شبكة مزن تحاور المرجع المدرسي - دام ظله الشريف
س1: علم الأصول بمنهجيته الحالية ، هل تعتقدون كفايته لفقه معاصر أم أنه عاجز منهجياًُ عن الاستجابة للظروف المستجدة ؟ وعلى فرض الإجابة بنعم ، كيف يمكن علاج القصور؟
ج1: بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى اللهم على محمد وآله الطيبين الطاهرين
الأصول العامة للشريعة الغراء واحدة .. عبر الزمان والمكان ،ولكن لأن الظروف تختلف والعصور تتفاوت ،والأمكنة ليست واحدة فإن تطبيقات هذه الأصول العامة للشريعة على الواقع الخارجي يتعرض للمتغيرات ، وهكذا اعتقدنا نحن بضرورة فتح باب الاجتهاد ، لكي يطبق كل جيل عبر فقهائه المعاصرين ، يطبق هذا الجيل الشريعة حسب حاجاته ، وحسب ظروفه . ولكن بما أن الفقه الإسلامي في ظل فتح باب الاجتهاد يتصل اتصالاً وثيقاً بعلم أصول الفقه . وبما أن الفقه بحاجة إلى الإغناء والإثراء ، وإلى تطوير منهجية حسب المتغيرات ، فإن علم الأصول هو الآخر ينبغي أن يتغير لأن يتصل – كما سبق وأن قلت – اتصالاً وثيقاً بالفقه من هذه الزاوية فإن علم الأصول بمنهجيته الحالية لا يمكن أن يكون كافياً لبناء روح الفقه المعاصر، بل لابد أن يطور – هو الآخر – ، ولا يعني ذلك أنه ، كلما قام به الأولون من كبار علمائنا (قدس الله أرواحهم ) سوف يتبدل ...كلا ، بل يجب أن يغنى ويثرى ويطور ، وذلك عبر إغناء مفرداته ، وفيما يلي نبين بعض التصورات حول إغناء وإثراء علم الأصول ، الذي ينبغي أن يتماشى مع الظروف والمتغيرات :
أولاً: لابد أن يجعل في علم الأصول التحول الألسُني ، أي تحول علم اللغة ، يجعل ذلك متصلاً بالقسم الأول من علم الأصول ، وهو قسم ( مباحث الألفاظ ) وذلك لأن ( مباحث الألفاظ ) بصورة عامة تبحث – وربما بعمق – عن الدلالة ، أي دلالة اللفظ على المعنى ، ولأن الدلالة اليوم تتصل بعلم الألسن واللغات ، ولأن علم اللغات قد تطور ، فلا مانع لدينا أن نستفد من تطور علم اللغات في تعميق فهمنا لدلالة الألفاظ ، كما أن علماء الأصول السابقين استفادوا من تطور علم النحو والبلاغة عند العرب في تعميق وتوسيع فهمهم لدلالة الألفاظ .
ثانياً : فيما يرتبط بـ(مباحث الحجة ) وهو القسم الثاني من علم الأصول ، حيث يتعرض للأدلة العامة للفقه ، أي دليل العقل ودليل القرآن والسنة ،وكذلك الإجماع وما أشبه ، فيما يرتبط بهذه المباحث لابد أن يُغنى البحث أيضاًُ وذلك بالفهم الشمولي للنص ، أي أن النص القرآني ، أو نص الحديث ينبغي أن يوضع ضمن السياق العام للنصوص الأخرى ، لأن أعراف الناس بكتاب الله والحديث ، هو الذي يحيط علماًُ بأكبر قدر ممكن من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة فكلما توسع أفق الإنسان في علم الحديث وعلم التفسير ، كلما استطاع أن يستوفي ويستلهم من النصوص المزيد من المعاني والأفكار .
وأساساً لكل كلمة في اللغة العربية دلالتها إذا انفردت ، ودلالتها إذا اتصلت بسائر الكلمات ، ولكل كلمة ظلالها ضمن السياق الذي تأتي الكلمة عبرة ومعرفة ظلال الكلمات ، أو حسب تعبير رواياتنا – ( معاريض الكلمات ، تعني فهم الإنسان لمحتويات هذه الكلمات وفهمنا بالتالي لما أراد الله سبحانه وتعالى منا من خلال كلما الوحي كتاباً وسنة .
