معلم القران تبكيه البسملة

كتبت هذه الكلمات المتواضعة  بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك لهذا العام وحيث أن شهر رمضان هو شهر القرآن فيعز علينا أن نتذكر من حملوا القرآن في قلوبهم بين المرحوم الحاج علي بن منصور الصايغ «المعتوق» «أبو عباس»أيديهم وجعلوه أمامهم يستنيروا بنوره ويتعلموا منه الكثير ويعلموه، ويتتلمذ على أيديهم الكثير من القراء، وها نحن نعيش هذه الأيام المباركة مع القرآن الكريم، وأجد في نفسي التواقة لرضا الله تعالى أن أقدم بين يدي القارئ الكريم هذه الكلمات المتواضعة والقليلة والتي أعبر فيها عن مدى حبي العميق لقارئ القرآن ومعلمه العم المؤمن وفاءَ لفضله وطيب نفسه وجميل خلقه وسماحة نفسه ، الحاج علي بن منصور بن محمد الصايغ  (المعتوق ) ( أبو عباس ) رحمه الله تعالى، الغائب الحاضر في قلوبنا جميعاً، وهو من أهالي جزيرة تاروت محافظة القطيف حي الخارجية، بعد أن عانى ما عانى من المرض الذي صاحبه طوال هذه السنوات، بعد أن هدَ قواه، وأنحل جسمه، وأضعف بصره، وجعله جليس الفراش يكابد الألم، نسأل الله أن يسكنه الفسيح من جنانه ويحشره مع نبي الرحمة محمد اللذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ..

      هناك أشخاص جاءوا إلى هذه الحياة وعاشوا ما عاشوا من العمر لدنياهم دون آخرتهم، ودون أن يتركوا للآخرين ما ينتفعون به من عمل صالح أو فضيلة حسنة أو كلمة طيبة، فأصبحوا من الذين انتهت سنيهم وانتهت معها سيرتهم فليس لهم ذكر بين الناس أبداً، بينما هناك من عاش وأحيى الحياة بعيشه وأعطى للحياة قيمة ومعنى وبعد مماته بقية أعماله الصالحة وبقى ما حمله من الصفات الطيبة  يذكره الناس بها ويترحمون عليه، والتاريخ يحدثنا عن الكثير من الشواهد بين من عمل لآخرته فقط وترك الدنيا ومنهم عمل للدنيا وترك الآخرة وبين من عمل لدنياه وآخرته معاً، منهم من مات ولم يبقَ له أثر حيث أنه لم يخلف له ذكر حسن بين الناس !!، ومنهم من رحل ولكنه ترك ما عمل من أجله لينتفع به الناس، من الأعمال الخيرية أو صدقة جارية أو ابن بار يدعو له قد تربى تربية صالحة، إذا رأى الآخرون صلاحه وجميل خلقه تذكروا أباه بالخير وطلبوا له من الله تعالى الرحمة وعكس ذلك إذا ترك ابن غير صالح وتأذى الآخرون من سوء أفعاله قد يصل الأمر بالبعض إلى الدعاء عليه وعلى أبيه وكما في الحديث الشريف ( إذا مات ابن أدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له ) من هنا نتوصل إلى قيمة عمل الإنسان المؤمن، فالإنسان المؤمن يصنع القيم النبيلة ويجعل منها محطة ليتزود منها الآخرين،  وفي هذه السطور المتواضعة أجد في نفسي القاصرة الرغبة لكتابة شيء من هذا القبيل، فمجتمعنا مليء بمثل هذه النماذج الطيبة  ولله الحمد، وأنا سأتحدث عنه لإيمانه وورعه وتقواه، فهو رجل صالح من الذين يفخر بهم مجتمعنا فينبغي منا ألا  ننساهم وأن نتعلم من سيرتهم ولا ننسى فضائلهم .

      قبل رحيله وكما هي عادته رسم لنا فضيلة حباً ومودة وهي عادته التي عهدناه بها، وهي من العادات الجميلة التي ما يزال يتمتع بها الكثير من أبناء مجتمعنا ولا سيما الآباء والأجداد منهم، فإذا كانت لديهم نية السفر نجدهم وقبل أن يشدو الرحال يشيعون خبر سفرهم بزياراتهم الأخوية وضيافتهم للأهل والأقارب حتى يتسنى للنفس التزود والتسامح وطلب الرضا، ففي ذلك رضاً لله تعالى ويجعل الله فيه البركة والتوفيق ويكون ذلك السفر سفراً مباركاً وموفقاً بدعوات المؤمنين ،، هكذا صنع العم فقبل أن يغادر هذه الحياة الفانية وفي أيامه الأخيرة وهو على فراش المرض ،، الفراش الذي تحول إلى مكان للعبادة والذكر والتسبيح، لا يفتأ أن يذكر أخوانه بالسؤال عنهم والدعاء لهم ويبكي لشوقه لهم ولعله كان يبكي لشعوره بفراقهم، وكما هي عادته الطيبة التي كان يحرص عليها مع الجميع طلب من أبنه ( عباس " أبو أحمد " )  أن يذهب به لزيارة أخوانه الثلاثة، لينظر لهم النظرة الخيرة وكأنما ذهب يودعهم ويرسم على شفاههم ابتسامة الرضا ويضفي على قلوبهم نسيم الحب الأبدي، ليحظى بشربةٍ يهنئ بها ويرتوي ..

