كونوا نقاد الكلام!

.. هكذا تحدث نبي الله عيسى بن مريم ، في كلام نسب إليه.

ثلاث كلمات موجزة، إلا أنها تحمل في طياتها معنىً حضارياً راقياً؛ فعند ما نقرأ المعنى السابق؛ بشيء من التمعن، نجد في ثناياه دعوةً واضحةً إلى الإنسان بأن يكون ذا حسٍ نقدي لا نقلي! بمعنى أن يستمع إلى الرسالة الموجهة إليه «شفهية كانت أم كتابية»، ومن ثم يقوم بنقدها فإن وجد ما استمع إليه صحيحاً أخذ به وتبناه، وإن رآه خاطئاً رفضه وما ابتغاه.

وهناك دعوات قرآنية كثيرة بهذا الخصوص تدعم هذه الفكرة، منها قوله تعالى: ﴿ فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب .

فالقرآن يوجه لنا دعوة مفتوحة للاستماع والقراءة؛ فالقول قد يكون ملفوظاً وقد يكون مكتوباً؛ فالأمر هنا ليس بخصوص السبب إنما بعموم الحال -كما يقال- والذي أفهمه من هذه الآية الكريمة أنها توجهنا إلى الاستماع والقراءة إلى كل من هو صاحب «فكرة» بمعنى أن نكون منفتحين على الثقافات، وعالم الأفكار من حولنا، ولكن بقيدٍ ضروري حتى نحافظ على توازننا فلا نقع في حفرٍ عميقة!

والقيد الذي أقصده هو تحليل الفكرة ومحاولة نقدها لا أخذها على عواهنها، كما يحلو ذلك للبعض! خصوصاً عندما يفتقدون للبوصلة؛ أو يتناسون كفّي الميزان.

وفي شأن النقد وحسن الاقتباس يحلو لي أن أنقل حادثة تاريخية تدل على مدى النضج والوعي الذي تحلى به البعض.

فقد حدث أبو عبدالله المروزي بمكة في المسجد الحرام -كما نقل صاحب «العقد الفريد»، مج 7، ص 14/15- قال: حدثنا حسان وسويد صاحبا ابن المبارك، قالا: لما خرج ابن المبارك إلى الشام مرابطاً خرجنا معه، فلما نظر إلى ما فيه القوم من التعبد والغزو والسرايا في كل يوم، التفت إلينا فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها، وأيام وليال قد قطعناها في علم الشعر، وتركنا ههنا أبواب الجنة مفتوحة! قال: فبينما هو يمشي ونحن معه في أزقة المصيصة، إذا نحن بسكران قد رفع صوته يغني:

 
أذلـنـي الـهـوى فـأنـا الذلـيـلُ      وليس إلى الذي أهوى سبيلُ

فأخرج برنامجاً من كمه، فكتب البيت؛ فقلنا له: أتكتب بيت شعر سمعته من سكران؟ قال: أما سمعتم المثل: رُبّ جوهرة في مزبلة!

أجل، رُبّ جوهرة في مزبلة!.. لكن، من يعي هذه الحقيقة في هذا الزمان؟

ومن يعي الكلمات المأثورة التي توجهنا إلى معانٍ دقيقة للغاية، من قبيل الرائعة التي تقول: «خذ الحكمة ولو من أهل النفاق!» أو «خذ الحكمة من أي وعاء خرجت!».

فإذا علمنا بأن أبرز صفات العقل: هي التمييز والفرز، نعلم حينها ضرورة ممارسة العمل النقدي في حياتنا وبالخصوص الثقافية والفكرية منها.. لكن بطريقة حسنة كما هي دعوة القرآن؛ فنغربل كل ما نسمع أو نقرأ، ووفقاً لقول السيد المسيح : «خذ الحق من أهل الباطل، ولا تأخذ الباطل من أهل الحق».

وداعية: «من تعود أن يصّدق بغير دليل، فقد انخلع من كسوة الإنسانية»، ابن سينا.

كاتب ومؤلف ( القطيف )