقاته لتحقيق أي هدف يؤمن به، وكان سره في ذلك إيمانه بأن الله أودع في الإنسان طاقات كبيرة قادرة على تجاوز المستحيل وتحقيق المعجزات، لو آمن الإنسان بذلك وسعى غاية سعيه. وقد كان بعض المستحيل الذي حققه هو التراث العلمي والثقافي الكبير الذي خلّفه، حيث تجاوزت مؤلفاته الألف ومئتي مؤلف منها، موسوعته الفقهية الضخمة التي تجاوزت المئة وخمسين مجلداً، وهي بذلك تعد أكبر انجاز فقهي في التاريخ الإسلامي أنجزه فرد واحد في مختلف العلوم والموضوعات.

وتظهر شمولية مشروع الإمام الشيرازي الراحل (قده) من خلال ذلك الدور القيادي الذي تصدى له، فلم يكتف بالدور المرجعي المتمثل بعملية التقليد، بل كان دوره قيادياً يسعى لتحقيق الإصلاح ورفع عناصر الانحراف والتخلف عبر الجهاد والتنظيم والتوعية والبناء، وهو بذلك لم يسع إلى منصب سياسي أو سلطة حكومية (مع أن ذلك تهيأ له في مرات عديدة لكنه رفضها)، بل كان دوره أكبر من أن يكتفي بإنجازات الحاضر بقدر ما كان يسعى لبناء المستقبل عبر إصلاح الحاضر وتوفير النموذج الصالح للامتداد.. كان بقيادته الإصلاحية ينظر إلى بناء تراكم تاريخي للأمة يهدف إلى عملية النهوض التدريجي عبر الوعي والعلم والتثقيف ورفع مستوى التفكير والإدراك عند الأمة.

وتظهر أهمية مشروعه الحضاري الشامل وتصديه القيادي، في علاقته الاستراتيجية العميقة مع الجماهير، فلم تكن علاقة عادية تقتصر على وجود دور المرجع والمقلد بل كانت هذه العلاقة تقوم أساساً على التربية الأخلاقية والثقافية والارتباط العقلي والعاطفي القائم على الولاية والمحبة، فكل مقلد من مقلديه كان تلميذاً في مدرسة الإمام الشيرازي انتهل من علومه وأفكاره، فأصبح بدوره مؤسسة تقوم بدورها الشرعي والتبليغي والاجتماعي أينما وجد هذا المقلد. لذلك كان الشيرازي موجوداً في كل مكان من العالم، لأن أتباعه وتلامذته ومقلديه كانوا يشكلون امتداداً فكرياً وسياسياً واجتماعياً، وهذا هو أحد معاني الشمولية.

لقد شكل الإمام الشيرازي(قده) نموذجاً فريداً في عصره والعصور التي سبقته فقد طرح في مشروعه الشامل أفكارا تكاد تكون إبداعية في لغة طرحها، وانسجامها بين الدين والعصر فشكلت فكرة الحرية هاجساً ذاتياً متحركاً في مشروعه فكريا وأخلاقياً وشخصيا. اذ كان يعتبر أن معركته الأساسية هي الحرب المستمرة ضد الاستبداد والاستعمار، وأن الحرية هي المبدأ الأول الذي يجب أن ينطلق منه المشروع التغييري والإصلاحي للأمة، فكان جهاده مستمراً ضد الطغاة في كل البقاع التي ذهب إليها من أجل توعية الأمة بهذه الحقيقة التي يتوقف عليها مصيرها، لقد كانت الحرية متشربة في ذاته وقلبه وفكره حتى أصبح ذلك المتحرر الذي يرفض بشكل مطلق أن تفرض عليه القيود والأغلال. فلم يرضخ لأهواء المساومة التي كانت تعرض عليه اغراءً أو تهديداً، فتمرد على الطغاة ورفض منطق الاستغلال والاستعباد وإن كبلوا حركته وجسده، لكنه بذكائه ونضجه وعقليته المعرفية الواسعة كان يتخلص من هذه القيود ويفتح لنفسه آفاقاً جديدة ينشر منها مشروعه الحضاري. فقد كان (قده) أقوى من العبودية و الاستبداد لأن الأحرار هم السادة والحكام على قلوب الناس بعبوديتهم المطلقة لله سبحانه وتعالى.