ثالثاً : أن هناك بحوثاً في علم الأصول قد توسعت ، وأن بحوثاً أخرى بحاجة إلى التوسع . نحن في تطويرنا للأصول ينبغي أن نقلص ما لا نحتاج إليه من البحوث وفي ذات الوقت ينبغي أن نتوسع فيما نحتاج إليه اليوم ، وهذا بحاجة إلى بحث عميق في قراءة الأصول أو إعادة كتابته حسب حاجات الفقه الحالية
س2: تبعا لبعض المقاطع التاريخية في مسائل الفقه والفقهاء ، نلاحظ غلبة في بعض الأحيان لفقه الشخص على فقه المجتمع والأمة . كيف يمكن علاج هذه الفجوة ؟
ج2: الإسلام حينما بدأ مع انبعاث الروح الرسالية في الأمة بدأ نظاما شموليا ، بمعنى نظاما ذا أبعاد فردية واجتماعية واقتصادية وسياسية وغيرها ..، وعبر قرون كثيرة طبق هذا النظام ليس فقط في مجتمع ضيق وإنما على مدى واسع في بلدان مختلفة ، وهذا التطبيق الشامل للنظام المتكامل جعل الفقه الإسلامي فقها حياتيا بكل معنى الكلمة ، إلا أنه في بعض العصور المتأخرة حينما تقلص دور الإسلام السياسي ركز بعض الفقهاء حديثه في الجانب الفردي من الإسلام ، ولكن إذا رجعنا إلى الكتب الفقهية القديمة نجد أن الجوانب المختلفة للإسلام والفقه الإسلامي مبحوثة فيها بصورة متوازنة .
وعلى أي حال فنحن بحاجة اليوم إلى أن نوسع آفاق الفقه الحياتي فيما يرتبط بمجتمعنا اليوم ، يعني البحوث الاقتصادية والمالية والاجتماعية ، كالتي تتصل بالقوانين الدولية والتي تحتاج إليها الأمم مع بعضها البعض ، وحتى لوا افترضنا أن العالم اليوم لا يأخذ ببعض هذه البحوث والقوانين باعتبار أن العالم يجهل مزايا القانون الإسلامي ، إلا أننا نأمل لو عمقنا البحوث في مثل هذه الموضوعات الحياتية سيجد العالم يوما أن في هذه القوانين مزايا كثيرة ، وستجد هذه القوانين فرصة للتطبيق في المستقبل إن شاء الله .
س3: العلاقة بين الفقيه والمثقف قد تكون علاقة متباينة ، فمن جهة يحافظ الفقيه على ما يراه أصلا من الكتاب والسنة النبوية المطهرة في الوقت الذي يريد المثقف الانطلاق إلى أبعاد واسعة ، كيف يمكن تصوير هذه العلاقة ؟
ج3: العلاقة بين الفقيه والمثقف تبدأ بالمزيد من الثقة من قبل المثقف والإيمان بالدين على أنه ليس مجرد قوانين وأنظمة ، وإنما أيضا باعتباره رؤى وبصائر ومنهجية تفكير وفهم للحياة .
الإسلام إذا نظرنا إليه منهجا للتفكير وبصيرة ورؤية وثقافة للحياة وأسلوبا للعيش ونظاما متكاملا ومتوازنا للأخلاق وأنظمة لمختلف مناحي الحياة ، فإن المثقف في هذه الحالة سيجد في الإسلام ما يغنيه عن غيره ، والفقيه بدوره ينبغي أن يتوسع ولا يختصر نفسه وحديثه في الأحكام الشريفة ، بل يذكر بالإضافة إليها فلسفتها وحكمتها وخلفيتها ، ويذكر أيضا النظام الأخلاقي والمنهج الفكري والبصيرة والرؤية .
مجتمعنا اليوم يحتاج إلى الفقه ولأحكام الدين ، ولكن هذا جزء من حاجته ، فالحاجة الأساسية لمجتمعنا اليوم هي الثقافة الدينية المتكاملة والشاملة ، ومن هذه الزاوية فإن الفقيه إذا تعرض لها والمثقف إذا آمن بها فإن الفجوة القائمة اليوم بين المثقف الرسالي المؤمن وبين الفقيه المتفهم لمشاكل الأمة ستتقلص بل تُردم إن شاء الله .
س4: انطلاقا من أن الأحكام تابعة للمصالح ، هناك ثمة رأي يقول بأن القضايا غير المنصوصة يمكن أن نقول فيها بأنه أينما كانت مصلحة فثمة حكم الله عز وجل . كيف يمكن ضبط هذه المصالح من ناحية تشريعية ؟
ج4: بالنسبة إلى العلاقة بين الأحكام والحِكَم ، أو بين الشريعة والمصالح ، فالحقيقة إن الإسلام بذاته حكمة ، يعني أن الله سبحانه وتعالى أنزل كتابا حكيما على رسول حكيم ، وعلم الإنسان بالكتاب والحكمة . ومعنى الحكمة تلك السنن العامة التي يسيّر الله سبحانه وتعالى بها الحياة ، أي تلك الأصول التي تنبع منها الأحكام الشرعية ، فإذا نصت الشريعة على حكم من الأحكام بصورة واضحة فسوف نتبعها ، وإذا لم نجد نصا على حكم من الأحكام ووجدنا موضوعا فارغا من النص فنرجع إلى ( الحكمة العامة ) .
