عَالَمْ يذوب في قصة ..
(مهداة إلى روح والدي رحمه الله)
نتوه في الحياة لتسحبنا دوامتها الواسعة نحوها عبر خيوط رفيعة لا نكاد نحسها بكل قوة وعمق، وبدون أن نعرف لنا محطة أخيرة نتوقف عندها ونستقر ، نجد أنفسنا وقد استفقنا فجأة من رحلة طويلة وسُبات عميق وكأن هناك من صب دلواً من الماء البارد فوقنا وسط جو شتوي قارص لينبهنا من غفلة كانت تسكننا، فترتعش أوصالنا معه .. ونبدأ نتعثر حتى نقف على أرض صلبة .
منذ مدة طويلة ما يقارب السبعة عشر عاماً تقريباً أو ربما أكثر لم آتي إلى هنا، أشياء كثيرة تغيرت في ذاكرتي وقد تتبدل معالم الأبنية والطرقات فما بالنا بالحياة والأحياء أنفسهم .. غلبني الحنين إلى أجواء هذه الأماكن ودفئها المعهود، لم أدخل هذه "الحُسينية" منذ مدة ربما منذ أن كنت شاباً في الثامنة عشرة من العمر غير مرات قلائل ، فقد شغلتني دراستي في الخارج وزواجي و ابتعاثي المباشر بعده للعمل بفرنسا لأستقر هناك ، عشت هناك مدة أراها طويلة ، طويلة للغاية لدرجة أنها قلصت ذكرياتي في زاوية محدودة عن الأماكن والناس وبعض الشعائر والطقوس التي كنت أعرفها .. فبدت خالية منها تماماً.
لكن والدي الذي يملأ الذاكرة كان يدخلها دوماً .. بل كان يقوم بمهامها على عاتقه فهو يحب "الحُسين" وخدمته، ورغم مرضه كان يرى أن العافية تدب في أوصاله فجأة حين يقوم بشيء لخدمة مجلس أو عزاء أو قراءة حسينية .
ومع ندرة زياراتي للبلد في شهر محرم فقد كنت أعرف أنه ينشغل به تماماً خاصة في العشرة الأولى منه، وبالرغم من توصياتي له أن لا يرهق نفسه كثيراً حين كنت أهاتفه، إلا أن كلماته لي عن "الحُسين" كانت مليئة بالري والشبع معاً، تشعرك أنه بخير وكأن هذا الرجل لا يحتاج بعدها لا لطعام أو شراب ، لا زلت أذكرها حتى الآن وكأنها نسيم يعبرني :
- "آه يا ولدي .. حب الحُسين هو العافية وهو جلاب العافية .. صدقني لا أحتاج معه لزيارة طبيب ولا لأخذ دواء .. والبكاء على الحُسين نقاء وطهارة من الذنوب .. والعمل لأجل الحُسين شرف تنال درجاته في الدنيا قبل الآخرة".
وعبثاً كنت أعيد محاولاتي معه .. وبالنسبة لي فقد تعلمت منه بأن أُحب الحُسين، كما تعلمت منه أن حُبه طريق سهل وسريع للجنة ومن حبه يمكن أن أشم رائحتها.
رحمه الله ، كان ملازماً لهذا المكان لم يفارقه غير أن المرض هو من أقعده عن المواصلة .. قررت بعد وفاته أن أعود، فكم بقي في العمر من سنوات لأفقد فيها أحبابي دون أن أودعهم وأملأ عيني من رؤياهم، وكان هذا أيضاً رأي أختي وأمي وهما ما تبقى لي من رائحته، عدتُ قبل عام منذ أن توفي والدي وها أنا ذا ألملم أشلاء الذكريات التي باتت شبه مبهمة في نظري أما بالنسبة لأولادي فأنا أحاول أن أعلمهم أيضاً ، لذا حزمت أشيائي وعدت بأسرتي سريعاً، وكانت زوجتي هي الأكثر بهجة بالعودة أما بناتي فقد كن يعتبرن الأمر رحلة جديدة وبصراحة ، خفت على "عزيز" ابني الأكبر ذو السنوات العشر، بأن يهجر الجنة وطريقها دون أن يعرف إن ظل بعيداً عن رائحتها ، أما البنات فأمرهن يبدو لي سهلاً لا أخشى منه شيئاً، أعمارهن صغيرة وحبهن للحُسين سيكون فطري كما تقول أمي .
اليوم هو السابع من محرم ، مجلس واحد أستمع إليه سيكون كفيلاً بتحريك الذاكرة لتتفاعل المشاعر معها بصدق ونقاء .. جلست و"عزيز" إلى جانبي في مكان دافئ وقريب يمكننا أن نستمع فيه للقراءة ومن ثم المحاضرة ، وكانت أسئلة "عزيز" لي كثيرة عن الحسين وعن العباس وعن أحداث معركة محرم عن وعن ...وعن ...أشياء كثيرة ناقشها معي الفترة الماضية.
أنا أُدرك جيداً بأن أي صبي في مثل عمره من الطبيعي أن تستثيره قصص وأسئلة كثيرة خاصة وأنه يحضرها لأول مرة وقد بدأ للتو يعرفها .. لذا سيطرح الكثير من الأسئلة حولها، وإن كان يستمع لي في الماضي مع أخواته حين كنت أحدثه بعجالة عن شيئاً منها، فالسمع مهما كان يختلف عن المعايشة .. أعرف أن الأجواء نفسها ستشكله وتصنع تكوينه وملامحه النفسية، لكني أخيراً استطعت عقد اتفاق معه على أن يكف حالياً عن إثارة الأسئلة وإذا لم يستوعب درس القراءة للسيّد الخطيب ولم يفهم محاضرته فيمكنني الحديث معه عن الأمر بتوسع بعد عودتنا للبيت ، استجاب عزيز لي وبقي هادئاً بحيث وفر لي مساحة واسعة للتفكير .
نقرات خفيفة من التأمل أخذتني لأسافر معها إلى حيث الأماكن التي انقطعت عنها طويلاً ، والناس المتوافدون عليه بكثرة ، والشيخ المقرئ وهو ينعى بصوت قوي مؤثر فيملأ الأجواء بأنفاس صادقة معبرة فلا يملك المرء معها غير أن يعيش الحدث ويذوب فيه .. ساد الصمت أنحاء المكان والتصق كلاً بمكانه بهدوء متناغم، وحين بدأت القراءة انطفأت الهمسات وابتلعت الأصوات معها.. وهاهي فناجيل القهوة الدائرة تصطك ببعضها وكأنها تتجاوب معهم هي الأخرى ، وهامات الرؤوس تطرق نحو الأرض بانكسار أليم احتراما لما تسمع ، والأنفاس تهمد كلها وتبدأ في الهمهمة و البكاء تجاوباً معها، بل حتى الأطفال الذين هم في سن أصغر من عزيز لا تكاد تسمع لهم حساً ، الكل ينصت ليستمع للأحداث .. بقيت أتطلع للمشهد طويلاً وكأنما آثرت أن أبقى هكذا سارحاً بتأملاتي في ملكوت الأحداث .
"انه عالم كامل يذوب في قصة .. قصة سحرية لها جذب غريب في النفوس وفصولها لا تكاد تنتهي رغم تباعد زمانها عن هذا الزمن ، لها حرارة في القلب وكأنها حدثت بالأمس فقط ، وعشاقها يملئون الدنيا في كل مكان يصرخون بحب الحُسين وأصحاب الحسين وأهل بيته وتضج مشاعرهم لهفة وحرقة عليه ،، عالم مكون من النساء والرجال ، الشيوخ والأطفال، الجهلة والمتعلمين الأغنياء والفقراء ، رجال الدين والناس العاديين ، كل ما يجمعهم هو حب الحُسين وعشقه !" .
وفي الوقت الذي كنت فيه سارحاً أخوض تأملاتي بعفوية ، أقبل رجل مُسن يشق طريقه من بين صفوف المجتمعين ليصب لهم القهوة .. فجأة قفزت من وجهه صورة والدي فحسبته هو للحظة .. "ما أشد الشبه بينهما !!"، كان والدي وحتى عهد قريب يصب القهوة في الفناجيل ليوزعها أيضاً على صفوف المستمعين هنا ، تذكرت كلماته التي كان يقولها لي دوماً، " لا تخلو مجالس الحسين من روادها ، كذلك لا تخلو من القائمين عليها".
حين أقبل الرجل صب لي بيده المرتعشة شيئاً منها ، فأشرت له بأني لا أريد ، انصرف عني لآخر وبدأت أستحضر صورته من ذاكرتي، إنه هو صاحب والدي أو غريمه !، لم أكن أدري ما هي بالضبط جذور الخلاف بينهما، لكن كل ما أعرفه أنهما كانا في تنازع حين كنت ما أزال أقيم هنا، ولم يكن أحدهما يستطيب الحديث عن الآخر ..
رحت أتأمله وسط الجو الذي أعيشه لقد مضى زمن طويل ، تغير الرجل كما يتغير كل شيء في الحياة، أظن أنه كان أطول وأعرض مما هو عليه الآن، يبدو لي وكأنه مُنحني الظهر .. إنه الزمن وتفصيلاته ! ، وحتى معالم وجهه ونحوتها القاسية تبدلت عما كانت عليه سابقاً، العجيبة أني كنت أراه أكثر صرامة وشدة، ربما أخذتُ عنه هذا الانطباع لأني أدركت جفائه الطويل مع والدي، بعضها كان متعلقاً بإدارة شئون هذا المكان وتقرير أمور تخصه وبعضها الآخر لم أكن أعرفه، أعتقد أني سمعت والدي مرة يتكلم عن حرج سببه له على ملأ من الناس حول بعض السجادات والدلال التي كان أحدهم سيهبها للحُسينية عن طريق والدي، فعارضه هو ورفض استلامها وخاطبه بلهجة متهكمة أمام جماعة من الناس"الحُسين ليس بحاجة لبواقي الاستخدامات" ، أحسستُ حين قص عليِّ والدي ما جرى له ذاك اليوم بحجم الإهانة البالغة التي شعر بها ، قال لي مُقسِماً آخر النهار:
- " والله يا بني، أنا لم أفكر بهذا الشكل ، سألني عن الأمر رجل كان يرغب في التبرع بها، فقلتُ له يمكنك ذلك فالحسينية كبيرة وتحتاج إضافات من المؤمنين" .
لم أواسيه بالكثير وقتها .. ربما لأني أيضاً شعرت بحرجه وطالني ما طاله من ألم، فشل لساني عن الكلام كما شل لسانه عن الدفاع عن وجهة نظره، كل ما قلته له ساعتها :
- "إنه ليس من حقه فعل ذلك وليس من حقه أن يقرر عن الحُسين ماذا يقبل وماذا يرفض من مواليه، وليس الجميع قادر على شراء الجديد حين يريد أن يهب شيئاً من نفسه للحُسين".
نبهني صوت السيّد وهو يتحدث عن العباس عليه السلام وكيف كان يفتدي أخاه الحُسين بنفسه يوم عاشوراء بصورة قوية تمتزج فيها أسمى المعاني الأخوية بالإيمانية ، وتغلفها الرحمة والإنسانية وسط سجالات المعركة الحامية التي خلدتهم كرموز دينية وعقائدية قوية وخلدت مواقفهم في ملحمة تاريخية عظيمة هي ملحمة كربلاء ، بقيت استمع لأحداث القصة مع الخطيب وأنا أتابع تحولات التاريخ المشئوم ، وفكرت في العلاقة الأخوية التي كانت تجمعهما ، فقد كان والدي وهذا الرجل صديقين يوماً !
استغربت وأنا أربط خيوط القصة ببعضها البعض من أن يدب الخلاف بينهما على أمور أساساً هي تنتهج سياسة التلاحم ونبذ الخلاف ، حقيقة لستُ أدري إن كان هناك فعلاً بذور أخرى قد بُذرت بينهما من قبل أم لا .. لكني أعتقد أن الأمر يناقض ما يهتما لأجله .. يفترض أن يلفهما حب الحسين وقضيته لا أن يبعدهما عن خطه ! ..
عاد الرجل من جديد يدور بمشروب آخر التقت عيناي بعينيه عدة مرات وفي كل مرة كنت أسقطهما بعيداً عنه بسرعة ، كنت أتحاشى رؤيته حتى لا يعرفني رغم كوني أكيد بأن السنوات غيرت من ملامحي عليه، لم أدري ماذا يفترض بي قوله له ، حمدت الله أن أحدهم ناداه باسمه ليباشر أمراً ما بنفسه .
التفت لأبني "عزيز" ووجدته هو الآخر قد أطرق نحو الأرض وإلتماعة فضية شفافة تترقرق من عينيه شعرت بدفء مشاعره وتبسمت له بود .
إذاً .. فقد بدأ "عزيز" ينضج وبدأت مشاعره تنمو بشكل عفوي وصحيح .. وعرفت ساعتها أنه لن يحتاج لتوضيح كبير مني حين نعود للبيت .
بعد انتهاء المجلس قمنا للخروج وعند الباب كان العجوز واقفاً يوزع مغلفات صغيرة على الناس ومعه آخرين أُعدت خصيصاً لهذه المناسبة "ليلة العباس" ، وحين وصلتُ إليه نظر لي وهو يترحم على والدي قال لي كلاماً متزاحماً وهو يدس في يدي أحد المغلفات الصغيرة ويشد عليها بعمق حين كنت واقفاً معه عند منتصف المدخل :
- "رحم الله والدك يا بني ، كان رجلاً مؤمناً، ظل طيلة حياته خادماً مخلصاً لأهل البيت عليهم السلام ولم يتوانى عن خدمتهم حتى لحظاته الأخيرة ، وقد كنا يوماً صديقين حميمين نتقاسم العمل على خدمة الحسين وحبه هنا".
رفعت وجهي إليه بغتة ونظرت إليه .. كان وجهه مشعاً ويحمل فيضاً من الذكريات المشحونة تتدافع في بريق عينيه بعفوية .. وكانت أحرفه ترتعش بين شفتيه بصدق طاهر .. لم أستطع أن أرد عليه بشيء، فقط اكتفيت بالابتسام وبهز رأسي وكان عليَّ أنا الآخر أن أتجاوز أحرفي المضطربة أمامه فحركت شفتي بكلمات مهذبة سريعة وأنا انصرف عنه بدهشتي .
بعدها مباشرة طوقت "عزيز" بيدي وخرجت وأنا أتساءل .. كيف أمكنه أن يعرفني بعد كل هذه السنوات ، وماذا كان يعني بحديثه معي .. هل يعني هذا أنه تصالح مع والدي في السنوات الأخيرة .. أم أنه الموت وفلسفته .. فهو وحده من يُلهم المرء الحكمة ويعطيه الفرصة لمراجعة نفسه وإعادة حساباته مع الآخرين .. أم تراه يكون الحُسين وحده الذي يبقى بملحمته الخالدة مع أصحابه منارةً ونبراساً لنا ، يُعلمنا ويعطينا الكثير من الدروس حين نعيش قصته ونذوب بعمق بين فصولها، فتتلاشى منا تعرجات النفس التي تظهر حجم وصلابة عنادنا !.
محرم / 1427هـ