ويمكن أن نقول عن حركة الإمام الشيرازي (قده) أنها مشروع حضاري شامل لأنه كان مشروعاً ناضجاً قام على الفهم الصحيح والوعي السليم والحركة العقلانية، والأهم من ذلك هو تجسّد المشروع الحضاري بشكل عملي على أرض الواقع، وهذا الأمر هو الذي يعطي حركته الصدقية والواقعية في مبادئها وأهدافها. إذ نرى الإمام الشيرازي الراحل كان يمثل تجسيداً عملياً وواقعياً لأهم المبادئ التي رفع رايتها بشكل متواصل وهو مبدأ اللاعنف والسلم.

إن مشروع الإمام الشيرازي (قده) الشامل ارتكز على محور اللاعنف مبدءاً وفكراً وسلوكاً، ورفض العنف جملة وتفصيلاً، وهذا هو الذي يجعل هذا المشروع الشامل أوسع من الزمان والمكان ليشغل حيز كبيرا من التاريخ الحاضر والمستقبل.

لقد كان الأفق والرؤية التي يتمتع بها فقيدنا الراحل أوسع من ان تقيد بالزمن الحاضر. إذ كان يرى المستقبل من خلال منظاره الخاص الذي يتفرد به عن الآخرين، حتى أن تنبأه بالكثير من قضايا المستقبل كان يدهش الكثيرين، وفي أحيان كان الامر يتحول إلى سخرية من قبل بعض أصحاب الآفاق الضيقة. لذلك فأن سماحته (قده) لم يقبل أن يتقيد بالتكتيكات الآنية التي كانت تفرضها المصلحة الشخصية الحاضرة لمرجعيته من أجل بعض المكتسبات الجزئية، بل كان يعطي الأولوية القصوى للاستراتيجية التي تنظر للمستقبل من أجل بناء أفضل وأقوى، وإن كان ذلك يؤدي إلى خسارته للمصالح الآنية، فالبعد الاستراتيجي لمشروعه النهضوي الشامل هو أكبر من أن يخضع للاتفاقات والمساومات المصلحية الحاضرة. لذلك فأن الكثير من أفكاره التي تمسك بها كمشروع استراتيجي لبناء المستقبل مثل قضية الحرية ومكافحة الاستبداد والأخوة والأمة الواحدة وتطبيق أحكام الإسلام وطرحه لمفهوم اللاعنف ونشر الكتب والتوعية الفكرية، كانت سببا رئيسياً لتعرضه وعائلته وتلامذته ومؤسساته للحصار والمضايقة والمصادرة، وأدت إلى ضياع الكثير من مصالحه المرجعية الخاصة، بالإضافة إلى ضياع الكثير من المكتسبات التي كان يمكن أن ينالها. لكن عظمة مشروعه الحضاري تنبثق من هذه النقطة وهي عدم التفريط بالأهداف والأفكار حتى نستطيع أن نمتلك المستقبل، وننقذ الأمة وإن أدى ذلك إلى ضياع بعض المصالح الشخصية.

هذه الرؤية المستقبلية التي تضحي بالمصالح الذاتية من أجل مصالح الدين والأمة العامة هي التي توجب علينا أن نخلد تاريخ هذا المشروع ونكتبه بأقلامنا.
ويشكل سماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) الامتداد الحقيقي لمشروع الإمام الراحل (قده)، إذ إن سماحة المرجع الامام السيد صادق الشيرازي كان الظهير والسند القوي والرفيق الأول للسيد الراحل في مشروعه الكبير، فشارك في بناء هذا المشروع لبنة لبنة وآمن بقوة بمبادئه وأفكاره ودعم مواقفه الشرعية والدينية والسياسية في كل الأوقات. لذلك فأن سماحته (دام ظله) يشكل الامتداد الواقعي لهذا المشروع الذي يعتمد على الإخلاص والجهاد والتفاني والتضحية من أجل نشر الدين مبادئ الإسلامي ونزاهة سمعته ونقاء حركته ونظافة القائمين عليه.

ومن هنا فأننا لا نغالي إذا قلنا في ذكرى رحيل الإمام الشيرازي الخامسة بأنه:أفق متجدد وحاضر متألق