ولعلنا بالمثل التالي نحاول أن نستوضح هذه الفكرة : الإسلام يأمر بأن على الإنسان أن يبر والديه ويحترمهما ..لماذا ؟ لأن للوالدين حقا على الإنسان وهذا الحق يجب أن يحترم ويراعى ، وربنا سبحانه وتعالى أمرنا في أكثر من آية بأن نحسن إلى الوالدين " وبالوالدين إحسانا " فإذا كان هناك حق لإنسان ما على الإنسان غير مذكور في الكتاب والسنة – إذا افترضنا وجود حق جديد – ويعتبره العرف حقا ولكن لم يذكر هذا الحق لسبب أو لآخر في الكتاب أو السنة مثل حق الطباعة أو الحقوق العلمية كبراءة الاختراع وما أشبه ، فماذا نفعل ؟ هل نسحق هذه الحقوق ؟ لا .. لماذا ؟ لأن هناك حكمة تقول : ( لا يتوى – أي لا يسحق ولا يحذف ولا يستهان – حق امرئ مسلم ) فكل حق يراه العرف حقا ينبغي أن ( لا يتوى ) بل وأعظم من ذلك حينما يقول ربنا سبحان وتعالى " وأقسطوا إن الله يحب المقسطين " أي أعطوا للناس قسطهم ، واعتبر العرف أن هذا قسطا للناس ، فالآيات الشريفة تشمل هذا الحق .
على جزائه العادل ، وحينما قال سبحانه وتعالى " لا تبخسوا الناس أشياءهم " فهذه الحكمة ينبغي أن تطبق .
س5: فيما يتصل بقوانين الدولة ، هل يصح القول أن هنالك مناطق فراغ أوكل الشرع المقدس إلى الدولة ملأها ضمن ظروف الزمان والمكان ؟
ج5: هناك مناطق فراغ سميت بالشريعة ( الأمور الحسبية ) وهي الأمور التي يحتسب الله سبحانه وتعالى في العمل بها ، وأبرز أمثلتها التنمية الاقتصادية ، وكلما يرتبط بمصالح الناس في الصحة والأمن وفي توزيع الثروة وفي استخراج ثروات الأرض وفي مكافحة التلوث البيئي وفي الاهتمام بالأوضاع الطارئة والاستثنائية مثل السيول والزلازل وضحاياها وما أشبه , ففي مثل هذه الأمور أوكل الإسلام الأمر إلى المجتمع ، وهذا المجتمع قد يقوم عبر ولاية الفقيه أو عبر مؤسسات اجتماعية أو الدولة ، والمهم أن هذه الأمور يجب أن تتحقق لأن الشرع المقدس يتوخى فيها مصالح الناس فلا يبقى فقير ولا تبقى مشكلة في الأمة ولا تنتشر الأوبئة ولا تبقى ضحايا للسيول والزلازل ولا تبقى النكبات الطبيعية بلا اهتمام ، وهذه الأمور الحسبية ينبغي أن يقوم بها من يستطيع ، وهذه في بعض الأحيان تسمى بالواجبات الكفائية .
س6: النصوص الشرعية مقدسة وثابتة ، لكن السؤال : ما هو المقدار المجاز للتعاطي مع هذه النصوص وضمن أية ضوابط ؟
ج6: إن النصوص الشرعية مقدسة وثابتة ، ولكن هناك استثناءات منها العناوين الثانوية ، مثل قاعدة لا ضرر ، لا حرج ، الاضطرار ، الإكراه ، الأهم والمهم وما أشبه ، فتنسحب النصوص الشرعية في بعض الأحيان لمصلحة النصوص العامة التي تعتبر هي حكم عامة أو استثناءات عامة ، ولا بد من الاهتمام بها. وهذه النصوص التي تشكل إطارا للعناوين الثانوية هي التي تعطي للأحكام الشرعية مرونة لكي تتوافق مع الظروف المتغيرة .. طبعا إذا انتهت هذه الظروف الاستثنائية أو انحسرت العناوين الثانوية ترجع العناوين الأولية لحالها ، مثلا : صلاة الخوف ، ففي حالة الخوف هناك صلاة معينة مذكورة في آية قرآنية ، لكن إذا انتهى الخوف تعود الصلاة كما هي ، ولا بد من إقامتها كما أمرنا الله سبحانه وتعالى بشروطها وكيفيتها المخصوصة .