      وأما بعد رحيله إلى الرفيق الأعلى حيث اجتمع المئات وكلٌ منهم يكتسي ثوب الحزن والألم حضروا ليحملوه كرامة من الله تعالى له أحفه بها ،، فلم يكن هذا وداعاً أبدياً حين ما حملته الكفوف إلى مثواه الأخير،، فليس للوداع مكاناً وهو يسكن في كل قلب،، نعم  .. هكذا هو حال الإنسان المؤمن إذا أكرمه الله تعالى يتحول ذكره إلى سلوى بل إلى عبادة وأي شيء أفضل من التحلي بمكارم المؤمنين ، فهم نموذج للفضيلة والتقوى، عاداتهم الحسنة والطيبة، تواضعهم ومحاسن أخلاقهم، عبادتهم وتقواهم ،، وهكذا هو حال هذا الرجل المؤمن تجده يسكن في كل قلب بكلماته الطيبة ونورانية وجهه الباسم وطهارة قلبه المفعم بالإيمان والتقوى فقد حظي بمئات المؤمنين يحملوه بقلوبهم قبل أيديهم الجميع كان حاضراً ليتودع منه ويلقي عليه النظرة الأخيرة قبل تشييعه،، نعم وبنضرة روحانية خافتة مع السكينة واحتباس الألم تاها فكري في البساطة التي لا يتكلفها في تعامله وطريقة المشي التي تعانق الوقار وتزين الروح وتجلب الهيبة،  نعم !! رأيت نور البسملة يعانقه فرحاً لمرافقته، يحفه بهالته النورانية وهو مسجى بين أهله وأحبته،، وعلى ألسن المحبين له يحتفي به القرآن الذي لم يفارقه طوال عمره، يستمع آيات العشق الأبدية التي طالما نور بها قلبه وأحيى بها نفسه الخالدة في ذاكرة الزمن، ليبقى يتلألأ في كل قلب ألتقاه وصافحه بمشاعر الحب والمودة وعقد معه تحية التراحم ، هذه القلوب الموجوعة بفراقه حملته على أكف الحب مودعةً إياه تلامس كفنه بين حين وأخرى تزفه لداره الجديدة التي عمرها بالكلمة الطيبة والبسمة الحانية وحبه الأبوي لكل الناس،، هذه القلوب التي حملته منذ التقته هاهي اليوم تلامس براحتيها تراتيل عشه المتناغمة تتأمل لكلمات البسملة التي كان يرددها صباحاً مساء، والتي طالما طرق بها باب الرحمة الإلهية ليتزود بها التقوى وتعلم منها الخلق القرآني ومنها ،، أنه لم يكن يقبل بغيبة أحد في مجلسه أو النيل من أحد في محضره بل كان متسامحاً لا يأبى بما يقال في حقه ولكنه لا يقبل بذلك في حق الآخرين ، وقد كان معطاءً يحمل في نفسه هم الضعيف ويستشعر حاجة المحتاج إذا جاء طارقاٌ بابه فلا يأكل حتى يشاركه جاره في ما أعطاه الله من الخير، بل كان مبادراً لعمل الخير قبل أن يطلبَ منه، والكثير الكثير  مما يجد فيه رضاً لله تعالى متطلعاً لسنحات وجهه الكريم خالق الكون والحياة لينال به الأجر والثواب، وكان محافظاً على الصلاة في المسجد ولا يترك صلاة الجماعة مهما كانت ظروفه وحتى أثناء مرضه كان يطلب من ابنه أن يوصله إلى المسجد، وفي رمضان وعلى شدة مرضه وألمه والطلب والإلحاح منه بعدم الصوم، فكان يقول رداً عليهم إني أعلم بحالي منكم فأنا أستطيع أن أشخص حالتي وأني قادرٌ على الصوم،وإذا لم يتمنكن فهو ينشغل بالعبادة والاستغفار والتضرع إلى الله تعالى، وأما عن عطفه وما يضمره من المشاعر الوردية لكل الناس فالشيء الكثير وأنقل هنا مشهداً من المشاهد الكثيرة التي كنت حاضراً فيها وهو ما جرى في لبنان وما يجري في فلسطين المحتل فضلاً عن ما يجري في العراق من الظلم والقتل وتهديم المنازل والتشريد، فلا يمر عليه يوم ويرى مثل هذه المشاهد إلا ويبكي بكاءً شديداً وهو يتألم وكأنه حاضراً هناك، كان يشاركهم مصائبهم بمتابعاته لأخبارهم وبدعائه لهم وببكائه على ما يجري عليهم، ومن المواقف الجميلة التي تحلى بها في ذاته وترفع فيها عن ملذات الدنيا، عندما تعرض أبن أخيه المرحوم ( أبو مهند ) لمرض وقد كان بحاجة للعلاج خارج البلاد وقد كان بحاجة لمبلغ كبير من المال جاء بما لديه من المال ووضعه تحت التصرف للعلاج دون أن يطلب أي ضمان وهذا من الفيوضات الأبوية الحانية التي عطف بها على الجميع وذلك في سبيل أن يعود أبن أخيه سالم معافى، وتعود البسمة والفرحة إلى قلب أخيه وإلى العائلة كلها ويكون شريك في هذا العمل الإنساني ويحظى بالأجر والثواب، وقد فتح داره لتعليم تلاوة القرآن الكريم حتى تخرج على يديه الكثير من الأبناء، واليوم نجد الكثير منهم اليوم يشاركون في قراءة القرآن الكريم وذلك في المناسبات الدينية كشهر رمضان المبارك، وقد كان يجمع بين تعليم القرآن الكريم والصلاة، أدأبها وواجباتها ويحث على المحافظة عليها والحث على الدعاء للوالدين فيها وللمؤمنين، بهذه الخصال الحميدة كان يتميز على غيره من سائر الناس، لذلك فالجميع كان حاضراً  يمشي مع جنازته بحزن وأسى، والجميع كان حاضراً يشارك في الصلاة والدعاء له بطلب المغفرة والرضا وأن يجمع بينه وبين محمد وآل محمد الذين طالما تشرف بحبهم وتمسك بحبلهم وجعل من منزله مكاناً لاحيا أمرهم اقتداء بقول الإمام الصادق  (  أحيوا أمرنا رحم الله من أحياء أمرنا  ) وهنا أذكر له موقف جميل وهو من المواقف الرائعة التي تنبئ عن مدى حبه للرسول وأهل بيته الأطهار، في أحدى المرات بينما كنت أصلي صلاة الصبح بعد أن هو انتهاء من صلاته ذهب للاسترخاء قليلاُ وبينما أنا أصلي كنت قد اكتفيت بالذكر الواجب فقط في الركوع والسجود فقال لي : كلمات ما تزال تسكن في قلبي وتحرك وجداني وتبعث على التمسك بما فيه الخير والمنفعة قال : لا يوجد أفضل من الصلاة عليهم فمن الأفضل أن لا يفرط الواحد منا ولا يتعود على عدم الصلاة عليهم فهم البركة التي نتنفسها ونحيا بها،، هكذا هو الموروث الحقيقي الذي كان يحمله ويتغنى به ويجاهد من أجله في محبته لأهل بيت العصمة والهارة وهو مؤشر من المؤشرات التي كان ينير بها المساحات المظلمة في تعامله مع الناس، فولائهِ راسخ يحمل المودة للرسول وأهل بيته عليهم أفضل الصلاة والسلام و كذا لأبي الأحرار الإمام الحسين فقد طلب في وصيته إذا حضرته المنية أن يوجه نحو كربلاء ويزار بزيارة الإمام الحسين في يوم عاشوراء وهذا من علامات الإيمان الحقيقي الذي ينبع من وعيه الديني وحقيقة معرفته بالإمام الحسين وسيجد الإمام الحسين أمامه يأخذ بيده أنشاء الله تعالى وسينال الشفاعة المستمدة من رحمة الله تعالى تضلل عليه يوم لا ينفع مال ولا بنون فقط العمل الصالح هو الذي يبقى مع الإنسان، لذلك الجميع كان هناك يقف أمام قبره يعانق بنظراته اللحظات الأخيرة ويتأمل في ذاته هل هذه نهاية كل إنسان وهل سيحظى كما حظي هذا الرجل المؤمن بجموع غفير تحمله وتزفه إلى قبره، وما هي إلا لحظات حتى بداء الملقن يلقنه والجميع يسمع ويتأمل حقيقة أن حب أهل البيت ومودتهم تلازم مع الإنسان المؤمن إلى قبره برجاء للشفاعة، وبداء المؤمنون يهلون على قبره التراب ويرتلون بترتيله سور النور سور الرحمة، ويقرؤون له سورة الفاتحة والتنزيل ويهدون ثوابهما لروحه الطاهرة، ويودعونه بتوديع يحمل الحزن والأسى بعد أن صبوا على قبره رشاش من الماء لاستحباب ذلك حتى تتنزل على قبره الرحمة الإلهية ويبقى هذا العمل ذكرى طيبة بينه وبين من يحبه،، فرحم الله تعالى أبو عباس .