المقاطعة في ميزان العقل

باسم البحراني *


 بعد نشر بعض الصحف الغربية رسوماً كاريكاتورية مسيئةً لمقام الرسول الأكرم تحرك الشارع العربي والإسلامي في انتفاضة لم تخطر على بال أحد أن ما جرى سيجري فعلاً، وأظن أن المسلمين أنفسهم لم يتوقعوا أن الأمر سيؤول إلى ما آل إليه، فكان هذا الحدث هو بمثابة بالون اختبار لمدى الحياة التي ما زالت تدب في جسد الشعور الإسلامي والكرامة، التي فشلت في الكثير من الاختبارات السابقة –كما أظن-، وأثبت المسلمون حقاً أن الحياة والممانعة -ولو في حدِّها الأدنى- ما زالت تتحرك بين ثنايا الشارع العربي والإسلامي، وإن بدت في بعض المحطات تظهر على خجل واستحياء.

 وعاد سلاح المقاطعة يُشهر من جديد في وجه من أساء، كما شُهِر من قبل في قضايا سابقة، تقف في مقدمتها قضية فلسطين، حينما نودي بمقاطعة المنتجات الأمريكية، باعتبارها أهد أهم الداعمين للسياسات الإسرائيلية في المنطقة، إضافة إلى التحيّز الواضح الذي أظهر (راعي العملية السلمية)!! للجانب الإسرائيلي على حساب الجانب الفلسطيني، في ذلك الحين لم يكن مستوى التضامن والاستجابة مع نداء المقاطعة بهذا المستوى الذي نراه اليوم –كما أظن بالطبع-، في ذلك الحين أثار البعض تساؤلاً مشروعاً عن مدى الجدوى من المقاطعة، وإن كان لها أثرٌ، أم لا؟!

من هنا انقسم الناس إلى فئات، منهم رأى جدوى ذلك فقاطع، ومنهم من رأى عدمه فلم يقاطع، الجديد الذي نلاحظه اليوم هو الحديث المتزايد والمتسارع حول ظهور آثار المقاطعة على الطرف الذي ارتكب هذه الإساءة المشينة، مما قطع الطريق على كل من يشكك في آثار هذا الفعل، وأظن أن (المقاطعة) كأحد الأعمال السلمية عملٌ مشروعٌ بالنسبة للشارع المسلم للرد على ما بُرِّر له بأنه كان تحت غطاء (حرية التعبير عن الرأي)، هذا المبرّر الذي يُرفع في كل القضايا التي تتجه حربته إلى خاصرة العالم الإسلامي، في حين أن هذا الشعار يتحوّل إلى عنف وإرهاب ومعاداة السامية، إذا كان التعبير عن الرأي في ما يتعلّق بالكيان الصهيوني الغاصب، هذه ازدواجية لا تخفى على أحد...

 في ظل الشهور بالاستياء والسخط المتزايد والانفعال الجامح، كان لابدّ من متنفَّس يفرِّغ من خلاله الشارع جام هذا الغضب، وأظن المقاطعة هي أقل ما يمكن القيام به، خاصة ونحن نسمع في نشرات الأخبار كيف أن الشارع الإسلامي في حالة غليان متزايد مما أدى في بعض خالاته إلى حالات عنف، وإحراق للسفارات والقنصليات الغربية، هذه الأعمال التي أظن أن العقلاء يرفضونها لما لها من آثار سلبية على أساس القضية التي من أجلها تحرك هذا الشارع منذ البدء...

 من هنا، طرح البعض تساؤلا آخر، فلم يعد التساؤل هنا هل المقاطعة ذات جدوى أم لا؟ بل المقاطعة هي أفضل السبل أم لا؟؟

 وهنا أطرح بعض وجهات النظر حيال موضوع الساعة هذا:

- أنصار المقاطعة: هؤلاء الذين دعوا إلى مقاطعة المنتجات الدنمركية والنرويجية كعقاب لها على ما صدر في بعض صحفها من إساءة، ولما عبّر عنه البعض من مواطني هذه الدول من مشاعر مسيئة للإسلام والمسلمين، وذلك حينما عزم البعض منهم على إحراق المصحف الشريف، وأظن أن هذا العمل يقف في جانب ردة الفعل تجاه هذه الإساءة.

- أنصار عدم المقاطعة: ومبرر هؤلاء أن المقاطعة على المدى البعيد سيكون لها آثارها السلبية علينا وعلى اقتصادنا، خاصة وأننا نرى بأن الغرب يتضامن مع تلك الدول التي نُشر فيها تلك الرسوم، وذلك من خلال عدة مظاهر منها إعادة نشر الرسوم، أو من خلال بعض الموقف التي توحي بأن مقاطعة إحدى الدول هو بمثابة مقاطعة لكل دول الإتحاد الأوربي، هذا بالإضافة عن الحديث عن مقاضاة الدول الداعية إلى المقاطعة، خاصة إذا كانت هذه الدول منضمةً إلى منظمة التجارة العالمية.

- أنصار الدمج بين الطريقتين: ويبرِّر هؤلاء موقفهم هذا بأن التلويح بأوراق القوة التي نمتلكها، وإشعار الطرف الآخر بمدى الإساءة التي ارتكبها في حقنا شيء لا بدّ منه، لأن الضعيف في هذا العالم لم يعد له صوت، وأظن أن المقاطعة قد نجحت في تحقيق شيءٍ من هذا إلى حدٍ ما، ففي كل يوم تطالعنا الصحف ونشرات الأخبار بمدى الخسائر الناتجة جرّاء المقاطعة الحاصلة، مع العلم بأن المقاطعة ما زالت في بداياتها، بل إن بعض الصحف قامت بإجراء بعض العمليات الحسابية فيما لو استمرت المقاطعة لفترة من الزمن، وما ستكون الخسائر، وكم من الناس سيفقد وظيفته، وكم من المصانع التي ستقفل أبوابها، و...

أنصار هذا الرأي يرون أن المقاطعة تمثِّل نصف الرؤية، والباقي يكمن في استثمار فرصة تعاطف البعض في الغرب نفسه مع الموقف الإسلامي من أجل تعريف العالم والغربي منه خاصة بالشخصية التي أساء إليها، وأن هذه الشخصية تحمل الكثير من القيم والرؤى الإنسانية الكبرى، وأن هذه الشخصية جاءت لخلاص الإنسانية من ظلمات العبودية والجهل والفقر والتخلف والظلم، كما أنها تدعو إلى التسامح والعفو والتعايش السلمي واحترام وجهات النظر الأخرى، وكما أنه لا يدعو إلى احترام قيمه الخاصة وحسب، وإنما يدعو احترام الأديان والأنبياء الآخرين بل يدعو إلى تقديسهم أيضاً، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، فيعتبر أن الانتقاص من قدر أي نبي كان هو خروج دائرة القيم التي بشّر بها النبي الأكرم محمد قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285)، فمقتضى الإيمان بالرسول الأكرم أن يؤمن برسله دون أي فرق يذكر.

هذه هي بعض القيم التي بشّر بها رسولنا الأكرم ، والسير على نهج يدعونا إلى الأخذ بهذه الرؤية في معالجة الأمور، دون الإنجرار إلى تلك الأساليب العنفية، إن على مستوى القول، أو على مستوى الفعل، لأن ذلك مما يشوّه الرسالة، ويقضي على القضية، وينفّر عنها.

المسلمون اليوم يمرّون بمرحلة ينبغي لهم أن يستثمروها جيداً في خدمة قضاياهم بالتي هي أحسن، قرأت مؤخراً بأن رجل أعمال أبدى استعداده لتمويل موقع على شبكة الانترنت بعدة لغات للرد على الإساءة التي تعرّض لها الرسول، وأظن أنه كان من الأجدى بدل الرد، التعريف بالإسلام الأصيل، البعيد عن التشويه، خاصةً وأن المسلمين مرّوا بمرحلة عصيبة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ونالهم جرّاء ذلك حملة كبيرة من التشويه، ما زلنا نعاني من آثارها السلبية حتى يومنا هذا.

من هنا ينبغي أن نستثمر التعاطف الذي يبديه البعض تجاه الإسلام باعتباره لم يكن هناك من داعٍ إلى نشر تلك الرسومات، كما ينبغي استثمار هذه اللحظات التي قد لا تتكرر قريباً، هذا الاستثمار الذي يمكن أن يتمظهر بمظاهر شتى، كأن يكون من خلال إنشاء صحف أو فضائيات أو مواقع على شبكات الإنترنت، بلغات تلك الدول تعرِّف بالإسلام، أو عقد مؤتمرات وإقامة ندوات ولقاءات، وإرسال مبلغين يوضحون الصورة المشرقة للإسلام.

وهذا في ظني هو الرد الاستراتيجي، الذي سيخدم الإسلام على المدى البعيد، فالمقاطعة وإن طالت فآثارها وقتية، لذا من الحكمة أن ننظر إلى الأمور نظرةٍ بعيدة كل البعد عن الانفعال المجرّد، فمن منا لا تستفزه الإساءة إلى أقدس مقدساته، لكن من جانب آخر ينبغي أن يصاحب الانفعال صوت العقل والحكمة.

كاتب ( السعودية )