س7: كيف تقيمون الفترة الزمنية التي قضيتموها مع المرجع الراحل السيد الشيرازي ( قدس سره ) من حيث النقاط البارزة في صفاته ومنهجيته العلمية ؟
ج7: بالنسبة إلى الفترة التي قضيتها مع المرجع الراحل آية الله العظمى الشيرازي ( قدس الله نفسه الزكية ) كانت طويلة جدا ، فشخصيا منذ العاشرة من عمري إلى الفترة الأخيرة قبل وفاته منت قريبا منه ، وإن النقاط البارزة في صفاته ومنهجيته العلمية هي كثيرة ، لكن أبرزها :
1- الحيوية التي تنطلق من الاعتقاد بأن الدنيا دار زائلة وأن الآخرة هي الحيوان ، وأن ساعات العمر التي نقضيها في هذه الدنيا هي أغنى ما نملك ، فعلينا أن نسارع في الخيرات عبر هذه الساعات حتى لا نصاب بالصدمة والصفعة حينما تأتينا الوفاة ، أو نتمنى على الله سبحانه أن يمهلنا فترة أطول أو يعيدنا إلى الدنيا . فالسرعة بالعمل والحيوية البالغة كانت ميزة من ميزات المرجع الراحل .
2- الثقة بالله والتوكل عليه والإيمان الشديد بنصره والأمل الكبير بعونه في القضايا الصعبة مما كان يعطي المرجع الراحل الشجاعة والصدق بالمواقف وعدم تهيب الأعمال الكبيرة حتى ولو كانت أكبر من قدراته الظاهرية .
3- كان يؤمن بدور المجتمع ويحاول أن يعبئ بأقصى قدر ممكن الطاقات الاجتماعية لأجل الأهداف الكبرى . ومن منهجيته العلمية إيمانه بشمولية الثقافة وموسوعيتها . وهو كشخص كان قد احتوى على موسوعية نادرة ، فكان يكتب في الأصول والتفسير والكلام والتاريخ والأخلاق ، كما يكتب في مشاكل الناس في الاجتماع والاقتصاد والسياسة والقانون والبيئة ، ويكتب كذلك في مختلف الشؤون ، فكانت هذه الكتابات المتنوعة فيضا لتلك النظرة الشمولية التي كان يرى بها الحياة ، فلم يكتف بالنظر إلى زاوية من زوايا الحياة ، وإنما يحاول أن يستوعب الزوايا المختلفة ويعطي توجيهاته عبر هذه الزوايا المختلفة .
كان لا يختصر نفسه في بلد أو شعب أو مجموعة فيفكر ويخطط للجميع ، ويرى بأنه من الممكن أن تتحقق الآمال الواسعة والكبيرة التي كان يؤمن ويحلم بها ويتمناها . فبالرغم من العقبات كان يرى أنه من الممكن أن تتوحد الدول الإسلامية وشعوبها في ظل التعددية والشورى والحرية والديمقراطية وفي ظل النهج السليم والصائب للإسلام . وكان يرى أنه بالإمكان أن تتحقق طموحات الأمم في الرفاه والسعادة والتقدم وما أشبه
س8: حصر البعض وظائف المرجع في الإفتاء والقضاء ، فهل يرى سماحتكم أن وظائف المرجع تشمل الشأن الثقافي والفكري ؟
ج8: المرجع يمثل الخط الإسلامي الأصيل ، وهو كوكيل للأئمة المعصومين ( ع ) ونائب عنهم لا تنحصر وظيفته في القضاء والإفتاء ، بل في القيادة والتوجيه الثقافي والاجتماعي والسياسي وفي تعبئة طاقات الأمة وبعث الروح فيها لتحقيق الآمال والطموحات الكبرى
س9: كان السيد الراحل يرى من جهة شرعية نظرية شورى الفقهاء ، وقد رأى البعض نظرية المرجعية الصالحة والرشيدة ، ما هو رأيكم في ذلك ؟
ج9: أساسا الشورى قيمة جيدة لأنها تجمع العقول المختلفة والآراء المتفاوتة والخبرات تكثفها وتركزها وتبلورها ، ومن هنا فإن الشورى بذاتها قيمة ، وربنا سبحانه وتعالى قد أمر بها في أكثر من مرة في الكتاب العزيز ، كما إن الروايات قد أمرت بها واعتبرت أن أعلم الناس وأعقلهم هو الذي يجمع علم الناس وعقلهم إلى علمه وعقله .
بالنسبة للفقهاء باعتبارهم قمة الأمة ، فلو تحققت الشورى فيما بينهم فإن ذلك يعني تحقق الحلم الواعد والأمنية الشيقة للمجتمع ، إلا أن تحقق مثل هذه النظرية دونه بعض العقبات التي يجب أن تزال .
نسأل الله أن نوفق
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته